الخطبة الأولى
الحمد لله السّلام، سمّى الجنّة دار السّلام، وجعل تحيّة أهلها فيها السّلام، وأشهدُ أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، القائل سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) [البقرة: 203]، وأشهدُ أنّ سيّدنا محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، نبيُّ السِّلْمِ وداعيةُ السّلامِ، ومُؤْثِرُ الوِئَامِ على الخِصَامِ، القائِلُ صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى وَضَعَهُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، فَأَفْشُوهُ بَيْنَكُمْ»، صلواتُ ربّي وسلامُهُ عليه، وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين، وعلى الخلفاءِ الرّاشدين، وعلى الصّحابَةِ أجمعين، وعلى التّابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدّينِ.
أمّا بعدُ: معاشرَ المؤمنين، من المبادئِ التي دعا إليها الإسلامُ السّلامُ، والسّلامُ ضرورةٌ بشريّةٌ، ومصلحةٌ شرعيّةٌ، تتطلّع إليه البشريّةُ في تلهُّفٍ وشوقٍ، إذ لا أَمْنَ ولا رخاءَ ولا بناءَ ولا إعمارَ إلّا به، فالإسلامُ دينٌ يَنْشُدُ السّلامَ ويحضُّ عليه، وليس ثَمَّةَ دليلٌ على أولويَّةِ السّلامِ بين القيمِ الإنسانيّةِ التي أرساها الإسلامُ، من أنّ السّلامَ صفةٌ واسمٌ من أسماءِ اللهِ؛ قال تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ) [الحشر: 23].
وَهُوَ السَّلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ سَالِمٌ مِنْ كُلِّ تَمْثِيلٍ وَمِنْ نُقْصَانِ
وسَمَّى سبحانَهُ الجنّةَ دَارَ السّلامِ فقال: (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الأنعام: 127]، فالجنّةُ سلامٌ ليس فيها نَغَصٌ ولا حسدٌ ولا مرضٌ ولا قلقٌ ولا خوفٌ، وجعل سبحانَهُ التّحيَّةَ فيها سَلَامًا، قال تعالى: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ) [يونس: 10]، وجعل سبحانَهُ السّلامَ تحيَّةَ المسلمين في الدّنيَا كلّما التقوا أو افترقوا، فرادى وجماعاتٍ إلى يومِ الدّينِ، فقال تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ [النور: 61]، وَوَصَفَ سبحانَهُ عبَادَهُ المتّقين بالمسالَمَةِ فقال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الَارْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان: 63]، أي: لا عداوةَ بيننا وبينكم ولا شحناءَ ولا بغضاءَ، بل اللِّينُ والرّحمَةُ والّصفحُ والمغفرَةُ.
عبادَ اللهِ: لقد ورد لفظُ «السّلامِ» وما اشتُقَّ منه في القرآن الكريم في أربعٍ وأربعين آيةً، أغلبُهَا مكيَّةٌ، في حين لم يردْ لفظُ الحربِ إلّا في سِتِّ آياتٍ، كُلُّهَا مَدَنِيَّةٌ، وهذا يدلُّ على أنّ القرآنَ الكريمَ يدعو إلى السّلامِ في الدّرجَةِ الأولى، ويحثُّ عليه، ويُرَغِّبُ فيه، ويرفُضُ الحربَ والتّنازُعَ والفُرْقَةَ.
دِينِي هُوَ الْإِسْلَامُ دِينُ مَحَبَّـــــــةٍ دِينُ السَّلَامَةِ سَالِمُ الْبُنْيَانِ
دِينُ الْمَوَدَّةِ وَالتَّسَامُحِ وَالْهُدَى شَتَّانَ بَيْنَ الْحَـقِّ وَالْبُهْتَـــانِ
أيّها المؤمنون: إنّ دعوةَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم دعوةُ سَلَامٍ، وأَمْنٍ، وطمأنينَةٍ، فلقد كان يدعو إلى السّلامِ، ويهدي النّاسَ إليه، ويدلُّهُمْ عليه، فمن ذلك قولُهُ صلّى الله عليه وسلّم في الحديثِ المتَّفَقِ عليه: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ»، وقولُهُ صلّى الله عليه وسلّم في الحديثِ الّذي رواه مسلمٌ عن أبي هريرة رضي الله عنه: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا، ــ وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ــ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ»، وهذا كلُّهُ يدلُّ على السّلامِ والسِّلمِ والمسالَمَةِ، والمصالَحَةِ بين النّاسِ.
وفي حديثِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم الّذي رواه التّرمذيّ قوله: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»، دلالةٌ واضحةٌ على أنّ الإنسانَ لا يكون سعيدًا في هذه الدّنيا إلا بالسّلامِ، وإنّ أوَّلَ ما نطق به رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم عند دخولِهِ المدينة المنوّرة كلمات تأمُرُ بالسّلامِ وتفُوحُ بالحُبِّ، وتصدحُ بالودِّ، فقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الحاكمُ والتّرمذيُّ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ».
وإنّ من حِرْصِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم على السّلامِ، أنّه كان يغيِّرُ الأسماءَ التي تتنافى وهذه القيمة العظيمة، فقد روى الإمام أحمد عن عَلِيٍّ رضي الله عنه قال: «لَمَّا وُلِدَ الْحَسَنُ سَمَّيْتُهُ حَرْبًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: حَرْبًا، قَالَ: بَلْ هُوَ حَسَنٌ».
أيّها المؤمنون، أيّتها المؤمنات: إنّ من مقاصِدِ الإسلامِ وغاياتِهِ العظامِ السّلامَ، فهو يَبُثُّ السّكينَةَ في نفوسِ العبادِ، وينشرُ الاستقرارَ في البلادِ، ولذلك نهى الإسلامُ عن كلِّ ما من شأنِهِ إيذاء المسلمين ونشر الفساد وفقدان الأمن في المجتمع، فحرّم إيذاءَ الآخرين والتعدِّي عليهم، سواءٌ باللّسانِ أو اليدِ، وحرّم القتلَ، وأكْلَ أموالِ النّاسِ بالباطِلِ، والاعتداءَ على الأعراضِ، وحرّم العدوانَ مطلقًا، والتّعاونَ عليه، وأمرنا بأن نتعاوَنَ على الخيرِ والبِرِّ، فقال: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2].
وقال تعالى: (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة: 190].
أيها المؤمنون: أنشروا السّلامَ وكونوا سَلَامًا على من حولكم، وذلك ببذلِ النَّدى، وكفِّ الأذى، وأداءِ الحقوقِ والواجباتِ، والتي من أعظمِهَا سلامة الصّدرِ لإخوانكم المسلمين، فلا تحملوا حِقْدًا، ولا حسدًا، ولا بغضاءَ، ولا شحناءَ، ولا عداوةً، ولا غِلًّا، كما رُوي ابن ماجه عن عبدِ الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ، نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ».
أقول قولي هذا وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائِرِ المسلمين، فاستغفرُوهُ يغفر لكم، وهو الغفورُ الرّحيمُ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الّذي بنعمتِهِ تتمُّ الصّالحاتُ، الحمدُ للهِ حَقَّ حمدِهِ، حمدًا كما ينبغي لجلالِ وجهِهِ وعظيمِ سلطانِهِ، وأشهدُ أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ سيّدنا محمّدًا عبدُ الله ورسولُهُ، نشهدُ أنّه بَلَّغَ الرّسالَةَ، وأدّى الأمانَةَ، ونصح للأمَّةِ، وكشف الغمَّةَ وجاهد في اللهِ حقَّ جهَادِهِ حتّى أتاه اليقين، صلواتُ ربّي وسلامُهُ عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد؛ أيّها المؤمنون: منذُ أن صَدَعَ نبيُّ السّلامِ صلّى الله عليه وسلّم بدعوة الحقّ، قبل نحو خمسةَ عشَرَ قرنًا من الزّمانِ، لم يتوقّفْ أعداءُ الإسلامِ يومًا عن إثارَةِ الشّبهَاتِ المُغْرِضَةِ والمَزَاعِمِ الكاذبَةِ ضدَّ دينِنَا الحنيفِ للتّشكِيكِ فيه، وصَرْفِ النّاسِ عنه، فاتّخذوا كلَّ السُّبُلِ في ذلك، فلم يفلحوا ولم يجدوا بابًا يلجؤون منه لتشوِيهِ صورتِهِ إلّا بإلصاقِ تهمَةِ معاداتِهِ للسِّلْمِ والسّلامِ، وأنّه دينُ قتلٍ وسفكٍ للدّماءِ، ووجدوا ضالتهم في هذه التّهمَةِ، فاحتلّوا دُوَلًا وشرّدوا شعوبًا بأَسْرِهَا، وما فلسطين منا ببعيدَةٍ، فقد ألصقوا بأصحَابِ الأرضِ وطُلَّابِ الحَقِّ تهمَةَ الإرهَابِ، واستطَاعَ الصّهاينَةُ وأعوانُهُمْ أن يفعلوا الأفاعيلَ، والنّتيجَةُ عشرَاتُ الآلَافِ من الشّهدَاءِ، معظمهم نساء وأطفال، مساجدُ دُمّرت، قُرًى سُحقت، مستشفياتٌ فجّرت، نساءٌ رُمِّلَتْ، أطفالٌ جُوِّعُوا وهلمّ جرًّا، فأين السّلامُ يا دعاةَ السّلامِ؟!
ما تفعلونه ليس بغريبٍ ولا جديدٍ، فالجزائرُ شاهدَةٌ على ظلمكم وفسادكم وطغيانكم، فقد قتلتم في بضعَةِ أيّامٍ خمسةً وأربعين ألفَ شهيدٍ في أحداثِ الثّامِنِ من مايو، سنةَ خمسٍ وأربعين وتسع مائة وألف، والتي نحيي ذكراها هذه الأيّام، فهل بدّلتم ديننا يا دعاةَ السّلامِ؟ هل فرّقتم شعبنا؟ هل أخذتم أرضنا؟ وهل، وهل، لم تفعلوا ولن تفعلوا؛ قال تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف: 80]، ما زدتمونا إلّا تمسُّكًا بديننا وحبًّا لأرضنا ودفاعًا عن قيمنا، وسيبقى الإسلامُ دينَ السّلامِ والسِّلْمِ والأمْنِ، والطمأنينَةِ، ولو كره المشكّكون.
الدّعاء.
للتصفح والتحميل: