Scroll Top

خطبة الجمعة: الانتماء للوطن

الخطبة الأولى

الحمدُ للّهِ الّذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرضَ وجَعَلَ الظّلمَاتِ والنُّورَ ثم ّالذين كفروا بربّهم يعدلون، وأشهدُ أن لا إله إلّا اللهُ، خلقنا من ترابٍ، وجعل لنا الأرضَ موطِنًا ومسقَرًّا إلى حين، وأشهدُ أنّ سيّدَنَا محمّدًا عبدُ اللّهِ ورسُولُهُ، وصفيُّهُ من خلقِهِ وخليلُهُ، بلَّغَ الرّسالَةَ وأَدَّى الأمانَةَ وجَاهَدَ في اللّهِ حَقَّ جهادِهِ حتى أتاه من ربِّهِ اليقينُ؛ صلّى اللّه عليه وعلى آله وصحبِهِ إلى يومِ الدِّينِ، أمّا بعد؛

فيا أيّها الإخوة المومنون: لقد خَلَقَنَا اللّهُ تعالى من ترابِ الأرضِ، وقدّر فيها معايِشَنَا، ثمّ نعود إليها، ثمّ نخرجُ منها تارَةً أخرى، قال تعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرى) [طه: 55]، فهي مبدؤُنَا وموطنُنَا، وفيها تستقِرُّ أبدانُنَا بعد المَمَاتِ.

فلا غَروَ أن يكونَ الإنسَانُ مفطورًا على الارتبَاطِ بالموطِنِ الذي وُلِدَ فيه وتَرَعْرَعَ في أكنافِهِ، واحْتَضَنَ آبَاءَهُ وأجدادَهُ، وتَضَمَّنَ قصَّةَ حياتِهِ، بما تكتنفُهُ من مشاعِرَ وأحاسيسَ مختلفَةٍ.

ولقد ظَلَّ الإنسَانُ عبرَ كلِّ العصورِ والحَضَارَاتِ يُخَلِّدُ القَصَصَ والرّوايَاتِ والأشعَارَ التي تحكي ارتباطَهُ بموطنِهِ حتى ولو كان مقفِرًا ومجدِبًا.

يقول حجّةُ الإسلَامِ الغزاليُّ رحمه اللّه تعالى: «والبشرُ يألَفُون أرضَهُمْ على ما بها، ولو كانت قَفْرًا مستوحَشًا، وحُبُّ الوطنِ غريزةٌ متأصِّلَةٌ في النُّفُوسِ، تجعَلُ الإنسَانَ يستريحُ إلى البَقَاءِ فيه، ويَحِنُّ إليه إذا غَابَ عنه، ويدافِعُ عنه إذا هُوجِمَ، ويَغْضَبُ له إذا انْتُقِصَ».

 وقد شهدت البشرِيَّةُ منذ فَجْرِ التّاريخِ إلى اليومِ الحروبَ والنّزاعَاتِ بين الدُّوَلِ والإمبراطوريَّاتِ والقبائِلِ التي غالِبًا ما تكون دِفَاعًا عن الأوطَانِ ورَدًّا للأطمَاعِ فيها، وقد قَصَّ علينا البَارِي سبحانَهُ قصَّةَ ملإٍ من بني إسرائيلَ استأذنوا نبيَّهُمْ في القتالِ في سبيلِ اللّهِ دفَاعًا عن أوطانِهِمْ، فَأَذِنَ لهم وحذّرهم من التّخاذُلِ والتّراجُعِ؛ قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا) [البقرة: 246].

وبيّن سبحانه في آية أخرى شدَّةَ ارتباطِ النّاسِ بأوطانِهِم، فقرنَهَا في الابتلَاءِ بقتلِ النّفسِ على ما فيه من شِدَّةٍ ومشقَّةٍ، تضاهيها مشقّة الابتلاءِ بالإخراجِ من الوَطَنِ، فقال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء: 66].

وهذا نبيُّنَا صلّى اللّه عليه وسلّم غَدَاةَ نزولِ الوحيِ عليه، وما لقيَهُ جَرَّاءَ ذلك من الرَّوْعِ، أخذتْهُ زوجَتُهُ خديجةُ رضي اللّه عنها إلى ابنِ عمِّها وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فأخبرَهُ أنّ قومَهُ سيخرجونَهُ من بلدِهِ، فَفَزِعَ النَّبِيُّ صلّى اللّه عليه وسلّم لذلك، ولم يستغرِبْ تكذيبَهُمْ ومحاربَتَهُمْ له؛ إذ إنّ ذلك متوقَّعٌ منهم، فقال عليه الصّلاةُ والسّلامُ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟».

ثمّ ها هو عند الهجرَةِ بعد أن أَذِنَ اللّهُ تعالى له بالخروجِ ــ كما روى التّرمذيُّ ــ يقول متحسِّرًا على تركِهِ بلده: «وَاللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ».

وزاد الإسلَامُ على ذلك الارتباطِ والحُبِّ للأوطَانِ لمسَةً ربّانيَّةً روحانيَّةً، فَدَلَّنَا على الاستشفَاءِ بتربَةِ البَلَدِ بإذنِ اللّهِ، فقد روى الشّيخانِ عن عائشةَ رضي اللّه عنها «أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَكَى الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ مِنْهُ، أَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا، وَوَضَعَ سُفْيَانُ سَبَّابَتَهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَهَا «بِاسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا».

وقد استخرج العلامَةُ ابنُ باديس رحمه اللّهُ من هذا الحديثِ معنًى رائقًا رائعًا في حُبِّ الوَطَنِ، حيث قال: «ولو أننا عرضنا حديثَ التّربَةِ والرّيقَةِ على طائفَةٍ من النَّاسِ مختلفَةِ الأذوَاقِ متقسمَةِ الحظوظِ في العلمِ وسألناهم: أية علاقَةٍ بين الشّفاءِ وبين ما تعاطاه النبي صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ من أسبابِهِ في هذا الحديثِ؟ فماذا تراهم يقولون؟

يقول المتخلِّفُ القَاصِرُ: تربةُ المدينةِ بريقِ النّبيِّ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ شِفَاءٌ ما بعده من شِفَاءٍ.

ويقول الطّبيبُ المستغرِبُ: هذا محَالٌ، في التّرابِ مكروبٌ، وفي الرّيقِ مكروبٌ، فأنّى يشفيان مريضًا أو ينفِّسَانِ عن مكروبٍ؟!

ويقول الكيماوِيُّ: ها هنا تفاعُلٌ بين عنصرين، ودعوا التّعليلَ، فالقولُ ما يقُولُ التّحليلُ.

ويقول ذوو المنازِعِ القوميَّةِ والوطنيَّةِ، ولو كانوا يدينون بالوثنيَّةِ: آمنّا بأنّ محمّدًا رسولُ اللّهِ، فقد عَلَّمَ النّاسَ من قبل أربعَةَ عَشَرَ قرنًا أنّ تربَةَ الوَطَنِ معجونَةٌ بريقِ أبنائِهِ، تُشفي من القروحِ والجروحِ، ليربط بين تربتِهِ وبين قلوبِهِم عقدًا من المحبَّةِ والإخلَاصِ له، وليؤكِّدَ فيها معنى الحِفَاظِ له والاحتفاظِ به، وليقرِّر لهم من مِنَنِ الوَطَنِ مِنَّةً كانوا عنها غافلين، فقد كانوا يعلمون من عِلْمِ الفطرَةِ أنّ تربَةَ الوَطَن تُغَذِّي وتَرْوِي، فجاءهم من عِلمِ النبوّةِ أنّها تشفِي، فليس هذا الحديثُ إرشادًا لمعنى طبيّ، ولكنّه درسٌ في الوطنيَّةِ عظيمٌ.

ولو أنصف المحدّثون لما وضعوه في بابِ الرُّقَى والطِّبِّ، فإنّه ببَابِ «حُبِّ الوَطَنِ» أَشْبَهُ».

وجعل الشّرعُ الدّفاعَ عن الوَطَنِ وردَّ العدوانِ من الواجباتِ الشّرعيّةِ، والتولِّي عن ذلك من الكبائِرِ، فقال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة: 190].

وقال أيضًا: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) [البقرة: 194].

وقال بخصوصِ التّراجُعِ والتّخاذُلِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الأنفال: 15 ــ 16].

وَعَدَّ الإسلَامُ من مات دون دينِهِ أو مالِهِ أو عِرضِهِ شهِيدًا، فقد روى التّرمذيُّ عن سعيد بن زيد أنّ رسولَ اللّهِ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»؛ واجتمعت كلمَةُ علمَاءِ المسلمين على أنّ من مات يدافِعُ عن وطنِهِ المعتَدَى عليه فهو شهِيدٌ، لأنّه مات يدافِعُ عن جميعِ هذه الأمورِ أو بعضِهَا، فيكون في أعلى دَرَجَاتِ الشَّهَادَةِ.

أيّها السّادةُ الأعزاءُ: إذا كان الانتمَاءُ للأوطَانِ والتّعلُّقُ بها فطرَةٌ بشريَّةٌ، رسّختها الشّريعَةُ الإسلاميَّةُ بالأحكَامِ التي سَبَقَ الإشارَةُ إليها؛ فلا شَكَّ أنّ ذلك يستوجِبُ معرفَةَ كيف يكون هذا الانتمَاءُ؟ وما هي متطلّبَاتُهُ؟

فالانتمَاءُ للوطَنِ على نوعين:

الأوّلُ: انتمَاءٌ جَسَدِيٌّ فطريٌّ، يشترِك فيه الإنسَان مع سَائِرِ الكائنَاتِ الحَيَّةِ، وهو انتمَاءٌ إلى منطقَةٍ جغرافيَّةٍ محدّدَةٍ، مجرّدٌ عن المَعَانِي والأَحَاسِيسِ، وهذا النّوعُ يمكن أن تطرَأَ عليه الهجرَةُ إلى غيرِهِ متى ما توفَّرَتْ ظروفٌ حياتيَّةٌ أفضَلَ.

وأمّا النّوعُ الثّاني: فهو انتمَاءٌ روحِيٌّ عاطفِيٌّ فكرِيٌّ: ويكون بالانتمَاءِ إلى تاريخِ الوَطَنِ وأمجَادِهِ، بمعرَفَةِ هذا التّارِيخِ ومعرَفَةِ سرديّتِهِ من خلَالِ الأجدَادِ والآبَاءِ لا المغرضين والأعدَاءِ، فلا يعقَلُ أن ينتسِبَ شخصٌ إلى بَلَدٍ دون أن تكون له درايَةٌ بتارِيخِ قومِهِ وبلدِهِ الذي هو جزءٌ منه، والتّارِيخُ ذاكرةُ الأُمَمِ، فالانتمَاءُ إلى الوطَنِ لا يتأتّى إلا بشعورِ الفرْدِ بأنّه جزءٌ وامتدَادٌ لتاريخِ بلدِهِ وقومِهِ، ولا يحصل ذلك إلّا بالاستفادَةِ من دروسِهِ وعِبَرِهِ، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [يوسف: 111]، سواء كانت مؤلمَةً أو سعيدَةً، قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140].

ــ يكون هذا النّوع بالانتمَاءِ إلى العظمَاءِ الّذين صنعوا أمجَادَهُ؛ بمعرفَةِ أخبارِهِمْ وإنجازاتِهِمْ واتخاذِهِمْ قدوةً للأجيالِ، وفيهم غناءٌ وكفايةٌ عن الرّموزِ الكَاسِدَةِ التي يصنعها عَالَمُ التّفاهَةِ، يتخطَّفُ بها عقولَ الفتيَانِ والفَتَيَاتِ، والانتمَاءُ للوطَنِ يكون بالاعترَافِ بفضلِهِمْ، وذِكْرِ جميلِ صنائِعِهِمْ، بالشّكْرِ والامتنَانِ، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمانِ) [الحشر: 10].

ــ يكون أيضًا بالانتمَاءِ إلى دينِهِ وعقيدتِهِ وحَضَارَتِهِ الممتدّةِ في أعمَاقِ التّارِيخِ، وما خلَّفَتْهُ من قِيَمٍ وآثَارٍ في شَتَّى مناحِي الحياةِ.

ــ يكون الانتمَاءُ بالتّمسُّكِ به وبقِيمِهِ، وامتثَالِ أحكامِهِ، وبدراسَةِ خَصَائِصِ حَضَارَتِهِ وأهم معالمِهَا، والعَمَلِ على استعادَةِ وهْجِهَا وبريقِهَا.

ــ يكون بالانتمَاءِ إلى واقِعِ الوطنِ، بالوعيِ بالتّحدّياتِ التي يعيشها والأخطارِ المحدقةِ به، والمساهمةِ في الدّفاعِ عنه وعن تراثِهِ وثقافتِهِ، بأن يكون عاملَ بنَاءٍ في مقابِلِ معاوِلِ الهَدْمِ والتَّضلِيلِ والتَّشْوِيهِ.

ــ يكون أيضًا بالانتمَاءِ إلى مستقبَلِهِ، بالمساهَمَةِ في بنائِهِ بالنَّجَاح في الحَيَاةِ، بوضْعِ الأهدَافِ الكبيرَةِ والسّعْيِ لتحقِيقِهَا وإنجازِهَا، وهو أفضلُ ما يقدِّمُهُ المرءُ إلى وطنِهِ وقومِهِ حين يكون ناجِحًا في مجالِهِ وتخصّصِهِ، مهما علا أو نزل في مقاماتِ الحياةِ.

قال تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].

بهذا يكون الانتمَاءُ الفَعَّالُ والبَنَّاءُ للوطَنِ؛ فلا يكون مُجَرَّدَ مَحَلٍّ للسَّكَنِ، بل يجعلُهُ يسكُنُ الفؤادَ ويحوِّلُهُ إلى رسالَةٍ في الحَيَاةِ، يفرَحُ لفرحِهِ ويَأْسَى لِمَآسِيهِ.

أقول قولي هذا وأستغفِرُ اللّهَ العظيمَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ، فاستغفرُوُه تجدُوهُ غفورًا رحيمًا.

الخطبة الثانية

الحمدُ للّهِ الذي بنعمتِهِ تَتِمُّ الصّالحَاتُ، وأشهَدُ أن لا إله إلّا اللّهُ وحده لا شريك له، وأشهَدُ أنّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللّهمّ صَلِّ وسَلِّمْ على هذا النّبيِّ الأمينِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ إلى يومِ الدّينِ.

أيّها الجمعُ الكريمُ: ونحن نتحدّثُ عن الانتمَاءِ للأوطَانِ، وكيف ينبغي أن يكون؟ لا يفوتُنَا أن نبارِكَ لكُلِّ من شَرَّفَ هذا البَلَدَ بإنجَازٍ أو نَجَاحٍ أو عَطَاءٍ في أيِّ شأنٍ من شؤونِ الحَيَاةِ، وكلِّ من هو نقطَةٌ بيضَاءُ ناصعَةٌ في جبينِ بلدِهِ وقومِهِ، وكلِّ من يقدِّمُ جهدًا يزيدُ البَلَدَ قوّةً، ويسلُكُ به مَسلَكَ النّهضَةِ والعُلَا، ممّن يشتغلون في صَمْتٍ وفي خَفَاءٍ، لا ينتبِهُ إليهم أَحَدٌ فيشكرَهُمْ، لكنَّ اللهَ يعرفُهُمْ، وهو يجازِيهِمْ بإحسانِهمْ خيرَ الجَزَاءِ، ممّن يحمون ظهورَنَا، ويرعَون أمنَنَا، ويسهرون اللَّيَالِي حتّى يستفِيقَ النّاسُ على يومٍ جميلٍ.

في الأخيرِ، رسالتِي إلى الشّبابِ واليافعين من أبنائِنا وبناتِنا، أن يتعرّفوا أكثَرَ إلى تاريخِ بلدِهِمْ المَجيدِ، وعلى عظمائِنَا ممّن صَنَعُوا أمجادَنَا، وهم كُثُرٌ ــ بحمدِ اللّهِ تعالى ــ، ويعتزُّوا بانتسابِهِمْ إلى حضارتِهِ، ويعزّزوا انتماءَهُمْ إلى حاضِرِهِ، ويشاركُوا في صناعةِ مستقبلِهِ، فمن حَقِّ أجدادِنَا وعظمائِنَا علينا أن نَمْتَنَّ لإنجازاتِهمْ التي خَلَّدَهَا التّاريخُ وشَرُفْنَا بها؛ بإكمَالِ مسيرَةِ المَجْدِ والنّهضَةِ التي أفنوا أعمارَهُمْ سَعيًا في سبيلِ تحصيلِهَا، وأن نعيشَ آمَالَ هذا البَلَدِ، ونكونَ ممّن يضعون لَبِنَةً في مستقبلِهِ المُشْرِقِ، قال تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) [الأعراف: 58]، وبلدُنا طيِّبٌ، وشبابُهُ طيِّبٌ من نَسْلٍ طيِّبٍ، فسوف يكون نباتُهُ طيِّبًا بحولِ اللهِ تعالى.

اللّهمّ استعمِلْنَا فيما يرضِيكَ، والطفْ بنا فيما جَرَتْ به المقادِيرُ، واجعلْ بَلَدَنَا آمِنًا مطمئِنًّا، سَخَاءً رَخَاءً، وسَائِرَ بلادِ المسلمين، وَوَحِّدْ كلمتَنَا، واجمعْ شملَنَا، واجعلنَا يَدًا واحدَةً على من عَادَانَا، واختِمْ بالباقيَاتِ الصّالحَاتِ أَعْمَالَنَا.

اللّهمّ أصلحْ لنا دينَنَا الذي هو عصمَةُ أمرِنَا، وأصلحْ لنا دُنْيَانَا التي فيها معاشُنَا، وأصلحْ لنا آخرتَنَا التي إليها معادُنَا، واجعَلْ الحَيَاةَ زيَادَةً لنا في كلِّ خيرٍ، واجعلْ المَوْتَ رَاحَةً لنا من كُلِّ شَرٍّ؛ وأحسِنْ عاقبتَنَا في الأمورِ كلِّهَا، وأجرْنَا اللّهمّ من خِزْيِ الدّنيَا وعَذَابِ الآخِرَةِ.

واجعلْ آخِرَ كَلَامِنَا في الدّنيَا لا إله إلّا اللّهُ محمَّدٌ رسولُ اللّهِ، ثمّ احْشُرْنَا في زُمْرَةِ خيرِ الأَنَامِ، مع الّذين أَنْعَمْتَ عليهم من النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشّهدَاءِ والصَّالِحِينَ وحَسُنَ أولئك رَفِيقًا.

اللّهمّ آمين.

للتصفح والتحميل:

جَامعُ الجزائر مركزٌ دينيّ، عِلميّ، ثقافيّ وسياحِيّ، يقعُ على تراب بلديّة المُحمَّديَّة بولاية الجزائر، وسط خليجها البحريّ. تبلغُ مساحته 300.000 متر مربّع، يضمّ مسجِدا ضخما للصّلاة، يسع لـ 32000 مصلٍ، وتصلُ طاقة استيعابِه إلى 120 ألف مصلٍ عند احتساب صحنه وباحَاته الخارجيّة.
قاعة الصّلاةِ وصحنها الفسـيح، جاءت في النّصوص القانونيّة المُنشِأة للجامع، تحتَ تسميةِ “الفضاء المسجدِيّ”.
ويضُمّ المجمّعُ هياكلَ أخرى ومرافقَ سُمّيت بالهَيئات المدمجة، ووجدت هـذه المرافق لتُساهم في ترسـيخِ قِيم الدّين الإسلاميّ من: قرآن منزّلٍ وسنّةِ مطهّرة على صاحبها أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم، وكذا للحِفاظ على المرجعيّة الدّينيّة الوطنيّة، بما يخدُم مكتسبات الأمّة ويحقّق التّواصل مع الغير.
وجامع الجزائر هـو معلم حضاريّ، بِهندسته الفَريدة، التي زَاوجـت بين عراقة العِمارة الإسلاميّة بطَابعها المغَاربيّ الأندلسيّ، وآخِر ابْتكارات الهندسة والبِناء في العالم، حيث حقّق عدّةَ أرقامٍ قيَاسيةٍ عالميةٍ في البناء.
فمن حيث الأبْعادُ الهنْدسيةُ، يُعدّ الجامع بين المساجد الأكبر والأضْخَم عبر العالم، بل هو ثالث أكبرِ مسجدٍ في العالم بعد الحرَمين الشريفَين بمكة المُكرّمَة والمدينَةِ المنوّرَة، وهو أكبر مساجد أفْريقيا على الإطلاق، فمساحة قاعة صلاته تبلغ 22 ألف متر مربع، وقُطر قبته 50 مترا، وفُرِش بـ 27 ألف متر مربع من السجّاد الفاخر المصنوعِ محليّا، وتزيَّنت الحوافّ العلويّة لجدرانه بـ 6 آلاف متر من الزّخرفة بمختلف خطوط الكتابة العربيّة.