قال فضيلة الشّيخ محمّد المأمون القاسميّ الحسنيّ، عميد جامع الجزائر، إن ذكرى مولد النبيّ المصطفى المختار، عليه الصّلاة والسّلام، تعد محطّة تدبّر واعتبار، وهي لا تثمر ثمرتها ولا تحقّق فائدتها إلّا إذا أوجدت في نفس الإنسان ما يدفع به إلى هدى، أو يصدّه عن ردى.
وأكد الشّيخ محمّد المأمون القاسميّ الحسنيّ، في خطبتي الجمعة بجامع الجزائر، ليوم 02 ربيع الأول 1446هـ، الموافق 06 سبتمبر 2024م، بمناسبة حلول شهر الأنوار، أنّ المسلمين اعتادوا على إحياء ذكرى المولد النبويّ الشريف. وأن “الاحتفال به، صلّى الله عليه وسلّم، لا ينبغي أن يكون متكلَّفا أو مصطنعا، لا يليق بالنفع الدافق الساري من نوره؛ ولا يتلاءم مع الرسالة التي بعث بها لإخراج النّاس من ظلمات الشرك إلى أنوار التّوحيد”.
وشدّد على أنّ “الحديث عن رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، حديث لا يملّ، مهما يطل أو يتكرّر، “وما أحلى مذاق الشهد وهو مكرّر”، مضيفا أنّ “الحديث عن صاحب الرسالة قد ملأ الدنيا وشغل الناس، منذ حمل أعباء الرّسالة، وحُقّ له ذلك. إنّه حديث عن مكارم الأخلاق، في أسمى معانيها، وعن الأسوة الحسنة، في أطهر مجاليها. وجدير بذكراه أن تكون حيّة في نفس كلّ مؤمن، لا تبرح عقله وقلبه، ولا تغيب عن خاطره، في كلّ وقت وحين”.
وأكد السّيّد العميد أنّ رسالته، صلّى الله عليه وسلّم، “أعادت للفطرة شفافيّتها؛ وأزالت ما تراكم عليها من صدإ الباطل وظلام الجهل والوثنيّة والضلال؛ وغيّرت دعوته مجرى الحياة الإنسانيّة كلّها. فقد أثّر في أهل ملّته وأتباع شريعته، كما أثّر في خصوم الحقّ وأحلاف الضلالة. وإذا كانت ذكرى مولد صاحب الرّسالة، عليه الصّلاة والسّلام، مناسبة للتعرّف على سيرته الكريمة، والاهتداء بأنوارها، فذلك هو التوفيق في القصد، والعمل الصّواب”ّ. مضيفا: إنّنا، في مثل هذه المناسبة، مدعوّون إلى أن نتأمّل في وضيء سيرته، لنقتبس منها ما نداوي به نفوسا طال أمد مرضها، وعزائم تراخت وفقدت صلابتها ومضاءها، وأذواقا أفسدتها تخمة النعيم الماديّ، حتّى ننهض بثقل المسؤوليّة الملقاة على عاتقنا في تقديم دين الإسلام للبشريّة، بصورته النّاصعة، وقيمه السامية، وفي سماحة دعوته، وكمال شريعته. إنّ فئات من المنتسبين الى الإسلام يقدّمون أسوأ صورة عن النبيّ الكريم، وينفّرون بسلوكهم في احتفالاتهم بمواسمهم وأعيادهم، وفي حياتهم العاديّة؛ وبذلك يحرمون النّاس من نور الهداية المحمّديّة، ويحولون بينها وبين الانتشار في المجتمعات البشريّة.
وشدّد فضيلة الشّيخ على أنّه “لمّا كان النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، هو المُنبِئ عن كلمة الله، الموضّح لوحيه، الحامل لهدايته، كان حبّه أصلا من أصول الإيمان، لا ينفكّ عن حبّ الله؛ ولا يؤمن أحد حتّى يكون حبّه لله وحبّه لرسوله حبّا راسخا في النفس، متمكّنا في شعابها”.
وقال: إنّه لا يؤمن أحد حتى يكون رسول الله أحبّ إليه من نفسه التي بين جنبيه، ومن أهله وماله والناس أجمعين. وإنّما يصدق حبّه في اتّباع شريعته، والذّود عن ملّته، والنّصح لأمّته، والسعي لتطبيق ما جاء به عن ربّه. قال تعالى: “قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين” (سورة التوبة الآية 24)، هذا كلام الله، يدعو نبيّه أن يعلن هذه الحقيقة: إنّه الاختبار الفاصل بين خيط الإيمان وما يتبعه من ثواب ووعد بالتكريم، وبين الكفر وما يتبعه من المهانة وسوء المصير. والاختيار في الاختبار الذي يتعرّض له كلّ إنسان في مجال الحياة.
وأضاف: الإيمان، لشرفه العظيم، لا يقبل أن يخالطه غير مادّته. فإمّا إيمان، وإمّا كفر. فقد يتعارض حبّ الله وحبّ رسوله مع علاقة القرابة، في علاقة الوالد بولده، وفي علاقة الولد بالوالد، أو في علاقة الزوجة بزوجها، أو في علاقة الإنسان بأهله ووطنه. فهي فتن يتعرّض لها الإنسان؛ يدعوه إيمانه إلى مواقف، وتدعوه عاطفة القرابة إلى مواقف؛ فأيّهما يقدّم؟
ومن جهة أخرى، أكد الشّيخ محمّد المأمون القاسميّ الحسنيّ، أنّه في مجال الاختيار، ليس هناك حلّ وسط؛ فإمّا حبّ لله ولرسوله، وإمّا حبّ القرابة أو الزوج أو العشيرة أو الوطن، أو الجاه والسلطان. إنّ حبّ الله وحبّ رسوله مقدّمان على كلّ شيء من الأهل والمال والتجارة، والمسكن الّذي يبنيه الإنسان، أو الّذي يريد أن يملكه. ومن ضَعُف في مجال الاختيار، فآثر غير الله ورسوله، فالوعيد هو الهلاك والخسران. كذلك قال الله، جلّ في علاه: ” فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين “.