الخطبة الأولى
الحمد لله الكريم المنّان، ذي الطّول والفضل والجود والإحسان، أحمده سبحانه وتعالى حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، أكرمنا بشهر رمضان، شهرِ الرّحمة وفتح أبواب الجنان، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، وصفيّه من خلقه وخليله، أفضلُ من حجّ وصام، وأكرم من صلّى لربّه وقام، وخير من رعى حقّ الفقراء والأيتام، صلّ اللّهمّ وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وأزواجه، ومن اقتفى أثرهم واستن بسنتهم إلى يوم يقال لأهل الصّيام: ادخلوا جنةَ ربّكم من باب الريان بسلام، ألا واتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من دينكم بالعروة الوثقى، قال تعالى: (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، ألا وإنّ أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدي محمّدٍ عليه الصّلاة والسّلام، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة.
أمّا بعد: فقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].
أمّة الإسلام: إن الله تعالى قد كتبَ علينا صيامَ رمضانَ فرضًا مؤكّدًا كما كتبه على من سَلَفَنَا، ليعلمَ من يتبع رسلَ الله وأنبياءَهُ، ممن ينقاد إلى شهواتِهِ وأهوائِهِ ونزواتِهِ.
إنّنا على موعد عظيم مع شهر فضيل، سيظلِّلُنَا معبَّقًا بأشواقه، وسينزل بدارنا مُحمَّلًا بأسراره، وستغشانا بفضل الله بركاتُهُ، نترقّبُ حِلَّهُ علينا ضيفًا كريمًا، وأخًا عزيزًا، وكأنّي بنفحاته تدغدغُ أفئدتنا، وبرحماته تُسَرِّي عن أرواحنا، وبنسماتِ القرآنِ تطربُ آذاننا، وبحلاوةِ القيامِ تزيِّنُ مساجدنا، وبمظاهِرِ الوَحدةِ والمحبّةِ تؤلّف بين قلوبنا، وبرحمة التّجّارِ والأغنياءِ تشمل فقراءنا، فتخفِّفُ صدقاتُهم معاناةَ معوِزِينا، وبأبوابِ التّوبةِ تُفَتَّحُ للمقبلين منّا على التّطهّر من أدراننا وأوزارنا.
جَاءَ الصِّيَامُ فَجَاءَ الْخَيْرُ أَجْمَعُهُ تَرْتِيلٌ ذِكْرٌ وَتَحْمِيدٌ وَتَسْبِيحُ
فَالنَّفْسُ تَدْأَبُ فِي قَوْلٍ وَفِي عَمَلٍ صَوْمُ النَّهَارِ وَبِاللَّيْلِ التَّرَاوِيحُ
أيّها المؤمنون الصّادقون، أيّتها المؤمنات الصّادقات:
إنّ رمضان محطّةٌ سنويّةٌ لتهذيبِ النّفسِ وتزكيتِهَا من شوائبِهَا، وغسلِهَا من أدرانِهَا وأهوائِهَا، فهو المغتَسَلُ الّذي تتطهَّرُ فيه النّفسُ البشريّةُ وتزكو، وإنّ من رحمةِ اللهِ تعالى أن أعاننا في هذا الشّهرِ بتصفيدِ العدوِّ اللّدودِ للإنسان: إبليسَ وأعوانِه، فلم يبقَ للمرءِ إلّا نفسُه التي بين جنبيه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ بمَقْدَمِ شَهْرِ الخَيْرِ قَائِلًا : «قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ»، فليس للنّاس عذرٌ يتمسّكون به ويعلِّقُون عليه مساوئهم وآثامهم، فالذّنبُ إذا ارتُكِبَ في رمضان فهو من النّفس الأمّارة بالسّوء.
يا أهلَ التّوبةِ والإنابةِ:
إنّ نفحاتِ رمضانَ لا تصيبُ إلّا من أعلنها توبةً نصوحًا صادقةً خالصةً لله ربِّ العالمين، فلنستعدَّ للقاء ضيفِ الرّحمنِ بالإقلاعِ عمّا اعتدناه في سائر الأيّام، من حسدٍ، وبغضاءَ، وشحناءَ، وغيبةٍ ونميمةٍ ورياءٍ، وأكلِ الرّشى والرّبا والاعتداءِ، وعقوقِ الوالدين، وقطعِ الأرحامِ، ومعاداةِ الأصدقاء، وهمزِ النّاس والوقوعِ في أعراضهم، والطّعنِ في ساداتنا العلماء، ومعاداةِ أولياء الله والانتقاصِ من أقدارهم، والاستهزاءِ، وإشاعةِ الفاحشةِ والرّذيلةِ والمنكرِ في الأرجاءِ، فاتقوا يومًا ترجعون فيه إلى باسطِ الأرضِ ورافعِ السّماءِ.
هَذَا هِلَالُ الصَّوْمِ مِنْ رَمَضَانَ بِالْأُفُقِ بَانَ فَلَا تَكُنْ بِالْوَانِي
وَافَاكَ ضَيْفًا فَالْتَزِمْ تَعْظِيمَهُ وَاجْعَلْ قِرَاهُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ
صُمْهُ وَصُنْهُ وَاغْتَنِمْ أَيَّامَهُ وَاجْبُرْ ذِمَا الضُّعَفَاءِ بِالْإِحْسَانِ
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله الحليم العظيم لي ولكم، ويا فوز المستغفرين، أستغفر الله.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، والصّلاة على النبي المصطفى، ومن بآثاره اقتفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
أمّةَ الإنسانيّةِ والفِطرةِ:
لقد خلق اللهُ الإنسانَ في أحسنِ تقويمٍ، صوَّره بيدِهِ، ونفخ فيه من روحِهِ، وأسجد له ملائكةَ قدسِهِ، وسخَّر له الكون بأسره، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء: 70]، ومن تكريم الله تعالى للإنسان أن سوَّى بين الذكر والأنثى في العمل والجزاء، فقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [النحل: 97].
إنّ دينَ الإسلامِ لم يُؤخِّرِ المرأة لأجل أنوثتها، ولم يُقَدِّمِ الرّجل لأجل ذكورته، فلا اعتبار للذّكورة والأنوثة في التّكليف والجزاء.
إنّ الغربَ الّذي يتشدَّق بمكانةِ المرأةِ، ويُشنِّع على الإسلامِ، متّهمًا إيّاه باحتقارِ الأنثى، وهضمِهَا حقوقَهَا، لهو الأبعَدُ حقًّا عن الدّفاعِ عن مكانتِها ومنزلتِها ــ زعمًا منهم ــ، والتّكلُّمِ بلسانِ حالها، لأنّه يعيش ازدواجيّةً في المعاييرِ، فما تلاقيه النّساءُ والأطفالُ اليومَ من جرّاءِ الحروبِ وأشكالِ الاستغلالِ البشعِ في بلدانِ العالمِ النّامِي، لَدليلٌ ساطعٌ على بعدِهِ الشّاسعِ عمّا يدَّعِيهِ من دفاعٍ عن حقوقِها والتّباكِي عليها، وانظُرُوا إن شئتُمْ إلى حالِ المرأةِ الفلسطينيّةِ والإفريقيّةِ مثالًا واضحًا على العدالةِ الهشَّةِ المكذوبةِ التي يتغنّى بها الغربُ.
لقد أبان الإسلامُ في كتابِهِ العزيزِ، وهديِ نبيِهِ صلّى الله عليه وسلّم، عن العلاقةِ بين الرّجلِ والمرأةِ، فقال تعالى مبيِّنًا قاعدةَ الحَقِّ والواجبِ بين الزّوجينِ ــ على سبيلِ المثالِ ــ: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 228]، فلا الرَّجُلُ أفضلَ من المرأةِ، ولا المرأَةُ أعلى من الرَّجُلِ، بل هي شقيقتُهُ ومكمّلةُ نصفه، قال عليه الصّلاة والسّلام: «إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ»، وقُلْ مثلَ ذلك في المرأةِ أُمًّا وأُخْتًا وبِنْتًا.
إنّ مبنى المفاضلةِ بين الذّكرِ والأنثى، ــ بل بين النّاس جميعًا ــ، إنّما يكون على أساسِ التّقوى وحسنِ الخلقِ، قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13]، وقال عليه الصّلاة والسّلام: «أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى».
وقال عليه الصلاة والسلام: «النَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ».
أمّة الإسلامِ والعربيّةِ:
لقد شاركَنا إخوانُنَا في العالَمَيْنِ العربِيِّ والإسلامِيِّ قبل أيّامٍ فرحَتَنَا واحتفالَنَا باللّغة العربيّة، وحُقَّ لأمّة الإسلام أن تفخر بهذا اللسان، إنها لغة القرآن الكريم، ارتضاها الله تعالى وعاء شريفا لكلامه العظيم، فأنزل معانيَهُ بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، وشرَّفَ أمّةَ العروبةِ بهذا اللّسانِ نطقًا وتكلّمًا، لا عنصريّة أو عصبيّة أو قبليّة، فكلُّ من تكلّم العربيّةَ فهو عربيٌّ، روي في الأثرِ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الرَّبَّ رَبٌّ وَاحِدٌ، وَالأَبُ أَبٌ وَاحِدٌ، وَلَيسَتْ العَرَبيَّةُ بِأَحَدِكُمْ مِنْ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، وَإنَّمَا هِيَ لِسَانٌ، فَمَنْ تَكَلَّمَ بالعَرَبيَّةِ فَهُوَ عَرَبيٌّ»، فلنُقْبِلْ على إتقانِ لغَةِ القرآنِ، ولنعمَلْ على ترقيتِهَا وتعميمِهَا، وأن نجعلها لغَةَ العلمِ والحضارَةِ، دون أن نهمِلَ باقيَ الألسنِ الإنسانيّةِ، التي اعتبرها القرآن آيةً من الآيات الكبرى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالَمِينَ ) [الروم: 22].
أمّة الإسلام والإيمان والإحسان:
إنّ خيرَ ما نتواصى به ونحن نودِّعُ شَهْرَ شعبانَ: أن نقبِلَ على الله بقلوبٍ نقيَّةٍ وأجسادٍ طاهرةٍ، وعزائمَ صادقةٍ، وتوبةٍ خالصةٍ نصوحٍ، فإنّ شهرَ التّوبة ينتظر ببابكم، ولحظاتِ الحوبةِ قَابَ قوسين أو أدنى من أفئدتكم، فشمِّرُوا عن سَاعِدِ الجِدِّ والاجتهَادِ لاستقبَالِ شهرِ الصيَامِ والقيَامِ والقرآنِ، (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31].
وصدق العلّامةُ عبدُ الواحدِ بنُ عاشر رحمه الله تعالى في منظومته لمّا قال:
وَتَــوْبَــــــةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْــبٍ يُجْتَــــــــــــــرَمْ تَجِبُ فَوْرًا مُطْلَقًا وَهْيَ النَّدَمْ
بِشَــرْطِ الِاقْــلَاعِ وَنَــفْيِ الِاصْــــــــرَارْ وَلْيَتَلَافَ مُمْكِـنًا ذَا اسْتِغْفَــــــارْ
وَحَاصِلُ التَّقْوَى اجْتِنَابٌ وَامْتِثَالْ فِي ظَاهِــــرٍ وَبَاطِــــنٍ بِذَا تُنَــــــــالْ
عبادَ الله: إنّي داع فأمّنوا.
للتصفح والتحميل:
التأهب لرمضان – خطبة الجمعة ليوم 27 شعبان 1445هـ، 08 مارس 2024م