الخطبة الأولى
الحَمْدُ للّهِ ربِّ العالمينَ، الرّحمنِ الرّحيمِ، أَمَرَنَا بالرّحمَةِ والتَّرَاحُمِ والإحسَانِ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، القائِلُ سبحانَهُ: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم 21]؛ وأَشْهَدُ أَنَّ سيدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ، الرّحمَةُ المهدَاةُ، والنّعمَةُ المسدَاةُ، أَرْحَمُ النّاسِ بأهلِهِ، وأَرْحَمُ النّاسِ بالخَلْقِ، القائِلُ صلّى اللّه عليه وسلّم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»، صلواتُ ربّي وسلامُهُ عليه، وعلَى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسَانٍ إلَى يومِ الدِّينِ.
أمّا بعد:
أيّها المؤمنون: الأسْرَةُ لبِنَةٌ من لَبِنَاتِ المجتمَعِ، وقلعَةٌ من قِلَاعِ الإسلَامِ، وحِصْنٌ من حصونِ الإيمَانِ، إذا صَلَحَتْ صَلَحَ المجتمَعُ بأسرِهِ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ المجتمَعُ كلُّهُ، وهي مَهدُ الطّفلِ ومَرْعَاهُ الأوّل، منها تنطلِقُ مسيرتُهُ لبناءِ شخصيّتِهِ في جميعِ مَرَاحِلِ عمرِهِ، وفي رِحَابِهَا يكتسِبُ أخلاقَهُ وعقيدتَهُ وتربيَّتَهُ… ولذلك أَمَرَنَا ربُّنَا عَزَّ وجَلَّ بحمايَةِ الأسرَةِ ووقايتِهَا من كُلِّ ما يُسِيءُ إليها، قال جَلَّ ذِكْرُهُ: (يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم 6].
وفي الحديثِ عن أبي هريرةَ رضي اللّه عنه قال: قال النّبيُّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ».
والأسرَةُ ــ عبادَ اللّهِ ــ لا تقتصِرُ على الزّوجين والأولادِ فقط، وإنّما تمتَدُّ إلى شبكَةٍ واسعَةٍ من ذوي القُرْبَى، وهم الأَجْدَادُ والجَدَّاتُ، والإخْوَةُ والأَخَوَاتُ، والأَعْمَامُ والعَمَّاتُ، والأَخْوَالُ والخَالَاتُ، وغيرُهُمْ ممّن تجمعُهُمْ رابطَةُ النَّسَبِ والمُصَاهَرَةِ أو الرَّضَاعِ، أينما كان مكانُهُمْ، وتتّسِعُ حتى تشملَ المجتمَعَ كُلَّهُ.
وتأكيدًا لأهميَّةِ الأسرَةِ ــ أيّها الإخوَةُ المؤمنون ــ جَعَلَ النّبيُّ صلّى اللّه عليه وسلّم الإحسَانَ إلى عناصرِهَا من أفضلِ الأعمَالِ وأَجَلِّ القُرُبَاتِ، فقال صلّى اللّه عليه وسلّم: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي»؛ ومن خلَالِ هذا الحديثِ، فإنّه صلّى اللّه عليه وسلّم يدعونَا للتَّأَسِّي والأقتدَاءِ به في معامَلَتِهِ لأهْلِ بيتِهِ، فهو بِأَبِي وأُمِّي عليه الصّلاةُ والسّلامُ خيرُ النّاسِ مطلَقًا، وأحسَنُ النّاسِ عِشْرَةً لأهلِهِ، وهو النّموذَجُ الذي يُهْتَدَى به، فما عَرَفَتْ الانسانِيَّةُ أَرْحَمَ ولا أَكْرَمَ منه معاملَةً وتَسَامُحًا، ورِفْقًا بأهلِ بيتِهِ وبالنّاسِ أجمعين.
أيّها المؤمنون: إنّ أكثرَ النّاسِ اتِّصَافًا بصِفَاتِ الإيمَانِ «أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا»، الَّذِي يَمتَثِلُ بالخُلُقِ الحَسَنِ بينَ النَّاسِ جميعًا، فيُحَسِّنُ خلُقَهُ مع اللّهِ عزَّ وجلَّ بالرِّضَا في القَضَاءِ، والصّبرِ على البَلَاء، والشّكرِ في النّعمَاءِ، ويكونُ حَسَنَ الخلُقِ مع النَّاسِ بكَفِّ الأَذَى عنهم، والإحسَانِ إليهم، وبَذْلِ العَطَاءِ فيهم، مع الصَّبْرِ على أذاهم؛ ويكون حَسَنَ الخُلُقِ مع أهلِهِ بالمعاشرَةِ الطّيّبَةِ والمعاملَةِ بالمعروفِ، كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم في الحديثِ الذي رواه التّرمذيُّ: «أَكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَأَلْطَفُهُمْ بِأَهْلِهِ»، فإذا أردت أيّها المؤمِنُ أن تَحْصُلَ على هذه الدّرجَةِ العاليَةِ من كَمَالِ الإيمَانِ، فعليك أن تحَسِّنَ أخلاقَكَ، وأن تكونَ لطيفَ المعاشرَةِ مع أهلِ بيتِكِ، حَسَنَ المعاشَرَةِ مع زوجتِكَ وأبنائِكَ، وأن تشعِرَهُمْ بحبِّكَ واحترامِكَ وتقديرِكَ حتى يبادِلُوكَ الحُبَّ والتّقدِيرَ والاحترَامَ، فتكونَ الأسرَةُ أسرَةً متماسِكَةً متراحِمَةً مترابِطَةً.
أيّها الأفاضلُ: إنّ صاحبَ القلبِ الرّحيمِ بَشَّرَهُ النّبيُّ صلّى اللّه عليه وسلّم بالجَنَّةِ، فقال عليه الصّلاةُ والسّلامُ: «أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ»، وذكر منهم أصحَابَ القلوبِ الرّحيمَةِ فقال: «وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ»، فزوجتُكَ ــ أخي الكريم ــ وأولادُكَ وبناتُكَ في أَمَسِّ الحاجَةِ الى معامَلَةٍ رحيمَةٍ، ورِعَايَةٍ حَانِيَةٍ، وبَشَاشَةٍ سَمْحَةٍ، وَوِدٍّ يسعُهُمْ، وقلبٍ كبيرٍ يرحَمُهُمْ، فعن عائشةَ رضيَ اللّهُ عنها أنّها قالت: قال رسولُ اللّهِ صلّى اللّه عليه وسلّم: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا، أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ الرِّفْقَ»، فكان بيتُهُمْ عامِرًا بالرّحمَةِ والشَّفَقَةِ ولِينِ القلبِ.
واحذر ــ أخي المؤمن ــ أن تفقِدَ هذه المعاني في بيتِكَ، فتكونَ ممّن وَصَفَهُمْ صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ»، أي: لا تُسلَبُ هذه الرَّحمَةُ والشَّفَقَةُ، «إلَّا مِنْ شَقِيٍّ»؛ لأَنَّ الرَّحْمَةَ عَلامَةُ الإيمَانِ، ومَنْ لا رَحمَةَ عنده فلا إيمَانَ له، ومَن لا إيمانَ له فهو شَقيٌّ.
أيّها الاباءُ والأمّهاتُ: إنَّ التَّرَاحُمَ الأسرِيَّ يعني حُسْنَ الرِّعَايَةِ والتَّرْبِيَةِ، وتَحمُّلَ المسؤوليَّةِ اتّجَاهَ أهْلِ البيتِ، وأعظَمُ رحمَةٍ يقدِّمُهَا المسلِمُ لأسرَتِهِ، غَرْسُ القِيَمِ والمَبَادئِ فِي نفوسِهِمْ، وهذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلاَّ بإعطَاءِ الأبنَاءِ حقَّهُمْ مِنَ الوقتِ، مجالسَةً وتعليمًا وتأديبًا ومداعَبَةً وأُنْسًا، فيلبّي رَغَبَاتِهِمْ، ويقضِي حَوَائجَهُمْ، كما قالَ رسولُ اللّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا».
ومِنَ الرَّحمَةِ بالزّوجَةِ، معاملَتُهَا معامَلَةً كريمَةً، ومعاشرَتُهَا بالمعروفِ، وإكرَامُ أهلِهَا، وهو ما أوصى به النَّبيُّ صلّى اللّه عليه وسلّم فَقَالَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا».
ومِنَ الرّحمَةِ بالوالدين طاعتُهُمَا والإحسَانُ إليها وحُسْنُ معاشرتِهِمَا، قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء 24 ــ 23].
ومِنَ الرَّحمَةِ بِالأهل الإنفَاقُ والتَّوْسِعَةُ عليهِمْ، يَقُولُ صلّى اللّه عليه وسلّم: «دِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ».
فاللّهمّ مُنَّ علينا بنعمَةِ التَّرَاحُمِ، واجعلنا رحمَاءَ بأهلِنَا وأرحامِنَا وجيرانِنَا والنّاسِ أجمعين، برحمتِكَ يا أرحَمَ الرّاحمين، يا رَبَّ العالمين.
بَارَكَ اللّهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفَعَني وإيَّاكُمْ بما فيه من الآيَاتِ والذِّكرِ الحكيم، أقولُ قولي هذا وأستَغفِرُ اللّهَ العظيمَ لي ولكم، فاستَغفِرُوهُ إنَّه هو الغفُورُ الرَّحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للّهِ الّذي بنِعمتِهِ تَتِمُّ الصّالِحات، الحمدُ للّهِ حقَّ حمدِهِ، حمدًا كما ينبغي لجلالِ وجهِه وعظيمِ سلطانِه، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللّهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أنّ سيِّدَنا محمّدًا عبدُ اللّهِ ورسولُه، نَشهدُ أنَّه بلَّغَ الرّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصحَ للأمّةِ، وكشفَ الغُمَّةَ، وجاهَدَ في اللّهِ حقَّ جهادِه حتى أتاه اليقين، صلواتُ ربّي وسلامُه عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعين.
أمّا بعد:
أيّها المؤمنون: إنّ للأسرَةِ وظيفَةً مقدّسَةً، ورسالَةً ساميَةً في المجتمَعِ والحَيَاةِ؛ لذلك يسعَى أعدَاءُ الإسلَامِ لِهَدْمِ صَرْحِهَا، ونَخْرِ كيانِهَا، ونَقْضِ أسسِهَا ودعائِمِهَا، فلهذا أصبَحَ من الواجِبِ علينا جميعًا حمايَةُ الأُسَرِ المسلمَةِ والذَّوْدُ عنها؛ وذلك بترسيخِ مبدَأِ التَّرَاحُمِ بين أفرادِهَا، وقيامِهَا على مبادِئِ الإسلَامِ ودعائِمِهِ وأسسِهِ، والابتعَادِ عن الفُرْقَةِ والنّزَاعِ وكُلِّ المشكلَاتِ التي تَتَسَبَّبُ في الطَّلَاقِ وتفكيكِ الأسرَةِ، واستحضَارِ مراقبَةِ اللّهِ تعالى في كُلِّ حركَةٍ من حَرَكاتِ الأسرَةِ وسكناتِهَا، وتَعَاوُنِ الجميعِ من الأقارِبِ والجيرَانِ والمجتمَعِ على النّهوضِ بالأُسَرِ المسلمَةِ، دون أن نَنْسَى دَوْرَ التّشريعَاتِ القانونيَّةِ المنظّمَةِ للعلاقَاتِ الأسريَّةِ، والّتي على إِثْرِهَا يَتَحَقَّقُ التَّوَازُنُ الأسَريُّ، ويُحْمَى من التَّفَكُّكِ والضَّيَاعِ، وكذلك دورُ المناهِجِ التعليميّةِ التربويّةِ في تهيئَةِ الأبناءِ والّشبَابِ لبناءِ أسرَةٍ مستقيمَةٍ، قائمَةٍ على الرّحمَةِ والتَّرَاحُمِ، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْاثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة 2].
الدّعاء.
للتصفح والتحميل: