الخطبة الأولى
الحمدُ للّهِ ناصِرِ المَظلُومِينَ، ومُنْجِي المُستَضعَفِينَ، وقاصِمِ الجَبابِرَةِ والمُتَكَبِّرِينَ، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللّهُ وحدَهُ لا شَريكَ له، وَلِيُّ الصّالحين، وَعَدَ عبادَهُ المؤمنينَ بالنَّصْرِ والتَّمْكِينِ، فقالَ سبحانَهُ: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [القصص: 5 ــ 6]، وأشهَدُ أنّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا رسولُ اللّهِ، إمَامُ المُجَاهِدِينَ، وقَاهِرُ الكَفَرَةِ والمُشرِكِينَ، اللّهمّ صَلِّ عليهِ وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ أجمعينَ، والتَّابعِينَ لهم بإحسَانٍ إلى يومِ الدِّينِ، أمّا بعد:
فأيُّها المُؤمِنون: كثيرَةٌ هي نِعَمُ اللّهِ عزَّ وجلَّ، أَسْبَغَهَا وبسَطَهَا على عِبَادِهِ، قال تعالى: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ [لقمان: 20]، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل: 18]، ومن هذه النِّعَمِ العظيمَةِ الجليلَةِ نِعْمَةُ الاستِقلَالِ والحُرِّيَّةِ التي يُقدِّرُهَا حَقَّ قَدْرِهَا أولئِكَ الذين سُلِبَتْ منهم، وَعَاشُوا فَتْرَةَ الحرمَانِ، وذَاقُوا مَرَارَةَ الذُّلِّ والاستِعبَادِ، وعَانَوْا حَيَاةَ البُؤْسِ والشَّقَاءِ في ظِلِّ الاستِدْمَارِ، فهؤلاء إذا ما حَلَّتْ ذِكْرَى استرجَاعِ الاستِقلَالِ، شَكَرُوا اللّهَ أن خَلَّصَهُمْ من قَهْرِ الاحتِلَالِ، وفَرِحُوا بِنَصْرِ اللّهِ، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الروم: 4 ــ 5]؛ أمَّا الذين فَتَحُوا أَعْيُنَهُمْ على نِعْمَةِ الحُرِّيَّةِ والاستقلَالِ، ولم يُلَقَّنُوا فَضْلَ هذه النِّعْمَةِ، فقد لا يعني حُلُولُ ذِكْرَاهَا بالنّسبَةِ إليهم شيئًا، وقد لا يُذَكِّرُهُمْ بها سوى استفادَتِهِمْ يوْمَ عُطْلَةٍ؛ وشَرٌّ من هؤلاء من يَستخِفُّونَ بها، ولا يَرَوْنَ أنَّهَا تستحِقُّ أن يُحْتَفَى بها، بل منهم من يَتَمَنَّى لو دَامَ زَمَنُ العبوديَّةِ والاحتلَالِ؛ لأنَّ المستَدمِرَ خَرَجَ من أرضِهِمْ ولم يَخرُجْ من قلوبِهِمْ وألسِنَتِهِمْ.
إخوةَ الإيمان: إنَّ الاستِقلَالَ ليس استِرجَاعَ أَرْضٍ وحُرِّيَّةِ شَعْبٍ فحسبُ، ولكنّه أيضًا كرامَةُ دِينِنَا الّذي خَطَّطَ المستدمِرُ لاستهدافِهِ، وأُرِيدَ له أن يُمْحَى من هذه الأرضِ، وقد عَبَّرَ عن ذلك كثيرٌ من القَادَةِ الفَرنسيّينَ، في الذِّكْرَى المِئَوِيَّةِ للاحتِلَالِ؛ حيث قال أحدُهُمْ: «إنّنا لا نحتَفِلُ بمرورِ قرنٍ على احتِلَالِ الجزائرِ، ولكنّنا نحتَفِلُ بجنازَةِ الإسلَامِ في الجزائرِ»، وكذلك في بدايَةِ الخمسينيَاتِ، وقُبَيْلَ إعلَانِ الجهَادِ، أعلن رئيسُ الحكومَةِ الفرنسيَّةِ قائلًا: «إنَّ الصَّلِيبَ سَيُحَطِّمُ الهِلَالَ»، ولكن، بفضلِ اللّهِ حُطِّمَ الصَّلِيبُ وارتَفَعَ الهِلَالُ، ويأبَى اللّهُ إلّا أن يُتِمَّ نورَهُ ولو كَرِهَ الكافرون.
أيُّها المُؤمِنون: إنَّ تسميَةَ الاستِقلَالِ بالنِّعْمَةِ ليس من قَبِيلِ المَجَازِ، بل هو على وَجْهِ الحقيقَةِ، بشهادَةِ الوَحْيَ وهو أصدَقُ شَاهَدٍ، إذ يقولُ سبحانَهُ في مُحْكَمِ التَّنزيلِ: ﴿يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُم إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُم أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾ [المائدة: 11]، فَالْهَمُّ ببَسْطِ الأيدي يعني الاحتِلَالَ ومُصادَرَةَ الحُرِّيَّةِ، وكَفُّ الأيدي المبسوطَةِ يعني نِعمَةَ الحُرِّيَّةِ والاستِقلَالِ التي أَنعَمَ بها سبحانَهُ علينا، وأمرَنَا بأن نَذْكُرَهَا بقوله تعالى: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: 11]، وذِكْرُهَا إحياؤُهَا وشُكْرُهَا، والاحتِفَاءُ بها.
أيُّها الشّاكِرون: إنَّ النِّعَمَ عمومًا ونِعمَةَ الحُرِّيَّةِ خصوصًا، تُوجِبُ علينا شُكْرَ المُنْعِمِ سبحانَهُ أوّلًا، ثمّ شُكْرَ من جعَلَهُمْ سَببًا في حصولِهَا، وهم الشُّهَدَاءُ والمُجاهدون، الذين قَدَّمُوا الغَالِيَ والنّفيسَ في سبيلِ نَيْلِ الحُرِّيَّةِ، واسترجاعِ السّيادَةِ.
قال الشَّيْخُ البَشِيرُ الإبراهِيمِيُّ في أولِ خُطبَةٍ بمُنَاسَبَةِ عِيدِ الاستِقلَالِ: «إنَّكُمْ خارجونَ من ثَوْرَةٍ الْتَهَمَتْ الأَخْضَرَ واليَابسَ، وإنَّكمْ اشتريتُمْ حُرّيتَكُمْ بالثَّمَنِ الغَالِي، وقدَّمْتُمْ في سبيلِهَا من الضَّحَايَا ما لم يُقَدِّمْهُ شَعْبٌ من شُعُوبِ الأرضِ قديمًا ولا حديثًا، وحُزْتُمْ من إعجَابِ العَالَمِ بكم ما لم يَحُزْهُ شَعْبٌ ثَائرٌ»؛ فَحَريٌّ بنا ــ أيّها المؤمنون ــ أن نَفْتَخِرَ بجهادِنَا وشهدائِنَا الّذين امْتَزَجَتْ دماؤُهُمْ في سبيلِ تحريرِ هذا الوَطَنِ.
ومن أرادَ أن يعرِفَ طعمَ الأمْنِ والحُرِّيَّةِ والاستِقلَالِ، فليَنظُرْ إلى ما يُعانِيهِ إخوانُنَا في غزَّةَ الجريحَةِ جَرَّاءَ الاحتِلَالِ الصهيونيِّ، من تدميرٍ وتشريدٍ، وقَتْلٍ وتجويعٍ وتجريحٍ، وبَطْشٍ وتنكيلٍ، وقَصْفٍ وتهجيرٍ، وهذا كُلُّهُ حدَثَ في الجزائِرِ، بل وأكثر من ذلك، ولكن بفضْلِ اللّهِ ثُمَّ التّضحيَاتِ الجِسَامِ، انتَصَرَتْ الجزائِرُ وتحرَّرَتْ، وستتحرَّرُ فلسطِينُ بحولِ اللّهِ، وتَأْمَنُ غَزَّةُ وتَعُودُ القُدْسُ إلى حاضِنَةِ الإسلَامِ والمُسلِمينَ، بفضلِ اللّهِ ربِّ العالمين.
أيُّها المُؤمِنون: كما أنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ يُؤدِّي إلى زيادَتِهَا، فإنَّ عَدَمَ شُكْرِهَا يُؤَدِّي إلى حِرْمَانِهَا وَزَوَالِهَا، لقولِهِ تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً انْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الأنفال: 53]؛ وإنَّ من شُكْرِ اللّهِ على نِعْمَةِ الاستِقلَالِ والحُرِّيَّةِ، أن نحافِظَ على وَطَنِ الشُّهَدَاءِ، وعلى مُقَدَّرَاتِهِ وخيرَاتِهِ، وأن نحافِظَ على أَمْنِهِ وَوَحْدَتِهِ وحدودِهِ، وعدم خيانَتِهِ، وإنَّ من الخيانَةِ التَّنَكُّرَ لهُوِيَّتِهِ الإسلاميَّةِ، ومن الخيانَةِ نَهْبُ خيرَاتِهِ وسَلْبُ ثَرَوَاتِهِ، ومن الخيانَةِ التَّقْصيرُ في القيَامِ بالواجِبِ تجاهه، وعَدَمُ الاهتمَامِ بشؤونِهِ، ومن الخيانَةِ تخريبُ مُمتلكاتِهِ وتبديدُ مُقَدَّرَاتِهِ، واستغلَالُ السّلطَةِ فيه دون وَجْهِ حَقٍّ، ومن الخيانَةِ الدَّوْسُ على القوانينِ، والاعتدَاءُ على الحقوقِ، والإخْلَالُ بالقطَاعِ العَامِّ؛ وغيرها من أنواعِ الخيانَاتِ، وكلُّهَا تلتقي عند آفَةِ كُفْرَانِ نِعْمَةِ الحُرِّيَّةِ والاستِقْلَالِ وعَدَمِ شُكْرِهَا، فاشكُرُوا اللّهَ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، واستَغفِرُوهُ يَغفِرْ لكم.
بَارَكَ اللّهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونَفَعَنِي وإيَّاكُمْ بما فيه من الآيَاتِ والذِّكْرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا وأستَغفِرُ اللّهَ العظيمَ لي ولكم، فاستَغفِرُوهُ إنَّه هو الغفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للّهِ الذي بنِعمَتِهِ تَتِمُّ الصّالِحَاتُ، الحمدُ للّهِ حَقَّ حمدِهِ، حمدًا كما ينبغي لجلَالِ وجهِهِ وعظيمِ سلطانِهِ، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللّهُ وحدَهُ لا شَريكَ له، وأشهَدُ أنّ سيِّدَنَا محمَّدًا عبدُ اللّهِ ورسولُهُ، نَشهَدُ أنَّه بلَّغَ الرّسالَةَ، وأدَّى الأمانَةَ، ونَصَحَ للأمَّةِ، وكَشَفَ الغُمَّةَ، وجاهَدَ في اللّهِ حَقَّ جهادِهِ حتّى أتاه اليقين، صلواتُ ربّي وسلامُهُ عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعين؛ أمّا بعد:
أيّها المؤمنون: إنّ اللّهَ أَكرَمَ أُمَّةَ الجزائِر في هذا الأسبوعِ، بمناسبتين عظيمتين: ذِكْرَى استعادَةِ الاستقلَالِ وعِيدِ الشَّبَابِ، والفَاتِحِ من شهرِ المحرَّمِ، الذي جعلَهُ الفاروقُ عُمَرُ بنُ الخطّابِ رضي اللّه عنه بدايَةً للعَامِّ الهجرِيِّ، وجَعَلَ الهجرَةَ النّبويَّةَ بدايَةً للتّأريخِ الإسلامِيِّ، لأنّها فرّقت بين الحَقِّ والبَاطِلِ، وبين الذِلَّةِ والعِزَّةِ، وكذلك يوم الاستقلَالِ الأَغَرِّ، أَعَزَّ اللّهُ به أُمَّةَ الجزائِرِ بعد ذِلَّةٍ، وكَثَّرَهُمْ بعد قِلَّةٍ، وقَوَّاهُمْ بعد ضَعْفٍ، وانْطَلَقَ الشَّعْبُ الجزائِرِيُّ من معركَةِ التّحريرِ إلى معركَةِ البِنَاءِ، مُقتدِيًا برسُولِ الهُدَى صلّى اللّه عليه وسلّم، الّذي لَمْ يُهاجِرْ مِنْ مَكَّةَ المكرَّمَةِ إلى المدينَةِ المنوَّرَةِ زُهْدًا فيها، فهي أَحَبُّ بِلَادِ اللّهِ إلى قَلْبِهِ، بل هَاجَرَ لبنَاءِ مُجْتَمَعِ الفضيلَةِ والأخلَاقِ، والوَحْدَةِ والوِفَاقِ، فهذه روحُ رِسَالَتِهِ، قال اللّهُ تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، وقَالَ صلّى اللّه عليه وسلّم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ».
فاللّهمّ صَلِّ وسَلِّمْ وبَارِكْ على نبيِّنَا ورسولِنَا محمَّدٍ، وارضَ اللّهمّ عن الخلفَاءِ الرّاشدين، وعن سَائِرِ الصَّحَابَةِ والآلِ أجمعين، وعن التّابعين ومَن تبِعَهُمْ بإحسَانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
الدُّعاء.
للتصفح والتحميل: