Scroll Top

خطبة الجمعة: محمد ﷺ نبيّ الرحمة

الخطبة الأولى

الحمدُ للّهِ العظيمِ المتَعَالِ، تخشعُ من كَلَامِهِ الجِبَالُ، سبحانَهُ ليس له مثَالٌ، وأشهَدُ أن لا إله إلّا اللّهُ وحده لا شريك له، القائِلُ سبحانَهُ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]، وأشهَدُ أنّ سيِّدَنَا محمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، صاحِبُ القَدْرِ العَالِي، صَادِقُ الأقوَالِ وزينُ الفِعَالِ، القَائِلُ صلّى اللّه عليه وسلّم: «أَنَا مُحَمَّدُ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ»، صلّى اللّه عليه وصحبِهِ والآلِ، ما دَامَتِ الأَيَّامُ واللَّيَالِي، أمّا بعد:

أيّها المؤمنون: إنّ من أعظَمِ النِّعَمِ على العبَادِ وأجلِّهَا قَدْرًا، بِعْثَةَ المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم، قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُومِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ اَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران: 164]، فبه صلّى اللّه عليه وسلّم كَشَفَ اللّهُ الغُمَّةَ وأَقَامَ الحُجَّةَ، وأَتَمَّ اللّهُ مكارِمَ الأخلَاقِ، وأخرَجَ النّاسَ من الظّلمَاتِ إلى النّورِ، فلولاه ما اهتدَيْنَا ولا صُمْنَا ولا صَلَّيْنَا…

مُحمَّدٌ طَــابَـتِ الدُّنْيَــا ببعـثَـتِـهِ             مُحَمَّدٌ جَاءَ بِالْآيَــاتِ وَالْحِكَمِ

   مُحَمَّدٌ يوْمَ بعْثِ النَّاسِ شَافِعُنَا             مُحَمَّدٌ نـُورُهُ الْهَادِي منَ الظُّلَم

   مُحَمَّدٌ ذِكْرُهُ رُوحٌ لِأَنْفُسِـــــــنَا              مُحَمَّدٌ شُكْرُهُ فَرْضٌ عَلَى الْأُمَمِ

أيّها المحبّون: إنّ اللّهَ أَرسَلَ نبيَّهُ صلّى اللّه عليه وسلّم رحمَةً للعالمين، أي لجميعِ الخَلَائِقِ، وفي مقدّمَتِهِمْ الذين اتَّبَعُوهُ وآمنُوا به، قال تعالى: (بِالْمُومِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128]. فَجَاءَتْ رسالَتُهُ رحمَةً لهذه الأمَّةِ، خاليَةً من التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ التي فُرِضَتْ على الأمَمِ السّابِقَةِ، جاءت رسالتُهُ سَمْحَةً سَهْلَةً مُيَسَّرَةً، لا إصْرَ فيها ولا أَغْلَالَ، قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف: 157]. وهكذا كان صلّى اللّه عليه وسلّم في جميعِ مَنَاحِي الحَيَاةِ، فقد كان يَعْمِدُ إِلَى الرّأفَةِ والرّحمَةِ والتّيسيرِ على أمّتِهِ والْتِمَاسِ الأَخَفِّ، فإذا قال قوْلًا أو فَعَلَ فِعْلًا تَعَبُّدًا للّهِ، أَخَذَ بالأيْسَرِ والأَخَفِّ، رأفَةً بأُمَّتِهِ وشَفَقَةً عليها، فما خُيِّرَ صلّى اللّه عليه وسلّم بين أمرين إلّا أَخَذَ بأيسرِهِمَا، وصدق اللّهُ إذ يقول: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِمْ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].

وقال ربُّنَا سبحانَهُ: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) [الحجرات: 7].

بل وَصَلَ الأمْرُ به صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا رأى أصحابَهُ يحرصون على الاقتدَاءِ به واتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، أنّه كان يترُكُ بعضَ النَّوَافِلِ رحمَةً بأصحابِهِ، وخشيَةَ أن تُفْرَضَ على أُمَّتِهِ، كما تَرَكَ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ في شَهْرِ رمَضانَ بعدَ أن قَامَ بهم ليلَةً أو ليلتينِ، وكذلك تَرْكُهُ الخروج للغزوِ مع السَّرَايَا حتى لا يَشُقَّ ذلك على غيرِ القَادِرِ من أمّتِهِ، ففي صحيحِ مسلمٍ عن هريرةَ رضي اللّه عنه عن رسولِ اللّهِ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ فِي يَدِهِ، لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ، وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً فَيَتَّبِعُونِي، وَلَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَقْعُدُوا بَعْدِي».

وهناك نماذِجُ كثيرَةٌ، نذكُرُ منها على سبيلِ المِثَالِ لا الحَصْرِ، ما رواه البخاريُّ عن أبي هُرَيرةَ رضي اللّه عنه أنَّ رسولَ اللّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، أَوْ عَلَى النَّاسِ، لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ».

وروى أحمدُ والتّرمذيُّ عن أبى هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسولُ اللّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ».

أيّها الأفاضل: إنّ رحمَةَ النّبيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم ليست للمؤمنين فَحَسْبُ، بل جاءت لجمِيعِ الخَلَائِقِ، فَشَمْلَتْ الإنْسَ والجِنَّ، والحَيَوَانَ والجَمَادَ والنَّبَاتَ، وحتى الملائِكَةَ، فقد أورَدَ القَاضِي عِياضٌ في كتابِهِ «الشِّفَا بتعرِيفِ حُقُوقِ المصطفى»، أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجِبْرِيلَ عَليْهِ السَّلَامُ: هَلْ أَصَابَكَ مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَخْشَى الْعَاقِبَةَ فَأَمِنْتُ، لثَنَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلِيَّ بِقولِهِ: (ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٌ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير: 20 ــ 21].

وأَحَاطَتْ رحمَتُهُ صلّى اللّه عليه وسلّم بكُلِّ شيءٍ، حتّى شمِلَتْ الكَافِرَ والمُنَافِقَ، فقد روى مسلِمٌ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً».

تلك الرّحمَةُ التي تَجَلَّتْ عندما صَدَّهُ أهلُ الكفرِ وأخرجُوهُ من الطَّائِفِ وسَلَّطُوا عليه غِلْمَانَهُمْ، ولنَسْتَمِعَ إلى رسولِ اللّهِ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يَقُصُّ علينا ما حَدَثَ، ففي الصّحيحين عن عائشةَ رضي اللّهُ عنها أنّ رسولَ اللّهِ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»

ما أعظمَهُ من نَبِيٍّ، وما أعظمَهَا من رحمَةٍ، ولقد استَجَابَ اللّهُ دُعَاءَ نبيِّهِ صلّى اللّه عليه وسلّم، فأخرَجَ من أصلَابِهِمْ المُوَحِّدين العابدين.

قال ابن عبّاس رضي اللّه عنهما: «هُوَ رَحْمَةٌ لِلْمؤْمِنِينَ وَالكَافِرِينَ، مَنْ تَبِعَهُ كَانَ لَهُ رَحْمَةً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ عُوفِيَ مِمَّا كَانَ يُبْتَلَى بِهِ سَائِرُ الأُمَمِ مِنَ الخَسْفِ وَالمَسْخِ وَالقَذْفِ».

فآمِـنُـــــــــوا بنَـبِـــي لَا أَبَا لَـكُــــــــــــــمْ       ذِي خَاتَم صَاغَهُ الرَّحْمَنُ مَخْتُومِ

رَأْف رَحِيمٍ بِأَهْلِ البِرِّ يَرْحَمُهُـــمْ      مُقَرُّبٌ عِنْدَ ذِي الْكُرْسِي مَرْحُومِ

أيّها المُوَفَّقُونَ: إنّ رسولَ اللّهِ رحمَةٌ للعالمين، ومِنَ العالمين البَهَائِمُ والحَيَوَانَاتُ، فقد أَمَرَ الحبيبُ برحمتِهَا وعَدَمِ إيذائِهَا والقسوَةِ عليها، ونَهَى عن تعذيبِهَا وتجويعِهَا أو تكليفِهَا ما يَشَقُّ عليها، أو اتّخاذِهَا هَدَفًا، فقد روى مسلِمٌ عن ابن عمرَ رضي اللّه عنه قال: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا»، أي هَدَفًا.

ولعلّ ما يَعْجَبُ له البعضُ، رحمتُهُ صلّى اللّه عليه وسلّم بالجَمَادَاتِ، ففي البخاريِّ عن جابِرٍ رضي اللّه عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، أَوْ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا؟ قَالَ: إِنْ شِئْتُمْ، فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دُفِعَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ، قَالَ: كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ عِنْدَهَا».

أيّها الرُّحماءُ: إنّ نَبِيَّ الرّحمَةِ صلّى اللّه عليه وسلّم شَمِلَتْ رحمتُهُ العالمين، ومنها أنّه حَثَّ أُمَّتَهُ على التَّرَاحُمِ فقال: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ».

وفي الصّحيحين أنّ رسولَ اللهِ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءُ»؛ فَمَا أحوجَنَا ــ أيّها المؤمنون ــ إلى التَّخَلُّقِ بِخُلُقِ الرّحمَةِ، اقتدَاءً بنبيِّ الرّحمَةِ صلّى اللّه عليه وسلّم.

اللّهم ارحمنَا برحمتكَ الواسعَةَ التي وَسعَتْ كلَّ شيءٍ، يا رحمَنَ السَّمَاوَاتِ والأرضِ، لا تَكِلْنَا إلى أنفسِنَا طَرْفَةَ عينٍ ولا إلى أَحَدٍ من خَلْقِكَ.

بارَك اللّهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفَعَنِي وإِيَّاكُمْ بما فيه من الآيَاتِ والذِّكْرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا وأستَغفِرُ اللّهَ العظِيمَ لي ولكم، فاستَغفِرُوهُ إنَّه هو الغفورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية

الحمدُ للّهِ الّذي بنِعمتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ، الحمدُ للّهِ حَقَّ حمدِهِ، حَمْدًا كما ينبغي لجَلَالِ وجهِهِ وعظيمِ سلطانِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللّهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهَدُ أنّ سيِّدَنَا محمَّدًا عبدُ اللّهِ ورسولُهُ، نَشهَدُ أنَّه بلَّغَ الرّسالَةَ، وأَدَّى الأَمَانَةَ، ونَصحَ للأمَّةِ، وكَشَفَ الغُمَّةَ، وجاهَدَ في اللّهِ حَقَّ جهادِهِ حتى أتاه اليقينُ، صلوَاتُ ربّي وسَلَامُهُ عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعين؛ أمّا بعد:

أيّها المؤمنون: إنّ اللّهَ سبحانَهُ وتعالى أَكرَمَ محمَّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم بالنُّبُوَّةِ والرّسالَةِ، وأكرمَهُ بالإِمَامَةِ، فَجَعَلَهُ إمَامًا للأنبيَاءِ والمرسلين، وإمَامًا للمسلمين، يهتدونَ بهَدْيِهِ ويَأْتَمُّونَ به، قال صلّى اللّهُ عليه وسلّم: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أصَلِّي»، فكان صلّى اللّه عليه وسلّم مُذَكِّرًا ومُعَلِّمًا، آمِرًا بالمعرُوفِ ونَاهِيًا عن المنكَرِ، دَاعِيًا إلى الحَقِّ ومرشِدًا إليه، وقدوَةً للإمَامِ في كُلِّ زَمَانٍ ومَكَانٍ، ونحن إذ نُحْيِي اليَوْمَ الوطنيَّ للإمَامِ، نُذَكِّرُ الأئمَّةَ بذلك الشَّرَفِ الذي نَالُوهُ، وبذلك العِزِّ الذي حَازُوهُ، بأن وَرِثُوا عن النّبيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم المِحْرَابَ والمِنْبَرَ، (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [النور: 36].

أيّها المقتدون: إنّ الإمامَةَ مهمَّةٌ عظيمَةٌ ورسالَةٌ جسيمَةٌ، يوَفِّقِ اللّهُ إليها من اصطَفَاهُمْ من خَلْقِهِ لحراسَةِ عقيدَتِهِ وحمَايَةِ دِينِهِ، فيتعلَّمُ النّاسُ على أيدِيهِمْ العِلْمَ الذي يرفَعُ عنهم حِجَابَ الجَهْلِ، ويستيقِظُ الغافلون بمواعِظِهِمْ، وتحيى النُّفُوسُ بتوجيهاتِهِمْ، ويَهْتَدِي السّالكون بهُدَاهُمْ، وتقومُ بهم شعائِرُ الإسلَامِ، فيَسْعَدُ الخَلْقُ بهم كما سَعِدُوا بإمامِ الأئمَّةِ صلّى اللّه عليه وسلّم، الّذي دَعَا للأئمَّةِ، كما ثبت ذلك عند التّرمِذِيِّ عن أبي هريرةَ رضي اللّه عنه قال: قال رسولُ اللّهِ صلّى اللّه عليه وسلّم: «الْإِمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤذِّنُ مؤتَمَنٌ، اللَّهمَّ أَرْشِدِ الْأَئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ».

هذا واعلموا أنّ اللّهَ تعالى صَلَّى على نبيِّهِ في مُحْكَمِ كتابِهِ، وأَمَرَكُمْ بالصَّلَاةِ عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيء يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ في العالمين، وَارْضَ اللَّهُمَّ عن خلفائِهِ الرّاشدين، وعن أزواجِهِ أمَّهَاتِ المؤمنين، وعن سَائِرِ الصَّحَابَةِ أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنَاتِ الى يومِ الدِّينِ، وعَنَّا معهم برحمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحمين.

اللّهمّ وَفِّقْ علَمَاءَنَا وأئمَّتَنَا ودعاتنَا للخيرِ والإصلَاحِ، واجعلهم من العالِمِينَ العامِلِينَ المصلِحِينَ.

اللّهمّ إنَّا نسألُكَ الهُدَى والتُّقَى، والعَفَافَ والغِنَى.

اللّهمَّ آتِ نفوسَنَا تقوَاهَا، وَزَكِّهَا أنت خَيرُ مَن زَكَّاهَا، أنت وَلِيُّهَا ومَوْلَاهَا.

اللّهمّ اجعَلْ جَمْعَنَا هذا جَمْعًا مرحومًا، وتَفَرُّقَنَا من بعده تَفَرُّقًا معصومًا، ولا تَجْعَلْ فينا ولا معنا شَقِيًّا ولا محرومًا.

اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.

اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.

رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.

رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.

عِبَادَ اللهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90].

أيّها المؤمنون: اذكُرُوا اللّهَ العظيمَ يذْكُرْكُمْ، واشكُرُوهُ على عُمُومِ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، ولذِكْرُ اللَّهِ أَكْبرُ، واللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصنَعُونَ.

للتصفح والتحميل:

جَامعُ الجزائر مركزٌ دينيّ، عِلميّ، ثقافيّ وسياحِيّ، يقعُ على تراب بلديّة المُحمَّديَّة بولاية الجزائر، وسط خليجها البحريّ. تبلغُ مساحته 300.000 متر مربّع، يضمّ مسجِدا ضخما للصّلاة، يسع لـ 32000 مصلٍ، وتصلُ طاقة استيعابِه إلى 120 ألف مصلٍ عند احتساب صحنه وباحَاته الخارجيّة.
قاعة الصّلاةِ وصحنها الفسـيح، جاءت في النّصوص القانونيّة المُنشِأة للجامع، تحتَ تسميةِ “الفضاء المسجدِيّ”.
ويضُمّ المجمّعُ هياكلَ أخرى ومرافقَ سُمّيت بالهَيئات المدمجة، ووجدت هـذه المرافق لتُساهم في ترسـيخِ قِيم الدّين الإسلاميّ من: قرآن منزّلٍ وسنّةِ مطهّرة على صاحبها أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم، وكذا للحِفاظ على المرجعيّة الدّينيّة الوطنيّة، بما يخدُم مكتسبات الأمّة ويحقّق التّواصل مع الغير.
وجامع الجزائر هـو معلم حضاريّ، بِهندسته الفَريدة، التي زَاوجـت بين عراقة العِمارة الإسلاميّة بطَابعها المغَاربيّ الأندلسيّ، وآخِر ابْتكارات الهندسة والبِناء في العالم، حيث حقّق عدّةَ أرقامٍ قيَاسيةٍ عالميةٍ في البناء.
فمن حيث الأبْعادُ الهنْدسيةُ، يُعدّ الجامع بين المساجد الأكبر والأضْخَم عبر العالم، بل هو ثالث أكبرِ مسجدٍ في العالم بعد الحرَمين الشريفَين بمكة المُكرّمَة والمدينَةِ المنوّرَة، وهو أكبر مساجد أفْريقيا على الإطلاق، فمساحة قاعة صلاته تبلغ 22 ألف متر مربع، وقُطر قبته 50 مترا، وفُرِش بـ 27 ألف متر مربع من السجّاد الفاخر المصنوعِ محليّا، وتزيَّنت الحوافّ العلويّة لجدرانه بـ 6 آلاف متر من الزّخرفة بمختلف خطوط الكتابة العربيّة.