بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد؛
الأخ الفاضل السيّد عبد الخالق صيودة، والي ولاية قسنطينة المحترم.
حضرات السّادة المسؤولين القائمين على هذه الولاية التاريخية العريقة.
السيّد رئيس المجلس العلمي لجامع الجزائر، الشيخ موسى إسماعيل.
السيّد رئيس جمعية العلماء المسلمين، السيّد عبد المجيد بيرم.
أصحاب السماحة المشايخ والعلماء وأساتذة الجامعات، وعمّار الزوايا والمنارات القرآنية.
أسرة الإعلام.
أيّها الحضور الكريم، كلّ باسمه ومقامه.
لقد كانت مدينة قسنطينة إحدى الحواضر الّتي أسهم علماؤها في إنشاء خزائن للكتب، إمّا بفضل مُصنّفاتهم، أو ممّا استنسخوه من نفائس المخطوطات، أو عن طريق اقتنائهم للمُصنّفات والمخطوطات، وغيرها من الوثائق والرّسائل النّادرة، ذات القيمة العلميّة الكبيرة…
وعُرف عن بعض أهل العلم، في هذه المدينة العريقة، أنّهم كانوا يبادرون إلى جعل مكتباتهم وقفًا لله تعالى، وخدمةً لطُلّاب العلم والمعرفة. وظلّت تلك المُصنّفات، وستبقى بحول الله، مُتداولةً بين الباحثين وطلبة العلم؛ وهي من صنائع المعروف؛ وفي ذلك ما فيه من الأجر والثّواب.
ولعلّ من أهمّ خزائن مدينة قسنطينة، الّتي عرفناها مكتبة الشيخ نعيم النعيمي، وقد أهديت لجامعة الأمير عبد القادر؛ فضلًا عن مكتبة الشّيخ محمّد خير الدّين بالجزائر العاصمة، وقد آثر وقفها في حياته على الجامعة نفسها.
وبالمناسبة، يطيب بنا أن نجدّد بكلّ امتنان، تشكّراتِنا الخالصة، لعائلة الشّيخ عبد الحميد بن باديس، رحمه الله؛ الّتي كانت سبّاقة إلى الخيرات، حيث بادرت، قبل أشهر قليلة، إلى تنفيذ إرادة الأستاذ عبد الحقّ بن باديس، رحمه الله، الّذي أوصى بأن تُوهب مكتبة شقيقه، لمكتبة جامع الجزائر، وقامت الأسرة الكريمة بتسليمها إلى عمادة جامع الجزائر، في حفل بهيج، كهذا الحفل الّذي نشهده، في هذا الجمع الكريم.
فنحن نعود اليوم إلى هذه المدينة التاريخية، وإلى أهلها الكرماء، لنشهد تسلّم مكتبتين، لعالميْن جليليْن. الأوّل هو الأستاذ المُحامي، المؤرّخ الأديب، الملتزم بقضايا وطنه وأمّته. الّذي سخّر نفسه لخدمة العدل والعدالة، وحقوق المُستضعفين، ألا وهو الأستاذ سليمان الصّيد، رحمه الله، الّذي خدم الدّين ولغة الضّاد، وعاش لثوابت الأمّة وهويّة الوطن، تغمّده الله بواسع رحماته، وأسكنه فسيح جنّاته، وجعل ما قدّمته عائلته وأبناؤه، من بعده، خالصا مخلصا لوجه الله الكريم. وتضمّ هذه المكتبة ثلاثة عشر ألف عنوان من المطبوعات؛ وثلاثمائة مؤلّفا من المخطوطات.
وأمّا الوقف الثّاني، فهو للأستاذ الشّيخ حسان موهوبي، أستاذ الحديث في جامعة الأمير عبد القادر، رحمه الله، الّذي نذر نفسه للدّين والوطن، ولكرسي التّعليم؛ حيث تخرّج على يديه المئات من طلبة العلم. تغمّده الله بواسع رحماته، وأسكب عليه من نعيم جناته؛ وتضمّ مكتبتُه ألف عنوان من المطبوعات.
ونحن في هذا المقام، نُشيد بالعائلتين الكريمتين؛ ونهنّئ أفرادها بهذه المبرّة الّتي يرجع أجرها للأستاذيْن الفاضليْن، وللعائلتيْن الكريمتيْن؛ وقد وفّقهم الله تعالى إلى إسداء هذا المعروف، الّذي جمع بين الحَسَنتيْن: الصدقة الجارية والعلم الّذي ينتفع به. وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».
وإذا كنّا نعلم بأنّ قسنطينة كانت، وستبقى إن شاء الله، حاضرة العلم والعلماء، فإنّنا نعتقد أنّ خزائن أخرى في هذه المدينة، مازالت تحفظ لنا ذخائر للعلم، وتشهد على جهود الرجال وإخلاصهم للدّين والأمّة والوطن. ونحن هنا نُهيب بكلّ المُخلصين المهتمّين بهذا الشأن، في هذه المدينة، وفي أنحاء الوطن، أن يحذوا حَذْوَ هذه العائلات القسنطينيّة، الّتي تبرّعت بمكتبات الآباء الكرام، لتكون وقفًا لله تعالى، على مكتبات جامع الجزائر، يفيد منها طلبةُ العلم الّذين يؤمّون الجامع، طلبةً وزائرين، والله أسأل، أن يكون الجميع شركاء في صنائع المعروف، ويكون لهم حظّهم الوافر من الأجر والثواب، والله لا يضيع أجر المحسنين.
حضرات السّادة والسّيّدات:
لقد سجّل التاريخ لحواضر العلم في البلاد العربية والإسلامية أنّها عرفت مكتبات كثيرة، من أشهرها “دار الحكمة” ببغداد الّتي كان يرعاها الخليفةُ العبّاسي المأمونُ (ت218هـ ــ 833م)، كما عرفت حواضر علميّة أخرى، مثل القاهرة وبجاية وتلمسان وفاس، وغيرها، مكتباتٍ كانت تحوي في رفوفها آلاف المخطُوطات الّتي نسخها الورّاقُون، ووقفها أصحابها على العلماء وطلّاب العلم يغترفون منها مختلف العلوم والمعارف. وظهرت مكتباتٌ في بلاد المغرب العربي، طيلة الحقبة الوسيطة والحديثة.
وقد أسهم أبناء الجزائر، منذ القديم في إنشاء المكتبات، وجعلها وقفا لله تعالى، ومنها مكتبة الشّيخ الطاهر بن صالح بن أحمد بن موهوب السّمعُوني الجزائري الصّنهاجي المالكي (ت1338هـ ــ 1920م)، التي أسّسها بدمشق. الشام.
أدّت المكتبات دورا كبيرا في الحياة الدّينيّة والفكريّة والعلميّة والأدبيّة، وفي ظهور كبار العلماء والأدباء، في مختلف ألوان المعرفة الإنسانيّة، أيام مجد حضارتنا العربيّة الإسلاميّة.
وللعلم؛ فإنّ أوقاف المكتبات، في عدّة بقاع من العالم الإسلامي، ومنها الجزائر، قد تعرّضت إلى جرائم الإتلاف والحرق، كما كان الأمر في بغداد على يد التتار، بعد احتلال بغداد عام 656هـ، ومن قِبَل غُلاة التّعصّب الدّيني، من الصّليبين الحاقدين على الإسلام، بعد سقوط غرناطة، وضياع الأندلس.
وعندنا في الجزائر، ضاعت أعداد كبيرة من الثّروة العلميّة، من المؤلّفات المخطوطة والمطبوعة، الّتي كانت مُخزّنّة في المساجد والزّوايا، وفي بعض بيوتات أهل العلم. فمئات الأسفار والمخطُوطات القيّمة والنّادرة ضاعت في عهد الاحتلال الفرنسي؛ وذلك بفعل ما كانت تقوم به المصالح الاستعماريّة؛ بدافع أحقاد صليبيّة وعُنصريّة بغيضة، وغطرسة إدارة مستبدّة، تجاه كلّ ماله علاقة بالعلوم الدّينيّة، والثّقافة العربيّة الإسلاميّة. فهذه إمّا تعرّضت للنّهب والتّرحيل إلى مكتبات ومتاحف باريس أحيانًا، وإمّا تعرّضت للإتلاف والحرق أحيانا أخرى.
حاول بعضُ مشايخ الزّوايا، من العُلماء العارفين بأهمّيّة المكتبات ومسؤولية الوقف حمايتها بنقل جانب من ذلك التّراث العلميّ، إلى وجهات آمنة، وإخفائه عن العيون، فوضعوه في مخابئ، حتّى رحيل الاحتلال البغيض.
ولا يمكننا، في هذه العُجالة، أن نتعرّض، بالذّكر، لكلّ المكتبات، بالجزائر، الّتي وقفها أصحابها، لوجه الله، حيثُ كانت وستبقى، إن شاء الله، مصادر للعلم ومراجع للباحثين والعلماء وذخرا لأهلها ومؤلّفيها ومانحيها الكرام.
ولذلك نقتصر، على الحديث عن وقف المكتبات بمدينة قسنطينة، حاضرة العلم والعلماء، وسنحاول التعريف بالوقف، وبالوقف العلمي خاصّة، باعتبار الوقف على المكتبات جزءا منه، وهو، أيضا، من أعظم القربات لله تعالى، فأوّل آية نزلت في كتاب الله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [سورة العلق: 1]، وذلك لما لقراءة الكتاب من أثر كبير في نهضة الأمم ورقيّها العلميّ.
والوقف العلميُّ هو تحبيس الأصول على منفعته العلميّة والتّعليميّة، كوقف المكتبات، ونسخ الكتب، ونسخ المصحف الشّريف، وتجليده، ووقف المدارس، وحلقات الكراسيّ العلميّة، والتكفّل بنفقات المُعلّمين ومدرّسي القرآن الكريم، والقائمين على مراكز العلم، وتسديد تكاليف وسائل الكتابة، ومحلّات الإطعام والإيواء، كما هو جارٍ به العملُ منذ عهُودٍ طويلةٍ بالزّوايا والكتاتيب، والمنارات القرآنيّة، والمعاهد العلميّة.
وننوّه هنا بأنّ الكتاب سيبقى الوسيلة العلميّة الأجدى والأنفع فائدة، والأكثر أمانًا وثقةً في نقل المعلومة من مضانّها ومصادرها، لاسيما في مجال البحث العلميّ؛ وذلك لأنّ الكتب الإلكترونيّة والمطبوعات والنّصوص الّتي تنشر في مُختلف الوسائط الافتراضيّة، قد طالها الذّكاء الاصطناعي، فهي لا تحظَى بالثّقة، لاعتمادها كمصادر ومراجع يقينيّة موثوقة.
ومن منافع الوقف أنّه يضع المكتبات في مُتناول كافّة طلّاب العلم، غنيّهم وفقيرهم، بينما الوسائط الرّقمية، المكـلّفة ماليّا، قد لا تتوفّر لأبناء الطّبقات الاجتماعية المعوزّة. ولقد أثبتت اختبارات التّربية وعلم النّفس، أنّ قراءة الكتاب الورقي ألصقُ للمعلومات والمعارف بالذاكرة والحفظ؛ بينما القراءة بالأجهزة الإلكترونية سرعان ما يطالُها النّسيان والتّلاشي.
هذا، واللهَ نسأل أن يوفّقنا جميعا إلى ما يُحبُّ ويرضى، وأن يأخذ بنواصينا للبرّ والتّقوى.
للتصفح والتحميل: