الخطبة الأولى
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِي لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، القائِلُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: 11]، والقائِلُ: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، القائِلُ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ».
أَمَّا بَعْدُ: فاتَّقُوا اللّهَ عِبَادَ اللّهِ، واخْشُوا يومًا تُرْجَعُونَ فيه إلى اللّهِ، ثم تُوَفَّى كُلُّ نفسٍ ما كسبت وهم لَا يُظْلَمُونَ.
يَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ المُؤْمِنُونَ: شهدنا في هذه الأيَّامِ إقبالًا كبيرًا على الصّالون الدولِيِّ للكتَابِ، من الباحثين والأساتذَةِ من شَتَّى التّخصّصَاتِ، والطّلبَةِ والتّلاميذِ من مختلفِ الأعمارِ، طلبًا لكُتُبٍ ماتعَةٍ، أو بُحُوثٍ ودراسَاتٍ جديدَةٍ نَافِعَةٍ، لإشباعِ نَهَمِهِمْ العلمِيِّ، وهذا يبهِجُ الطّرفَ، ويَسُرُّ النّظرَ، ينشرحُ له الصّدرُ، ويثلِجُ به القلبُ، لأنّه يُبَشِّرُ بالخيرِ الكثيرِ، فالأمّةُ إنّما تنهضُ بانتشَارِ العلومِ فيها، وتَسْمُو وتَرْقَى بالمعارِفِ، فلا عجبَ أن يكونَ أوَّلُ ما نزلَ من القرآنِ الكريمِ: ﴿اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1 ــ 5].
أَيُّهَا السّادةُ الأكارم: إنّ فِي دِينِنَا الإِسْلَامِيِّ نُصُوصاً كَثِيرَةً تُشِيدُ بِفَضْلِ طَلَبِ العِلْمِ وَتَحُثُّ عَلَيْهِ، وَتُعْلِي مِنْ شَأْنِ طَالِبِهِ وَمَقَامِهِ، كقولِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنْمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 09].
بَلْ رَبَطَتِ الشَّرِيعَةُ بَيْنَ طَلَبِ الْعِلْمِ وَدُخُولِ الجَنَّةِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ».
وَمِنْ شَرَفِهِ أَنَّ الْكَائِنَاتِ تَسْتَغْفِرُ لَهُ، فَفِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ المَخَارِقِ رضي اللّهُ عنه قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قُلْتُ: كَبُرَ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَأَتَيْتُك لِتُعَلِّمَنِي مَا يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، قَالَ: يَا قَبِيصَةُ، مَا مَرَرْت بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ وَلا مَدَرٍ إلَّا اسْتَغْفَرَ لَكَ».
وَالمُصَنَّفَاتُ فِي المَكْتَبَةِ الإِسْلَامِيَّةِ زَاخِرَةٌ بِأُمَّهَاتِ الكُتُبِ الَّتِي تُبَيِّنَ فَضْلَ طَلَبِ العِلْمِ وَآدَابَهُ، وَلَعَلَّ مِنْ أَشْهَرِهَا كِتَابُ جَامِعُ بَيَانِ العِلْمِ وَفَضْلِهِ، لِلإمامِ الحَافِظِ أَبِي عَمْرٍو بْنِ عَبْدِ البَرِّ الأندلسيِّ المالكيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَقَدْ بَيَّنَ فِي فُصُولِهِ فَضْلَ العِلْمِ وَآدَابَ طَالِبِهِ، وَتَطَرَّقَ فِيهِ إلَى الحَدِيثِ عَنْ مَاهِيَّةِ العِلْمِ وَحُدُودِهِ وَأَقْسَامِهِ، وقد قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: «وَالعُلُومُ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الدِّيَانَاتِ ثَلَاثَةٌ: عِلْمٌ أَعْلَى، وَعِلْمٌ أَسْفَلُ، وَعِلْمٌ أَوْسَطُ.
فَالعِلْمُ الأَعْلَى: عِلْمُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الكَلَامُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كُتُبِهِ وَعَلَى ألسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ نَصًّا وَمَعْنَى، وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِمَّا جَاءَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسَنَّهُ لِأُمَّتِهِ مِنْ حِكْمَتِه.
وَالعِلْمُ الأَوْسَطُ: هُوَ مَعْرِفَةُ عُلُومِ الدُّنْيَا الَّتِي يَكُونُ مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ مِنْهَا بِمَعْرِفَة نَظِيرِه، وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِجِنْسِهِ وَنَوْعِهِ، كَعِلْمِ الطِّبِّ وَالْهَنْدَسَة»، انتهى بكلامُهُ.
ثُمَّ أَضَافَ لَاحِقًا بَيَانَ أَهَمِّيَّةِ بَعْضِ العُلُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا، كَعِلْم الحِسَابِ لِمَعْرِفَةِ الفَرَائِضِ وَالمَوَاقيتِ، وَعِلْمِ الطَّبِ لِلْمُدَاوَاةِ وَالِاسْتِطْبَابِ.
كُلُّ ذَلِكَ لِيُعْلَمَ أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ العِلْمِ فِي الشَّرِيعَةِ يَشْمَلُ العِلْمَ الشَّرْعِيَّ وَالدُّنْيَوِيَّ جَمِيعًا، وَأنَّ الثَّانِي مِنْ فُرُوضِ الكِفَايَةِ، الَّتِي إذَا حَصَّلَهَا البَعْضُ بِمَا يَفِي بِحَاجَةِ الأُمَّةِ سَقَطَتْ عَنِ الكَافَّةِ.
وَعَلَى هَذَا الأَسَاسِ، فَإِنَّ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى العِلْمِ بِمَعْنَاهُ العَامِّ تَشْمَلُ كِلَا النَّوْعَيْنِ، كَمَا هِيَ قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ، فاللَّفْظُ العَامُّ يَبْقَى عَلَى عُمُومِهِ، وَالحُكْمُ المُطْلَقُ عَلَى إطْلَاقِهِ، مَا لَمْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ عَلَى التَّخْصِيصِ أَوْ التَّقْيِيدِ.
وَقَدْ سَاد هَذَا الفَهْمُ العَمِيقُ لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ أَسْلَافِنَا بِخُصُوصِ هَذَا الشَّأْنِ، فَلَقَدْ بَرَع المُسَلِمونَ فِي عَصَورِهِمْ المُتَقَدِّمَةِ فِي شَتَّى صُنُوفِ العُلُومِ وَالمَعَارِفِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، وَأَبْدَعُوا فِي العُلُومِ الْكَوْنِيَّةِ وَكَانَ لَهُم السَّبْقُ فِي أَكْثَرِهَا مِمَّا تَقُومُ عَلَيْهِ حَضَارَةُ اليَوْمِ، كَعِلْمِ الْجَبْرِ وَالبَصَرِيَّاتِ وَالفَلَكِ وَنَحْوِهِ، وَلَا تَزَالُ الحَضَارَةُ الإِنْسَانِيَّةُ اليَوْمَ عَالَةً عَلَى أُسُسِهَا وَقَوَاعِدِهَا، وَاشْتُهِرَ فِيهَا عُلَمَاءُ ذَاعَ صِيتُهُمْ، وَلَمَعَ نَجْمُهُمْ فِي سَمَاءِ الحَضَارَةِ وَالبَحْثِ العِلْمِيِّ، كَالبَيرُونِيِّ وَابْنِ الْهَيْثَمِ وَابْنِ سِينَا وَالخَوَارِزْمِيِّ وَالكِنْدِيِّ وَغَيْرِهِمْ كَثِيرٌ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الأَعِزَّاءُ: عِرْفَانًا منَّا بِمَكَانَةِ الطَّلَبَةِ والتّلاميذِ وَدَوْرِهِمْ فِي نَهْضَةِ الأُمَمِ وَبِنَاءِ مُسْتَقْبَلِهَا، ــ فَهم بِحَقٍّ صَفْوَةُ المُجْتَمَعِ، وقَلْبُ الأُمَةِ النَّابِضُ بِالحَيَاةِ، وَقَادَةُ مُسْتَقْبَلِهَا، يَحْمِلُونَ هُمُومَهَا، وَيَدَافِعُونَ عَنْ وُجُودِها، وَيَعِيشُونَ قَضَايَاهَا ــ، رأينا مِنَ المُنَاسِبِ جِدًّا أَنْ نُسْدِيَ لَهُمْ بَعْضَ التَّوْجِيهَاتِ فِي شَكْلِ رَسَائِلَ أَخَوِيَّةٍ، تَكُونُ مَعَالِمَ هَادِيَةً فِي خِضَمِّ مَا يَمُوجُ بِهِ العَالَمُ مِنْ أَفْكَارٍ مُتَنَاقِضَةٍ قَدْ يَنْجَرِفُ إلَيْهَا مِنْ لَيْسَتْ لَهُ حَصَانَةٌ كَافِيةٌ مِنْ فِكْرٍ وَتَجْرِبَةٍ.
وَأَوَّلُ هَذِهِ الرَّسَائِل: النِّيَّةُ الصَّالِحَةُ: وَهِيَ أَوَّلُ وَأَهَمُّ عُدَّةٍ يَتَزَوَّدُ بِهِ المُسْلِمُ فِي حَيَاتِهِ فِي جَمِيعِ مَشَارِيعِهِ وَأَعْمَالِه، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كما فِي الصَّحِيحَينِ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»؛ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ طالِبٍ وتلميذٍ أنْ تَنْطَوِيَ سَرِيرَتُهُ عَلَى نِيَّةٍ صَالَحَةٍ، أَيًّا مَا كَانَ تُخَصُّصُهُ وَتَوَجُّهُهُ فِي الحَيَاةِ، وَالَّتِي بِمُقْتَضَاهَا يَقْصِدُ مَرْضَاةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا هُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ، بِوَضْعِ أَهْدَافٍ سَامِيَةٍ لِمَسَارِهِ، قَرِيبَةٍ وَمُتَوَسِّطَةٍ وَبَعِيدَةٍ، فَأَمَّا القَرِيبَةُ فَهِيَ أَنْ يَنْفَعَ نَفْسَهُ بِتَطْويرِ ذَاتِهِ وَتَقْوِيَةِ نَفْسِهِ وَتَكْوِينِهَا تَكْوِينًا مُتَوَازِنَا بَيْنَ عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ، حَتَّى يَكُونَ فَرْدًا صَالِحًا فِي نَفْسِهِ.
وَأَمَّا الْمُتَوَسِّطَةُ بأنْ يَنْفَعَ أَهْلَهُ وَمَنْ هُمْ أَقْرَبُ إلَيْهِ، وَيُسْعِدَهُمْ بِالنَّجَاحَاتِ وَالإِنْجَازَاتِ الَّتِي تَزِيدُهُمْ فَخْرًا وَسُرُورًا بِصَلَاحِه، وَشعورًا بنَجَاحِهِمْ فِي تَرْبِيَتِهِ.
وَأَمَّا البَعِيدَةُ بأنْ يَنْفَعَ أُمَّتَهُ وَالإِنْسَانِيَّةَ جَمْعَاءَ، مِنْ خِلَالِ الإِسْهَامِ فِي حَرَكَةِ الحَضَارَةِ، بِالتَّفَوُّقِ وَالعَطَاءِ وَتَرَكِ بَصْمَةٍ فِي الحَيَاةِ تَكُونُ صَدَقَةً جَارِيَةً، كما قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عَلِمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».
الرّسالَةُ الثّانيَةُ: اغْتِنَامُ الوَقْتِ، وَالأخْذُ بِالأَسْبَابِ، وَالبُعْدُ عَمَّا يَسْتَهْلِكُ العُمْرَ وَالوَقْتَ فِيمَا لَا يَنْفَعُ، فقد قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ»؛ فَقَدْ يَكُونُ المَرْءُ مَوْهُوبًا وَذَكِيًّا، وَلَكِنَّهُ كَسُولٌ وَضَعِيفُ الإرَادَةِ، فَغَالِبًا ما تَكُونُ نِهَايَةُ أَمْرِهِ الفَشَلَ الذَّرِيعَ وَالخَيْبَةَ، فَعُلِمَ يقينًا أَنَّ الحِرْصَ وَالهِمَّةَ وَالِاجْتِهَادَ في العملِ، وَمُكَابَدَةَ الأَسْبَابِ ولو قلّتْ المَوَاهِبُ، يُحْدِثُ فَارِقًا كَبِيرًا وَمُبْهرًا، فَكَمْ مِنْ مَوْهُوبِينَ فِي الحَيَاةِ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ ذَكَائِهِمْ وَموهِبَتِهِمْ بِسَبَبِ ضَعْفِ هِمَمِهِمْ؛ وَانْكِسَارِهِمْ أمَامَ ظُرُوفِ الحَيَاةِ الصَّعْبَةِ، ثُمّ لاذُوا بِالنَّدَمِ الشَّدِيدِ بَعْدَ فَوَاتِ الأَوَانِ، وَلَاتَ حِينَ نَدَمٍ.
الرِّسَالَةُ الثَّالِثَةُ: الحَذَرَ، الحَذَرَ أَيُّهَا الطَّلَبَةُ وَالطَّالِبَاتُ مِنَ الغُرُورِ، مَهْمَا كَانَ تَفُوُّقُكُمْ، وَمَهْمَا كَانَتْ مَوَاهِبُكُمْ خَارِقَةً، فَإِنَّ أَوَّلَ خُطُوَاتِ الإِخْفَاقِ هِيَ الغُرُورُ وَالتّعالي، وأخطرُهُ إذا كان التّرفُّعُ والتّكبُّرُ على مَنْ عَلَّمَكُمْ وأَدَّبَكُمْ وأَحْسَنَ إليكم، وَلَقَدْ عَلَّمَتْنَا شَرِيعَةُ اللَّهِ أنَّ مِنْ أَخْلَاقِ المُسْلِمِ التَّوَاضُعَ وَنُكَرانَ الذَّاتِ، كما قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ»، وَلَا يَزِيدُ التَّوَاضُعُ صَاحِبَهُ إلَّا رِفْعَةً وَقَدْرًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ النَّاسِ، وَكَفَى بِالتّكبُّرِ سُوءًا وَشَرًّا، أَنّ مِثَالَهُ الأَوَّلَ هُوَ إِبْلِيسُ اللَّعِينُ، الَّذِي قَالَ فِي حَضْرَةِ الحَقِّ سُبْحَانَهُ: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ [ص: 76]، كِبْرًا وَغُرُورًا، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ مِنْ رَحْمَتِهِ، ولعَنَهُ إلى يومِ الدِّينِ، بَلْ إنَّ الْعِلْمَ النَّافِعَ لَا يَزِيدُ صَاحِبَهُ إلَّا تَوَاضُعًا وَأدَبًا لِعِبَادِ اللَّهِ، وَأُسْوَتُنَا فِي ذَلِكَ خَيْرُ الْخَلْقِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَيِّدُ الْمُتَوَاضِعِينَ، فقد كَانَ طَيِّعًا متواضِعًا في غير مذلَّةٍ، ويقولُ: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، وَلَكِنْ قُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»، ويَتَوَاضَعُ لِلصِّبْيَانِ ويسَلّمُ عليهم، ويَدْعُو لهم بالبَرَكَةِ، ويَمْسَحُ رُؤُوسَهُمْ، كما أخبرَنَا بذلك أَنَسٌ رضي اللّه عنه، فَلَا يَكُونُ طَالِبُ العِلْمِ مُتَبَجِّحًا أَوْ مُتَعَالِيًا عَلَى مُعَلِّمِهِ مَهْمَا عَلَا كَعْبُهُ فِي العِلْمِ، فلَا يَستجِيبُ لنُصْحِ أَحَدٍ، وَلَا يَقْبَلُ تَوْجِيهًا مِنْ مُجَرِّبٍ، وللّهِ دَرُّ شوقي إذ قال:
وَإِنَّمَا الْأُمَمُ الْأَخْلَاقُ مَا بَقِيَتْ … فَإِنْ هُمُ ذَهبَتْ أَخْلَاقُهُمْ ذَهَبُوا
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ تَجِدُوهُ غَفُورًا رَحِيمًا.
الخطبة الثانية
الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالعَاقِبَةُ الحُسْنَى لِلْمُتَّقِين، وَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيٌّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الأَحْبَابُ: الرِّسَالَةُ الرَّابِعَةُ: أبنائي الطّلبة والطّالبات: إنّ مِنْ أَخْلَاقِ الإِسْلَامِ وَصفَاتِ الكُمَّلِ من الرّجَالِ، الوَفَاءَ لِلْأَهْلِ، وَلِمَنْ عَلَّمَكَ، وَلِمَنْ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْكَ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَالوَفَاءَ لأُمَّتِكَ، ولِبَلَدِكَ الَّذِي أَنْتَ جُزْءٌ مِنْهُ، سَوَاءٌ كُنْت مُقِيمًا بِهِ أَوْ مُتَغَرِّبًا عَنْهُ، فَلَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الرِّجَالِ الشُّرَفَاءِ أَنْ يُدِيرُوا ظُهُورَهُمْ لِأَوْطَانِهِمْ وَلِمَنْ كَانُوا سَبَبًا فِي المَجْدِ الَّذِي هُمْ فِي طَرِيقِهِ، وَلَا أَنْ يَتَنَكَّرُوا لِأَوْطَانِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ، فَلَا يَعِيشُون هُمُومَهَا، وَلَا يَحْمِلُونَ قَضَايَاهَا، وَلَا يَهْتَمُّونَ بِشُؤُونِهِا، إنَّهَا الخَيْبَةُ الحَقِيقِيَّةُ حِينَئِذٍ ــ لَا سَمَحَ اللَّهُ ــ، فيَوْمَ يَعِيشُ المَرْءُ لِنَفْسِهِ يَكُونُ أَفْشَلَ إنْسَانٍ مَهْمَا عَلَتْ رُتْبَتُهُ فِي سُلَّمِ العِلْمِ.
وصدقَ اللّهُ العظيمُ إذ يقُولُ: ﴿وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ ءامَنُوا﴾ [الحشر: 10].
الرِّسَالَةُ الخَامِسَةُ وَالأَخِيرَةُ: مِنْ أَسْبَابِ الثَّبَاتِ اتِّخَاذُ قُدْوَةٍ فِي الحَيَاةِ، وَاِتِّخَاذُ رُفْقَةٍ صَالَحَةٍ، فَمَا أَكْثَرَ مَنْ كَانَتْ انْطِلَاقتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ بنَوَايَا صَادِقَةٍ صَالَحَةٍ سَلِيمَةٍ، وَلَكِنْ سُرْعَانَ مَا انْحَرَفَتْ بِهِمْ دُرُوبُ الحَيَاةِ إلَى مَسَالِكَ كَانَتْ نِهَايَتُهَا تَعِيسَةً، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحِيطُوا أَنْفُسَهُمْ بِرُفْقَةٍ صَالِحَةٍ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ: كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً»؛ وَإمَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحَصِّنُوا أَنْفُسِهِمْ بِاتِّبَاع قُدْوَةٍ حَسَنَةٍ، وَقُدْوَتُنَا خَيْرُ الخَلْقِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَا فِي سِيَرِ عُظَمَاءِ أُمَّتِنَا مَجَالٌ وَاسِعٌ بِحَمْدِ اللَّهِ فِي جَمِيعِ مَنَاحِي الْحَيَاةِ، فِي المَاضِي وَفِي الزَّمَنِ المُعَاصِرِ، يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ سِيَرُهُمْ مَادَّةً خِصْبَةً تُسْتَلهم مِنْهَا الدُّرُوسُ وَالعِبَرُ، وَسَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ العِصْمَةِ مِنْ فِتَنِ آخِرِ الزَّمَانِ، وَمَا أَخْطَرَهَا وَمَا أَكْثَرَهَا.
أَسْأَلُ اللَّهَ القَدِيرَ أَنَّ يُسَدِّدَ خُطَى طَلَبَتِنَا، وَيَأْخُذَ بِأَيْدِيهِمْ إلَى مَا فِيه صَلَاحُهُمْ وَصَلَاحُ شُعُوبهم وَأَمَّتِهِمْ.
اللّهُمَّ إِنَّا نسألُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، وَالغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، وَالفَوْزَ بِالجَنَّةِ، والنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ اللَّهُمَّ دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ اللَّهُمَّ آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ اللَّهُمَّ الحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الموْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللَّهُمَّ احْفَظْنَا واحْفَظْ بِلَادَ المسلمين، واجْعَلْ بَلَدَنَا هذا آمِنًا مُطْمَئِنًا، سَخَاءً رَخَاءً وسَائِرَ بِلَادِ المسلمين، برحمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وارْفَعْ مَقْتَكَ وَغَضَبَكَ عَنَّا، ولَا تُسَلِّطْ علينا بِذُنُوبِنَا مَنْ لَا يَخَافُكَ فِينَا وَلَا يَرْحَمُنَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ اسْقِنَا الغَيْثَ، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الغَيْثَ، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الغَيْثَ وَلَا تَجْعَلْنَا من القَانِطِينَ.
اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا المَظْلُومِينَ المُسْتَضْعَفِينَ في غَزَّةَ وفلسْطِينَ.
اللَّهُمَّ سَدِّدْ رَميَ المُجَاهِدِينَ، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ أَقدَامَهمْ، وَاربطْ على قُلُوبِهِمْ، وانْصُرْهُمْ على أَعدَائِكَ أَعْدَاءِ الدِّينِ، واجْعَلِ اللَّهُمَّ آخِرَ كَلَامِنَا في الدّنيا لَا إلَهَ إِلَّا اللّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ، ثُمَّ احْشُرْنَا يومَ القِيَامَةِ في زُمْرَةِ خَيْرِ الأَنَامِ، مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.
آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ.
عبادَ اللّهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90].
فَاذْكُرُوا اللّهَ العَظِيمَ الجَلِيلَ يذكُرْكُمْ، واشْكُرُوهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45].
للتصفح والتحميل: