كلمة السيّد عميد جامع الجزائر الشّيخ محمّد المأمون القاسميّ الحسنيّ في ملتقى وطني بعنوان:
«الشّيخ سعيد بن بالحاج شريفي (الشّيخ عدّون).. شخصيته وجهوده في خدمة الثّوابت الوطنيّة وقضايا الأمّة»
يوم السبت 05 جمادى الآخرة 1446هـ، الموافق 07 ديسمبر 2024م بالمركز الثّقافي لجامع الجزائر.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الّذي رفع من شأن العلماء العاملين. فقال في كتابة المبين: ﴿… يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ…﴾، وقال جلّ من قائل: ﴿… قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ …﴾
الحمد لله الذي أكرمنا بخير كتاب أنزل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
وامتنّ علينا بأشرف نبيّ أرسل، أرشد أمّته إلى أقوم طريق وأهدى سبيل.
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك عليه، وعلى آله الطيّبين الطّاهرين، وسائر صحابته والتّابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين.
أمّا بعد. حضرات السّادة الأفاضل. أيّها الحضور الكريم.
أحيّيكم بتحيّة مباركة طيّبة،
فالسّلام عليكم ورحمة الله ورحمة الله وبركاته.
أرحّب بكم في رحاب جامع الجزائر؛ في جمع مبارك يلتئم احتفالًا بعَلَمٍ من أعلام الجزائر، جمع بين العلم والعمل، والزّهد والورع، وكان ممّن عناهم الله تعالى، بقوله: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾
في ملتقانا هذا نحيي الذّكرى العشرين لوفاة الشّيخ عدّون، الشّيخ سعيد شريفي، رحمه الله، الّذي أفنى عمره في خدمة العلم، وتربية النّشء، وتكوين الأجيال. غرس فيهم حبّ الدّين والوطن؛ وألهب فيهم الغيرة على الإسلام والجزائر.
كان المنهج الّذي سار عليه، في مشواره العلميّ والدّعوي، يعتمد على غرس الاستقامة في النّفوس، والاعتدال في الرّأي، والصّدق في القول، والإخلاص في العمل. ولهذا تكلّلت جهوده بالنّجاح، ونبتت مساعيه، واستوت على سوقها وأينعت، ونمت غراسه وأثمرت. أخرجت من كلّ زوج بهيج، بإذن الله. ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ…﴾. وهذا شأن أمثاله من العلماء الربّانيّين، يطلبون العلم لله، ويعطونه لله، على بصيرة وهدًى من الله.
لقد تجلّت في عالِمنا المحتفَى به فضائل الوسطيّة والاعتدال؛ وهي الّتي تضمن القوّة في العمل الإسلاميّ، والدّوام والاستمرار عليه، مع نبذ التعصّب الضيّق، وكلّ أسباب الفرقة والتّنازع والاختلاف المذموم. وما أحوجنا نحن المسلمين إلى تظافر الجهود، وتوحيدها في خدمة الإسلام، وحمايته من جميع مظاهر التطرّف والعنف، ومن الغلوّ المفضي إلى تكفير المسلمين، بسبب الجهل بحقائق الدّين، ونتيجة التصوّرات المضلّلة، والفهوم الخاطئة لتعاليم الإسلام ومقاصد شريعته السّمحة.
وهنا أتذكّر عبارات وردت في رسالة تكتسي أهمّيتها من موضوعها، وتستمدّ قيمتها من مقام صاحبها، وهو أحد العلماء الربّانيّين في بلادنا، الشيخ محمّد بن أبي القاسم الحسني الهامليّ، رحمه الله؛ حذّر فيها من عواقب السّقوط في وحل التعصّب المقيت، ومن الجرأة على الله بتكفير المسلمين، وانتقاص طائفة منهم وتبديعهم وتضليلهم….
وممّا ورد في رسالته الّتي كتبها قبل قرن وستّة وثلاثين عاماً، وكأنّه يخاطب بها الأمّة اليوم: “… مذهبنا أنّه لا يُكفَّر أحدٌ بذنب من أهل القبلة … إنّ إطلاق اللّسان في انتقاص المسلمين، وتضليلهم، جرأة عظيمة على الله تعالى؛ وخروج عن جادة الاستقامة، وخرق سياج يتعسّر رتقه، وفتح باب فتنة يتعذّر غلقه. “
وفي شأن التعصب ومضارّه، قال: ” إنّي أكره التعصّب للمذاهب، وقولهم: فلان على الحقّ، وفلان على الباطل. وعندي أنّ المحقّ هو من اتّبع الكتاب والسّنّة، وعمل بما فيهما. فقد تقرّرت القواعد، وتأصّلت المذاهب، وقلّد كلّ فريق إمام مذهبه، وانقطع النّزاع، ومرجع الخلق كلّهم إلى الله، وحسابهم عليه ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾
حضرات السّادة والسّيّدات.
إنّ الجزائر تفخر بأعلامها، وتسعد بأبنائها البررة ورجالها الصّالحين، من أمثال الشّيخ عدّون، رحمه الله، أولئك الأخيار الّذين جاء وصفهم في الحديث:» يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ.«
والأمّة الواعية هي الّتي تعرف لعلمائها قدرهم، وتحفظ لهم حقوقهم، وتحيي ذكراهم لتقتدي الأجيال بسيرتهم. والواجب علينا أن نفيد من علومهم ومناهجهم، ونكمل مسيرتهم.
وفي هذا الصّدد، ندعو الباحثين المختصّين، وطلبة الدّكتوراه أن يغوصوا في فكر الشّيخ عدّون، وأقرانه، ومنهجهم العلميّ، ليستخرجوا منه ما يفيد في إصلاح أوضاعنا وتقويم مسيرتنا.
إنّنا نحتاج دائماً وأبدًا إلى العلماء الّذين يتخصّصون في الدّراسات الإسلاميّة، يتنزّهون عن الهوى في العلم، أخذًا وعطاء، ويتجرّدون للحقّ والحقيقة، يكونون فقهاء في الدّين، قادرين على بحث النّوازل والمسائل المستجدّة في الحياة، واستخلاص الأدلّة، وأخذ الأحكام من النّصوص، حتّى لا يتطاول على الإفتاء في الدّين، من لا يعرفون فرائض الوضوء، حسب التّعبير الشّعبيّ المشهور.
نريد لطلبة العلم أن يرتبطوا بالعلماء الثّقاة، المعروفين بسعة العلم، وسلامة المنهج، فيتلقّوا عنهم العلم النّافع الصّافي، حتّى يتّصل سندهم بالنبيّ ﷺ، فيكونوا على بصيرة من دينهم، وبيّنة من ربّهم، وصلة بنبيّهم. لقد شبّه، عليه الصّلاة والسّلام، العلماء الرّبانيّين بالنّجوم الّتي يهتدى بها في الظّلمات، فقال:» إنَّ مَثَلَ العُلَماءِ في الأرضِ، كمَثَلِ النُّجومِ في السَّماءِ، يُهتَدى بها في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ، فإذا انطَمَسَتِ النُّجومُ، أَوشَكَ أنْ تَضِلَّ الهُداةُ.« رواه الإمام أحمد
فالعلماء هم الأدلّاء الّذين يهتدى بهم في ظلمات الجهل والضلال، فإذا فُقدوا ضلّ السّالكون. ومادام العلم باقيًا في الأرض، فالنّاس في هدى؛ وبقاء العلم ببقاء حملته؛ فإذا ذهبوا وقع الناس في الضّلال ، كما في الحديث الّذي رواه عبد الله بن عمر، رضي الله عنه، عن النبيّ ﷺ: » إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَمَاءِ ، حتَّى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا«.
حضرات السّادة والسيّدات.
إنّ دعوتنا متجدّدة إلى أن نجعل العلم دعامة لبناء مجتمعنا، نستمدّه من مصادره النقيّة، ونطلب منه ما نحتاج إليه في ديننا، ونستكمل ما نحتاج إليه من علم ينفعنا في دنيانا.
إنّ أمّتنا في حاجة ماسّة إلى الأخلاق مع مزيد من العلم. بل نحن في حاجة إل الأخلاق قبل حاجتنا إلى العلم. فلا خير في علم لا يكسى بالأخلاق، ولا جدوى من علم لا ينتج جيلا سويًّا، ولا يثمر عملاً صالحًا. فإنّ قليلاً من العلم مع الأخلاق، قد يكون أرقى من علم لا يمنع صاحبه عن إثم، ولا يصدّه عن باطل أو خنا.
إنّ أكبر همّنا هو تحصين شباب الأمّة في مواجهة تحدّيات الحاضر والمستقبل، أكبر همّنا هو إعداد الجيل الّذي يحسن فهم دينه ويعمل به. الجيل الّذي يؤمن بانتمائه الإسلاميّ الواحد، ويمقت التجزئة والطائفية، وينبذ الغلوّ والتّعصّب والأنانيّة. ويمكننا تحقيق هذه الأهداف، بحول الله، بإدخال إصلاحات على المنظومة التّربويّة، والبرامج التّعليميّة، بإدراج مادّة الأخلاق في جميع مراحل التعلّم والتّكوين، وتعزيز موادّ التاريخ والتربية الإسلاميّة واللّغة العربيّة.
فمن شأن هذه المقرّرات الدّراسيّة، الّتي تتّصل بثوابت الأمّة وعناصر الهويّة، أن تبعث الطّاقات الرّوحيّة في نفوس الأجيال، وقاية وعلاجًا؛ وتثقّف الشّباب بالثّقافة الحقيقيّة، الّتي تجعل الفرد المسلم يعيش داخل مجتمعه، يحمل ضميرًا حيًّا، وعقلًا راشدًا، وفكرًا سويًّا؛ الفرد الّذي يفصل بوعي بين الحقوق والواجبات، ويلتزم بأداء الحقوق والواجبات. إنّه المنهج القويم الّذي تتحقّق به الحياة الإسلاميّة المتوازنة المتكاملة، وترتبط به الحياة الرّوحيّة بالحياة الاجتماعيّة.
رحم الله الشّيخ سعيد شريفي، وجزاه عنّا خير ما يجزي به عباده المحسنين؛ وأعلى درجته في الصّالحين؛ وجعل ما قدّمه خدمةً للإسلام والمسلمين في صحائف أعماله وميزان حسناته؛ وجمعنا به في مستقرّ رحمته، ودار كرامته، ومقام أوليائه.
اللّهم اجمع قلوبنا على التّقى، ونفوسنا على الهدى، وعزائمنا على الرّشد، وعلى حبّ الخير وخير العمل. واجعل يومنا خيرًا من أمسنا، وغدنا خيرًا من يومنا؛ واختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين. اللهمّ اجعلنا من الّذين يقولون فيعملون، ويعملون فيخلصون، ويخلصون فيقبلون.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.