خطبتا أول صلاة جمعة بجامع الجزائر، بعد الافتتاح الرّسمي، ألقاهما فضيلة الشيخ محمّد المأمون القاسمي الحسنيّ:
الخطبة الأولى
الحمد لله الّذي بنعمته تتم الصّالحات، وبتوفيقه تتحقّق المقاصد والغايات، نحمده سبحانه ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونتوب إليه، ونتوكّل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، من يَهد الله فلا مُضلّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، خلق ورزق، وعلّم وألهم، وهدى للتي هي أقوم، قال جلّ في علاه: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: 108].
ونشهد أن سيّدنا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا محمّدا عبده ورسوله، بلّغ الرّسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، وكشف الله به الغمّة، وتركنا على المحجّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزغ عنها إلّا هالك، وقال، عليه الصلاة والسلام: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا».
اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه، وعلى آله الطّيبين الطّاهرين، وأصحابه الغرّ الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، وعنّا معهم، بكرمك يا أكرم الأكرمين.
أمّا بعد؛ فيا أيّها الإخوة المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنّها العماد، وإنّها خير الزّاد، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ [المائدة: 88]، ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
إخوة الإيمان، يقول الله جلّ في علاه: ﴿إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [التوبة: 18].
المساجد بيوت الله، ومهابِط رحمته، ومُلتقى ملائكته وعباده الصّالحين، وقد أضافها الله إلى نفسه، إضافةَ تشريف وإجلال، وأذن برفعها وتشييدها فقال: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ﴾ [النّور: 36]؛ ووصف من يسعى في عمارتها بخمس صفات، كلّها جمال وجلال: الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، وعدم الخشية من أحد سوى الله.
فالمتّصفون بهذه الصّفات الجليلة العظيمة: هم الّذين يعمرون مساجد الله، وهم الّذين يستحقّون أن يرجوا هداية الله، وأن يكونوا من الفائزين برضوان الله ﴿فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [التوبة: 18].
وفي ضوء هذا التّوجيه القرآني، رأى المسلمون، عبر العصور والأجيال، أنّ من واجبهم العناية ببناء المساجد وعمارتها، بما أمر الله أن تُعمر به بيوته، وكانت هذه المبرّات في طليعة الأعمال الّتي يطيب أثرُها، ويدوم ثمرها، مع ما أعدّ الله للقائمين بكلّ عمل مبرور من تكريم يوم لقائه، وحسبنا قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ»؛ ولا عجب، فإنّ من شاد مسجدا فتح منفذا إلى نسمات الجنّة، ونفحات الفردوس الأعلى، وقد أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأنّ المساجد رياض الجنّة؛ وإنّما نال المسجد هذه المكانة العالية، لأنّه مركز الإشعاع الأوّل، وهو نقطة الارتكاز الأساسيّة الّتي ينهض عليها المجتمع المسلم، وفي القرآن الكريم ما يلفت إلى هذا المعنى، حين ذكر أنّ أوّل بيت أُقيم للنّاس باسم الله، هو المسجد الأوّل في تاريخ البشريّة، والمساجد في الأرض هي بيوت الله؛ وكلّها حرم آمن، وفروع لأوّل بيت وضع للنّاس: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: 96].
إخوة الإيمان: إنّ من فضل الله ومنّته علينا في هذه الجمعة المباركة، أن يلتئم جمعنا في جامع الجزائر، الّذي افتتحه السيّد عبد المجيد تبّون، رئيس الجمهورية، في منتصف شهر شعبان، وفي رحاب ذكرى الشّهداء الأبرار؛ إنّنا نشهد في هذا اليوم لحظة تاريخيّة، تسجّلها الأجيال الحاضرة، وتُنقش في الذّاكرة، لتبقى خالدة، تتناقلها الأجيال القادمة.
سيسجّل التاريخ لدولة الاستقلال، تحقيقَ هذا الإنجاز، الّذي يأتي تأكيدا لانتماء الجزائر الأصيل، ومرجعيتها المستمدّة من رصيدها التاريخيّ، وعطاء علمائها، وإسهامات مراكزها العلمية، على مرّ الحقب والعصور؛ ويقام هذا الصّرح الدينيّ الكبير، ليضاف إلى نظرائه في البلدان الإسلامية، وتزدان به في بلادنا الحواضر العلميّة الّتي أسّست في ربوعها لإقامة دين الله وتعليم كتابه، وإصلاح النّفوس بالدّين القيّم والتّوجيه الرّاشد؛ بُني فوق أرض سقتها دماء الشهداء، وخلّدها حبر العلماء؛ وافتتح في ذكرى من استشهدوا من الـمقاومين، فِي الأشهر الأولى للاحتلال، في مجزرة العَوفيّةِ البشعة بأرض الحرَّاش القريبة من المحمّدية؛ كما استشهد آلاف الجزائريّين من أجل الدّفاع عن بيت الله، جامع كتشاوة، والذّود عن حرمته، إنّه لوفاءٌ خالصٌ، وتجديدٌ للعهد بمن فَدَوْا هذا الوطن، وبمن قاوموا الاحتلال، منذ أن وطِئ أرضَنا الطّاهِرةَ، وفاء لشعبنا المسلم الأبيّ الّذي ظلّ مرابطًا، وتحصّن بركن الإسلام، ولاذ بقلاعه، من عهد الأمير إلى ثورة التحرير، مدركًا أنّ الشهادة في سبيل الله ليست موتا، ولكنّها حياة.
وممّا نذكره من مواقف الأمير عبد القادر التّاريخيّة، ما عبّر عنه في رسالة له، يقول فيها: «لو جمعت فرنسا سائر أموالها، وخيّرتني بين أن أكون ملكًا عبدًا، أو أن أكون حرًّا فقيرًا معدمًا، لاخترت أن أكون حرًّا فقيرًا»، ثمّ استطرد الأمير قائلًا في جوابه: «كيف تفاخرون بقوّة فرنسا، ولا تقدّرون قوّة الإسلام، مع أنّ القرون الماضية أعدل شاهد على قوّة المسلمين، وانتصاراتهم على أعدائهم، ونحن وإن كنّا ضعفاء على زعمكم، فقوّتنا بالله الّذي لا إله إلّا هو لا شريك له».
وهكذا، كانت المدارس والمعاهد والزّوايا العامرة بالذّكر والعلم معاقل للتربية والجهاد، ثمّ تبعتها جمعية العلماء الـمسلمين الجزائريّين، وشكّلت كلّها قلاعا قرآنية حصينة، امتزجت في رسالتها الرّوح الدّينيّة الإسلاميّة بالرّوح الوطنيّة؛ ودفعت عن شعبنا مخاطر التّنصير والتّغريب، وحفظت له عقيدته وقيمه، ومقوّمات شخصيته الأساسيّة؛ وها هي المحمّدية في عهد الاستقلال، قد عادت إلى المحمّديين، والحمد للّه ربّ العالمين، عادت إلى الحبيب المصطفى، إلى سيّدنا محمّد عليه الصّلاة والسّلام، بمنارة علوُّها ارتقاء الشّهداء، وشموخ الـمجاهدين والوطنيّين، علوّ «التّوحيد»، بمنارة تقابل تاريخًا عريقًا للجامع الأثريّ الكبير بالعاصمة، الّذي ظلّ مرجعًا دينيًّا، وفضاءً للعلم والقضاء.
والـمنارتان تشهدان وتحاوران العالم الصّوفيّ الجزائريّ، سيّدي عبد الرّحمن الثّعالبي، دفين الـمحروسة، الّذي رابط ضدّ الاعتداءات الإسبانيّة على سواحلنا، وكان قدوة لعلمائنا من أجل الإصلاح الاجتماعيّ والدّفاع عن حمى الوطن، ونشر قيم المحبّة، وإشاعة روح التّسامح والأخوّة.
نحن اليوم معاشر المسلمين، سعداء بافتتاح هذا الصّرح الحضاري الشّامخ، ليكون ــ بحول الله ــ الجامع لكلّ أبناء الجزائر، بمختلف مكوّناتهم، وتنوّع نسيجهم الثّقافيّ والاجتماعيّ، يُحافظ على مرجعيّتهم الدّينيّة، ويحصّن قيمهم الرّوحيّة والوطنيّة، يسعى، بحول الله، لتتآلف برسالته الأرواح، وتترابط القلوب، لا يجد النّاس في رحابه إلّا صلاحًا وفلاحًا، ومثابةً وأمنًا، ولا يستمعون من منبره إلّا للموعظة الحسنة، والكلمة الهادية لأقوم طريق وأهدى سبيل، سبيله الدّعوة إلى الله بمنهج الوسطية والاعتدال؛ وهو منهج الإسلام، منهج الحقّ الّذي لا يشوبه باطل، منهج الهدى الّذي لا يغشّيه ضلال.
سيكون جامع الجزائر هو الجامعة، فمنه ــ إن شاء الله ــ تنطلق قوافل العلماء، تتفجّر من صدورهم الحكمة والـمعرفة، ليس للوطن فقط، ولكن للإنسانيَّةِ جمعاءَ، هذا الـمأمول منه بعون الله، وبه نحيِي تاريخ مساجدنا الّتي كانت منارات علم، ومنتديات حوار، ومعاقل حضارة، من مسجد أبي المهاجر دينار، إلى مسجد سيّدي عقبة بن نافع، ومساجد بجاية وتلِمسان وعنابة وتوات، وغرداية وقسنطينة.
إنّنا نريد أن يكون «جامع الجزائر» امتدادًا لهذا التّاريخ الحافل بالأمجاد، نريده مركز إشعاع دينيّ وعلميّ، يشعّ بنور هدايته، وطنيًّا ودوليًّا، ويسعى في برامجه لتغيير النّظرة إلى المؤسّسات الدّينيّة والعلميّة، بإعطاء الصّورة الحقيقية لرسالته الحضاريّة.
إخوة الإيمان: إنّ العالم اليوم يعيش أزمة ضمير، وانهيارًا في القيم والأخلاق، وازدواجية في المعايير، وما الحروب القائمة اليوم، ومنها حرب الإبادة الإجراميّة الدّائرة على أرض فلسطين، إلّا دليل على ذلك، وفي ظلّ هذه الأوضاع المتردّية، تفاقمت الإساءة إلى الرّموز والمقدّسات الدّينيّة، مع انتشار الأصوليّة الغربيّة، وتنفيذ مستمرّ لمخطّطات الصّهيونيّة العالميّة، وقد وقف العالم أجمع على عدالة قضيتنا المركزيّة، وحقيقة صراعنا مع الكيان الصّهيوني الدّخيل، وامتداداته العالميّة، وما له من تداعيات على واقع المجتمعات، وخطورة الأفكار النّمطيّة، الّتي تكتسح الحضارة الإنسانيّة؛ وأصبح تغيير العالم ضرورة حتمية، لإنقاذ المجتمعات البشريّة، وهذا يقتضي إعادة بناء ثقافة الحوار على أسس صحيحة، وتنمية الوعي بحقّ الاختلاف، وإنّنا نأمل أن يكون جامع الجزائر مركزًا عالميًا، روحيًّا وثقافيًّا وسياحيًّا؛ يسهم مع مراكز العالم الإشعاعيّة، في نشر قيم الحوار، وتقديم الصّورة السّليمة للإسلام، والردّ على الّذين يسيئون إلى المسلمين، ويطعنون في الدّين الحنيف.
إنّ مشروع «جامع الجزائر» يضع ضمن أهدافه، الإسهام في تصحيح ما اختلّ من موازين، بفعل الحضارة المادّية المعاصرة، وما أحدثته من تشوّهات وانحرافات، أساءت إلى البيئة، وإلى الإنسان والكون والحياة؛ ونتطلّع إلى أن تتجسّد في رسالته منظومة القيم الإسلاميّة، ومعاني الحضارة الإسلاميّة، بخصائصها الذّاتيّة؛ ومن أبرزها أنّها ربّانيّة المصدر والغاية، إنسانية النّزعة والتّوجّه. ومن مميّزاتها أنّها حضارة رسالة ومسؤوليّة، حضارة أمّة تخدم دينها بخدمة الإنسانيّة؛ ولقد تساءل الإمام المجدّد عبد الحميد بن باديس رحمه الله بقوله: «لمن أعيش؟»، وأجاب: «أعيش للإسلام وللجزائر»، وأضاف: «… فلمّا عرفنا هذا، وأكثر من هذا في الإسلام، وهو الدّين الّذي فطرنا عليه الله بفضله، علمنا أنّ دين الإنسانيّة، لا نجاة لها ولا سعادة إلّا به، وأنّ خدمتها لا تكون إلّا على أصوله، وأنّ إيصال النّفع إليها لا يكون إلّا من طريقه، فعاهدنا الله على أن نقف حياتنا على خدمته ونشر هدايته..».
فما أحوج البشريّة إلى هداية الإسلام، لتتحرّر من عبوديّة الدّنيا، وترتقي إلى عبوديّة الله، ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران: 101].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه، إنّه غفور رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد للّه ربّ العالمين، والعاقبة للمتّقين، ولا عدوان إلّا على الظّالمين، ونشهد أن لا إله إلّا الله وليّ الصّالحين، ونشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، خاتم الأنبياء والمرسلين، ورحمة الله للعالمين.
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك عليه، وعلى أتباعه وأنصاره، ومن دعا بدعوته، واتّبع سنّته إلى يوم الدّين.
أمّا بعد، فيا أيّها الإخوة المؤمنون: إنّنا نعيش في عصر أكبر سماته هو أنّه عصر تجمّعات وتكتّلات، وأمّتنا هي أجدر النّاس بذلك، وأحوج ما تكون إلى تحقيق التّجمّع والتّكتّل والتّوحيد، أمام أعدائها، وقوى الشرّ العالميّة، الّتي تقف لها بالمرصاد من كلّ جانب، ولقد كان من فضل الله علينا أن جعل شعار أمّتنا «كلمة التّوحيد، وتوحيد الكلمة»، فالله واحد، والقرآن واحد، والرّسول واحد، والقبلة واحدة، والأمّة واحدة، ﴿وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون: 52].
لقد كانت الهجرة النّبويّة أعظم حدث في تاريخ الأمّة الإسلاميّة، ونقطة تحوّل في مسيرتها المباركة، كانت بداية الانتقال من الضّعف إلى القوّة، ومن الجماعة إلى الأمّة والدّولة، وكانت نقلة تاريخيّة مشهودة لبناء مجتمع جديد، وتشييد دولة الحقّ والعدل والإحسان، يباركها الرّحمن، وتضيئ جوانبها أشعّة الهدى والإيمان، وامتنّ الله بذلك على رسوله عليه الصّلاة والسّلام، فقال: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 62 ــ 63].
وحين نراجع تاريخ أمّتنا الحافل بمفاخر الزّمن، وجلائل الأعمال، نجد أنّ أمّتنا لم تشهد عزًّا، ولم تحقّق نصرًا، إلّا بروح التّضامن والتّكافل، والتّكتّل والوحدة، وأنّها لم تتعرّض للزلازل والنّكبات، إلّا في ظلمات التّفرّق والتّمزّق والشّتات، ولذلك كان شأن الأعداء دائما أن يتعاملوا معها بطريقة: «فرّق تسد»، فهم لا يغيظهم شيء كأن يروا الأمّة المؤمنة متآلفة متماسكة؛ ولا يسرّهم شيء كسرورهم حين يرونها متفرّقة متمزّقة، لأنّهم، حين ائتلافها واتّحادها لا يستطيعون أن ينالوا منها منالًا، ولكن حين تفرّقها وتمزّقها، يجدون الثّغرات الّتي يَنْفُذُونَ منها إلى أغراضهم الّتي يريدون، ومآربهم الّتي لها يسعون.
لقد ذقنا الأمرّين في الماضي بسبب التّفرّق والتّمزّق، وقاسينا من جرّاء ذلك ما قاسينا في أوطاننا وشعوبنا، وقد آن الأوان كي نفقه هذا الدّرس العصيب، فنترك روح العصبيّة والإقليميّة، وننبذ نزعة الجاهليّة، وننتظم تحت لواء الوحدة والتّضامن بين شعوبنا، حتّى نواجه الأخطار المحدقة بنا، في قوّة وصلابة؛ وحتّى نقف وقفة الحزم والعزم أمام أعدائنا، الّذين يتربّصون بنا الدّوائر، وهم على الأبواب، عن يمين وشمال، وقد يحقّقون فينا مشاريعهم وأهدافهم، لا سمح الله، إن لم نكن صفًّا واحدًا وهدفًا واحدًا.
إنّ هناك من يدعو إلى أن تيأس الأمّة من نفسها، إذا لم يكن فيها بقية صالحة لحياة عزيزة كريمة، ونحن المسلمين نقرأ أحاديث لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تمنحنا طاقة من الأمل، بأنّ المستقبل للإسلام مهما يبلغ الفساد، وتتكاثر قوى الشّرّ، ويتعاظم طغيان أهل الباطل، ومهما تشتدَّ الخطوب ويدلهمَّ الظلام، فإنّ اليأس لا يجد إلى قلوب المؤمنين سبيلًا، ﴿وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]، ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ﴾ [الحجر: 56]، ﴿وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21].
فاتقوا الله، عباد الله، توبوا إلى ربّكم واستغفروه، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن تُوزَنَ عليكم، وأكثروا من الصّلاة والسّلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تكونوا من الفائزين، فإنّ من صلّى عليه صلاة، صلّى الله عليه بها عشرًا.
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأنصاره إلى يوم الدين، واجعلنا بالصّلاة عليه من الفائزين، وبسنّته من العاملين، وعلى حوضه من الواردين، ولا تحل بيننا وبينه يوم القيامة، برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
اللّهمّ أصلح لنا ديننا الّذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا الّتي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا الّتي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا من كلّ خير، والموت راحة لنا من كلّ شرّ، ومتّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منّا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدّنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النّار مصيرنا، واجعل الجنّة هي دارنا ومستقرّنا، ولا تسلّط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
اللّهمّ ارفع مقتك وغضبك عنّا، ولا تؤاخذنا بما فعل السّفهاء منّا.
اللّهمّ آمنّا في أوطاننا، وأصلح أئمّتنا وولاة أمورنا.
اللّهمّ وفّق ولاة أمور المسلمين في كلّ مكان، اللهم وفّقهم لهداك، واجعل عملهم في رضاك.
اللّهمّ لك الحمد على ما أنزلت علينا من نعمة الغيث، اللّهمّ اجعله غيثًا مغيثًا هنيئًا مريئًا، تنبت لنا به الزّرع، وتدرّ به الضّرع، وتجعله عونًا لنا على طاعتك وبلاغًا إلى حين.
اللّهمّ أغث قلوبنا بالإيمان والتّقوى واليقين، وأغث أرضنا وأرض المسلمين بالخيرات والبركات، والأمطار والأرزاق، يا ربّ العالمين.
اللّهمّ ناصر من نصر الدّين، واخذل من خذل المسلمين، واجعل دائرة السّوء على أعدائك الكافرين.
اللّهمّ انصر إخواننا المؤمنين المستضعفين في كلّ مكان، اللّهمّ انصر إخواننا في فلسطين، واربط على قلوبهم، وثبّت أقدامهم، وانصرهم على عدوّك وعدوّهم، اللّهمّ أمّن خائفهم، واكس عاريهم، وأطعم جائعهم، اللهمّ افتح لهم فتحا مبينا، وانصرهم نصرا عزيزا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللّهمّ احفظ لبلادنا أمنها ووحدتها، ووفّق وليّ أمرها لما تحبّ وترضى، وخذ بناصيته للبرّ والتّقوى، اللّهمّ ارزقه البطانة الصّالحة الّتي تدلّه على الخير وتذكّره به وتعينه عليه.
اللّهمّ رُدّ عن بلادنا وبلاد المسلمين كيد الكائدين، واحفظها من مكر الماكرين.
اللّهمّ من أرادنا وأراد بلادنا وأمّتنا بخير، فوفّقه إلى كلّ خير، وأيّده بنصرك وتوفيقك يا ربّ العالمين، ومن أرادنا وأراد بلادنا وأمّتنا بسوء، فاجعل الدائرة عليه، واشغله بنفسه، وردّ كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، وخذه أخذ عزيز مقتدر، يا قويّ يا عزيز، يا ذا الجلال والإكرام.
اللّهمّ عليك بالظّالمين، اللّهمّ عليك بالمجرمين، فإنّهم لا يُعجزونك، اللّهمّ أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللّهمّ أرنا فيهم بأسك الّذي لا يُردّ عن القوم المجرمين.
اللّهم بارك لنا في شعبان، وبلّغنا رمضان، غير فاقدين ولا مفقودين.
اللّهمّ اغفر لنا في يومنا هذا برحمتك يا أرحم الرّاحمين، واختم لنا بخاتمة السّعادة أجمعين، يا ربّ العالمين.
اللّهمّ لا تفرّق جمعنا إلّا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وعمل صالح متقبّل مبرور، وآخر دعونا أن الحمد لله ربّ العالمين.
للتصفح والتحميل:
أول خطبة جمعة بجامع الجزائر