بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الّذي بنعمته تتمّ الصالحات، وبتوفيقه تتحقّق المقاصد والغايات
والصلاة والسلام على سيدنا ونبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه ذوي الفضل والمكرمات.
أمّا بعد؛ فالسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أصحاب الفضيلة العلماء والمشايخ.
ضيوف الجزائر الكرام.
أصحاب المعالي والسعادة، الوزراء والسفراء، وإطارات الأمّة، وممثّليها في البرلمان.
حضرات السّادة الأفاضل. حضرات السيّدات الفضليات.
أسرة الإعلام والصحافة.
أبنائي الطلبة الأعزّاء.
أيّها الحضور الكريم.
يسرّنا أن نرحِّب بضيوف الجزائر، من أصحاب السماحة، المفتين والعلماء، والمشايخ الأجلّاء. فنحن سعداء بمشاركتِهم الجزائريّيـن في هذا الفتح العَظيمِ لجامعِ الجزائرِ، الّذي دشّنه بالأمس السيّد عبد المجيد تبّون، رئيس الجمهورية، في منتصف شهر شعبان، وفي رحاب ذكرى الشهداء الأبرار؛ وقد عمِل، منذ عشرة أعوام، على متابعة إنجازه، وحرص على تسهيل كلّ ما يعين على عمارته وخدمة رسالته، ليكون للجزائر الصورة التاريخية والجمالية والوطنية، من معماره الّذي يذكّر بحضارة الأندلس وخصائص الثقافة المغاربية.
سيسجّل التاريخ لدولة الاستقلال تحقيق هذا الإنجاز، الّذي يأتي تأكيدا لانتماء الجزائر الأصيل، ومرجعيتها المستمدّة من رصيدها التاريخيّ، وعطاء علمائها. وإسهامات مراكزها العلمية، على مرّ الحقب والعصور. ويقام هذا الصرح الدينيّ الكبير ليضاف إلى نظرائه في البلدان الإسلامية، وتزدان به في بلادنا الحواضر العلمية التي أسّست في ربوعها لإقامة دين الله وتعليم كتابه، تغذي القلوب بغذاء القرآن، وتصلح النفوس بهداية الإيمان.
لقد شهِدنا بالأمس، وبعون الله وفضله، تدشين جامع الجزائر، وهو ثالث مسجد، بعد الحرمين الشّريفين، من حيث المساحة واستقبال عدد الـمصلّين. بُني فوْق أرض سقتها دماء الشهداء، وخلّدها حبر العلماء؛ وافتتح في ذكرى من استشهدوا من الـمقاومين، فِي الأشهر الأولى للاحتلال، في مجزرة العَوفيّةِ البشعة بأرض الحرَّاش القريبة من المحمّدية؛ كما استشهد آلاف الجزائريّين من أجل الدّفاع عن بيت الله، جامع كتشاوة، والذود عن حرمته؛ وقد افتتح بعيد الاستقلال؛ وأقام الجزائريّون فيه أوّل جمعة ألقى خطبتها على منبره عالم الجزائر البشير الإبراهيميّ -رحمهُ الله-
إنّه لوفاءٌ خالصٌ، وتجديدٌ للعهد بمن فدَوا هذا الوطن، وبمن قاوموا الاحتلال الفرنسيّ، منذ أن وطِئ أرضَنا الطّاهِرة، الّتي اعتبرتها فرنسا غنيمتها من إرث روما،جاءت لتسترجعها، باستيطانها إلى الأبد؛ تملك ما عليها، وما في باطنها. هكذا كان التفكير والتنظير، ثمّ كانت محاولات التنصير. أرادت فرنسا أن تُلحق بلادنا بالأراضي الفرنسية، وتدمج شعبنا في الحضارة الأوروبية المسيحية؛ وتوعّدت شعبنا بأنّ من يأبـى الانسلاخ من عقيدته، والتنازل عن خصوصيته وثوابت أمّته، سيكون مصيره الإبادة أو التهجير. سعت لتخرجهم من هوّيتهم الإسلامية، فما أفلحت. حاولت أن تبيدهم عن آخرهم، فما قدرت. لقد وجدت في الجزائر شعبا أبيّا، يُقبل على الموت، من أجل الحياة والكرامة. يهون عليه كلّ غالٍ لديه، في سبيل دينه ووطنه، ومن أجل حرّيته واستقلاله. يعلم أنّه قد تهون في الحياة حقوق وحظوظ؛ ولكن لا يهون عليه حقّ الله؛ ولا يهون عليه حقّ الوطن، أو حقّ العرض والكرامة والشرف. وكان انتصار شعبنا على جلاّديه انتصارًا لهذه الحقوق كلّها، وإلهاما للنفوس الحرّة الأبيّة، على مدى الزمان، وتعاقب الأجيال.
لقد وجدت فرنسا، عند احتلالها الجزائر، شعبا متعلّما تنتشر في أرضه المدارس والمعاهد والزوايا العلمية. ويزدهر فيه العمران؛ فعاث رجالها في الأرض الفساد، أهلكوا الحرث والنسل، وأتوا على الأخضر واليابس، ودمّروا البنيان؛ وعملوا، دون هوادة، لإبادة الإنسان والحيوان.
هكذا ابتليَ شعبنا بشرّ استيطان، في عهود الاستدمار؛ ومّرت عليه محن وحوادث شداد؛ وعاش أوقاتا عصيبة، واجه فيها بطش الاحتلال، مدعوما بقوّة الأحلاف؛ وظلّ صامدا، صابرا، مرابطا. لم تفتر فيه روح المقاومة؛ ولم تلن له قناة. تحصّن بركن الإسلام، ولاذ بقلاعه الحصينة، الّتي كانت رباطا للجهاد، من عهد الأمير، إلى ثورة التحرير. كان شعبنا يملك الإيمان بحقّه، والثبات على دينه، والإصرار على حرّيته واسترجاع استقلاله، فإمّا عزّ وسيادة، وإمّا كرامة بالموت وشهادة. عرف من دينه أنّ الجهاد شُرع في الإسلام دفعا للعدوان، وحماية لحرية الأوطان، وتأمينا لعقيدة الإيمان، وصيانة لكرامة الإنسان؛ فبذل ما بذل، وضحّى بما ضحّى من أبنائه، وفلذات أكباده. مضى قدما في ساحة الجهاد، لا يضرّه أن يلقى ما يلقى من الشدائد والمصاعب؛ وقد أدرك أنّ الشهادة في سبيل الله ليست موتا، ولكنّها حياة.
وممّا عبّر عن تضحيات الجزائريين، وصدق جهادهم، ما قاله مفدي زكرياء شاعر الثّورة الجزائريّة، رحمه الله:
وَقَالَتْ جَزَائِرُنَا الغَالِيَةْ هُوَ الصِّدْقُ حَقَّقَ آمالِيَهْ
وَمِنْ دَمِ شَعْبِي وَأَكبَادِهِ إِلَى النَّصْرِ قَدَّمْتُ قُرْبَانِيَهْ
حضرات السّادة والسيّدات
إنّ من فضل الله ومنّته علينا، أن يلتئم جمعنا في هذا اليوم المبارك، يجمعنا جامع الجزائر، فوق أرض لها قدسيتها ورمزيتها التاريخية. فنحن فوق أديم شهد في زمن دخول الاستعمار الفرنسي معارك بطولية، خاضها الشعب الجزائريّ دفاعًا عن وطنٍ رَفع راية التوحيد؛ وسفّه أحلام المنصّرين الّذين صحبوا طلائع الاحتلال؛ وقال لرجال الكنيسة الّذين منحوا الشرعية للحرب على الجزائر: هذه الأرض ليست للبيع. إنّها وقف لله ولرسوله، عليه الصلاة والسلام. هذه أرض الإسلام، منذ أن أنارها بهداه؛ وستظلّ، إلى يوم الدين، “محمّدية”، بإذن الله.
وها نحن اليومَ نُعِيد الجوَاب للكاردينال لافيجري، الَّذي وقَفَ في هذا الـمكان، في أرضِ الـمُحَمَّدِيَةْ، وَقَال: أَينَ أَنْتَ يَا مُحَمَّدْ؟ فكان الجواب مُقاومةً شَعبِيّةً دامتْ قرناً وثلثا من الزّمنْ، وظلّت المدارس والمعاهد والزوايا العامرة بالذكر والعلم قلاعا قرآنية حصينة، ومعاقل للتربية والجهاد، لاذ شعبنا بركنها، فحفظت له عقيدته وقيمه الروحية والوطنية. وتبعتها حركة جمعية العلماء الـمسلمين الجزائريّين، في الثّلاثينيات. ثمّ جاء أعظم جواب من ثورة التّحرير الـمباركة، الّتي فجّرها شعبنا، جهادا في سبيل الله؛ وتوّجت باسترجاع السّيادة، واستعادة الحرية والاستقلال، بتأييد الله.
لقد عادت المحمّدية إلى المحمّديين، والحمد للّه ربّ العالمين. عادت إلى الحبيب المصطفى، إلى سيّدنا محمّد عليه الصّلاة والسّلام، بمنارة علوُها ارتقاء الشّهداء، وشموخ الـمجاهدين والوطنيّين؛ علوّ “التّوحيد”، بمنارة تقابل تاريخا عريقا للجامع الأثريّ الكبير بالعاصمة، الّذي ظلّ مرجعا دينيّا، وفضاء للعلم والقضاء. والـمنارتان تشهدان وتحاوران العالم الصّوفيّ الجزائريّ، سيّدي عبدالرّحمان الثّعالبي، دفين الـمحروسة، الّذي رابط ضدّ الاعتداءات الإسبانية على سواحلنا؛ وكان قدوة لعلمائنا من أجل الإصلاح الاجتماعيّ والدّفاع عن الوطن، ونشر القيم الإسلاميّة في العالم؛ وهو الّذي كلّف تلميذه الإمام محمّد بن عبدالكريم الـمغيليّ بنشر قيم الـمحبة، وإشاعة روح الأخوّة والسّماحة، والدّعوة إلى الحكم الرّاشد في إفريقيا. وكان القدوة في ذلك قبلهم سيّدي أبومدين الغوث، دفين تلمسان، في الـمقاومة والجهاد لتحرير القدس الشّريف؛ وما عرفته بعض البلدان الإفريقية من جهاد ومقاومة تحت قيادات صوفية: قادرية وتيجانية، ورحمانية وسنوسية. وأورادها جميعا من هنا، من الجزائر: من تلمسان وبجاية، ومعسكر ومستغانم، ومن عين ماضي وورقلة وتوات.
أيّها الحضور الكريم.
كـان الجزائريّون، طيلة التّاريخ، مشاركين في الدّفاع عن قضايا العدالة، والذّود عن الشّرف والكرامة. وهم اليوم، كما كانوا بالأمس، مع فضائل التسامح والإحسان، وقيم والوسطيّة والاعتدال. وكذلك كانت ومازالت مواقف الجزائر الـمبدئية من قضية فلسطين، وحقّ شعب فلسطين في تحرير أرضه، واسترجاع وطنه السليب، وفي قيام دولته الـمستقلَّة كاملة السّيادة، وعاصمتها القدس الشريف.
إنّ العالم اليوم يعيش أزمة ضمير، وانهيارًا في القيم. وقد بيّنت أوضاع وأحداث في مناطق من العالم اختلال الموازين، وآخرها حرب الإبادة الدائرة على أرض فلسطين، الّتي كشفت عن الازدواجية في المعايير. وفي ظلّ هذه الأوضاع المتردّية، تفاقمت المواجهة مع الغرب، وتزايدت ظاهرة الإسلاموفوبيا، والإساءة إلى الرموز والمقدّسات الدينية، وانتشار الأصولية الغربية، وتنفيذ مخطّطات الصهيونية العالمية، وإعادة تنشيط نزعة الهيمنة الغربية، والترويج لنظرية صدام الحضارات. وهذا يقتضي إعادة بناء ثقافة الحوار على أسس صحيحة، وتنمية الوعي بحقّ الاختلاف. وإنّنا نأمل أن يكون جامع الجزائر مركزا عالميا، روحيا وثقافيا وسياحيا؛ يسهم مع مراكز العالم الإشعاعية، في نشر قيم الحوار،وتقديم الصورة السليمة للإسلام،والردّ على الذين يسيئون إلى الدّين الحنيف.
حضرات السادة والسيّدات
نحن اليوم نسعد بافتتاح هذا الصرح الحضاريّ الشامخ ليكون، بحول الله، الجامع لكلّ أبناء الجزائر، بمختلف مكوّناتهم، وتنوّع نسيجهم الثقافيّ والاجتماعيّ، يُوحّدهم ويُؤلّف بينهم؛ ويُحافظ على مرجعيّتهم الدّينيّة، وقيمهم الروحية، وهويّتهم الوطنيّة. وهو الجامعة؛ فمنه، إن شاء الله، تنطلق قوافل العلماء، تتفجّر من صدورهم الحكمة والـمعرفة، ليس للوطن فقط، ولكن للإنسانيَّة جمعاء. هذا الـمأمول منه، بعون الله، وبه نحيِي تاريخ مساجدَنا الّتي كانت منارات علم، ومنتديات حوار، ومعاقل حضارة، من مسجد أبي المهاجر دينار، إلى مسجد سيّدي عقبة بن نافع، ومساجد بجاية وتلِمسان وعنابة وتوات، وغرداية وقسنطينة.
إنّنا نريد أن يكون “جامع الجزائر” امتدادا لهذا التاريخ الحافل بالأمجاد. نريده مركز إشعاع دينيّ وعلميّ، تسري روحه في محيطه الاجتماعيّ، ويشعّ بنور هدايته على العالم من حوله؛ ويسعى في برامجه لتغيير النظرة إلى المؤسّسات الدّينية والعلمية، على الصعيدين الوطني والدوليّ؛ بإعطاء الصورة الحقيقة لرسالة هذه المؤسّسات، والدّفع بحركتها الفاعلة من جديد؛ بما يخدم صالح الأمّة الإسلامية، بتعدّديتها، وتنوّعاتها المذهبية والاجتماعية؛ وبما يعيد إلى الجزائر أمجادها التاريخية، وعطاءها الحضاريّ، الّذي تجسّد، بأبعاده الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعمرانية، خلال قرون من السؤدد والريادة والتأثير. ولا سبيل إلى تحقيق هذه الأهداف السامية إلّا بدعمكم ومشاركتكم لنا في أداء هذه الرسالة الحضارية، خدمة لديننا وأمّتنا، في مجتمعاتنا المسلمة، في أعماق إفريقيا، وآسيا وأوروبا، وفي سائر الأقطار.
إنّ جامع الجزائر يحمل رمزية الحوار والسّلم والتعايش؛ باعتبار الحوار أصلا قرآنيا، قاعدته هي “المشترك الإنساني”؛ ويعدّ من مقاصد الاستخلاف في الأرض. فالحوار مفهوم أصيل في الحضارة الإسلامية، غرسه الإسلام في تصوّرنا وفي رؤيتنا؛ وجعله جزءا من البناء العقليّ لا يستغنى عنه في أيّ جانب من جوانب الفكر والتصوّر والسلوك.
وما من شكّ في أنّ غاية الحوار بين الثقافات والحضارات هي خدمة الإنسان، وعمارة الكون؛ وذلك بأفضل السّبل المتاحة. فإذا آمن الإنسان بالحوار سبيلا إلى معرفة الحقّ واتّباع الصواب، فإنّه يلزمه التعاون المنظّم مع أخيه الإنسان، من أجل القضاء على العوائق التي تحطّ من قدر الإنسان، وتحرمه من حقوقه، وتمنعه من تسخير طاقاته، واستغلال إمكاناته، والانتفاع بثرواته.
إنّ حوار الحضارات الّذي نعمل لإرساء أسسه لن يكون عودة إلى سياسة الإدماج، وتقديم خطابه في حلّة جديدة، بل هو حوار النظراء المتبصّرين المتفتحين. فقد كان لنا في الجزائر تاريخ طويل مع المغالطات والمناورات والمؤامرات الفكرية والسياسية؛ ولم تلقَ في الأمّة، ولن تلقى، إلّا ما تستحق، بفضل يقظة أبنائها، وتمسّكهم بثوابتهم، ومقوّمات شخصيتهم، والتحصّن بمرجعيتهم الدينية الجامعة.
إنّ الحديث عن حوار مثمر بين الحضارات، تحقيقا للسّلم والتّعايش والتنمية، هو ما سيتناوله الملتقى الفكريّ القادم، الّذي نعمل لتنظيمه قريبا، بحول الله. ونسعد بمشاركة علماء الأمّة في فعالياته.
وإذا كنّا نؤمن بالحوار، باعتباره السبيل الأمثل لإحقاق الحقّ، وإبطال الباطل، وتجنّب الصّراع؛ فإنّنا نعتقد أنّ أيّ حوار لن تكون له جدواه، ولن يؤتي ثماره ويبلغ مرماه، إلّا باعتماد منظومة قيم أخلاقية متوازنة، تكون قاعدة لتعاون مثمر بين شعوب العالم، على اختلاف أنظمتها، وتباين مناهجها واختياراتها.
وفي تقديرنا أنّ القيم الإنسانية في الإسلام، والتعاليم السمحة لنظامه المتكامل، تشكّل منهجا قويما، وركيزة أساسية لمنظومة متكاملة، تكون معيارا أخلاقيا، وميزانا ثابتا، يحترمه الجميع، ويلتزم به الجميع؛ فيرجعون إليه، في جميع أوضاعهم؛ ويقيمون عليه علاقاتهم؛ ويقوّمون، في ضوئه أعمالهم ومعاملاتهم؛ بعيدا عن النزوات والأهواء، واختلاف الأمزجة والنوازع الشخصية، وتعارض المصالح وتصادم المنافع الذاتية.
إنّ مشروع “جامع الجزائر” يضع، ضمن أهدافه، الإسهام في تصحيح ما اختلّ من موازين، بفعل الحضارة المادّية المعاصرة، وما أحدثته من تشوّهات وانحرافات، أساءت إلى البيئة، وإلى الإنسان والكون والحياة. ونتطلّع إلى أن تتجسّد في رسالته منظومة القيم الإسلامية، ومعاني الحضارة الإسلامية، بخصائصها الذّاتية؛ ومن أبرزها أنّها ربّانية المصدر والغاية، إنسانية النزعة والتوجّه. ومن مميّزاتها أنّها حضارة رسالة ومسؤولية، حضارة أمّة تخدم دينها بخدمة الإنسانية.
إنّ الحضارة المعاصرة هي نتاج تطوّر الفكر الإنسانيّ عموما، وقد حقّقت بلا ريب، التقدّم العلميّ، والرفاه المادّيّ؛ لكنّها أهملت الجانب الإنسانيّ، وتجاهلت المصير الأخرويّ؛ كما جاء في قوله تعالى: “وَلَكِنَّ أَكثَر النَّاسِ لَا يَعلَمُون. يَعلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون” [الرّوم 07.06]. وواضح أنّ الحضارة الغربية السائدة توشك أن تنحدر إلى الهاوية، لأنّها فرّطت في أهمّ مقوّمات البقاء؛ حيث أهدرت القيم الإنسانية؛ وتجاهلت روح الإنسان ووجدانه وقلبه؛ ولم تنسجم مع فطرته الّتي فطره الله عليها؛ بل قدّمت له الشهوات البهيمية، بدعوى الحرية الشخصية؛ وراحت تقنّن للشذوذ، وتشرّع للانحراف. وهكذا ساد المجتمعات الغربية قلق نكّد على النّاس الحياة؛ وما فتئت الصيحات تتعالى، من هنا وهناك، منذرة بسوء مصير البشرية، في ظلّ الحضارة المادية.
إنّ لدينا نحن المسلمين، أعظم ذخيرة من القيم الروحية والخلقية والعلمية والتربوية والاجتماعية؛ فإذا أفدنا منها، كما أفاد منها أسلافنا، كان بإمكاننا أن نسهم بالحظّ الأوفر في إصلاح مجتمعاتنا، بل وفي إصلاح العالم من حولنا، وتقويم مساره، وإنقاذه من المظالم الّتي طغت على شعوبه، وإشاعة روح التسامح والتعاون في مجتمعاته.
إنّ الإنسان، أينما كان، بحاجة إلى البعد الروحي، ليحقّق توازنه، ولتستقيم أحواله. ولن يعود إليه هذا التوازن إلّا يوم يستقيم على عبادة الله وحده؛ فلا يخضع إلّا لله؛ ولا يعتصم إلّا بحبل الله؛ ولا يسبّح بحمد أحد إلّا بحمد الله.
فما أحوج البشرية إلى هداية الإسلام، لتتحرّر من عبودية الدنيا، وترتقي إلى عبودية الله. “وَمَن يَعتَصِم بالله، فَقَد هديَ إِلَى صِرَاطٍ مُستَقِيم” [آل عمران.101]
حضرات السادة الأفاضل، حضرات السيّدات الفضليات.
يسعدنا في الأخير أن نشكركم مجدّدا على مشاركتكم لنا الفرحة في هذا اليوم العظيم، وهو من أيّام الله الّتي تذكّرنا بتأسيس بيوت الله، من أوّل مسجد أسِّس على التقوى. وكذلك هو جامع الجزائر سيكون، بحول الله، حرما آمنا، لا يجد المؤمنون في رحابه إلّا صلاحا وفلاحا، ومثابة وأمنا. ولا يستمعون من منبره إلّا للموعظة الحسنة، والكلمة الهادية إلى أقوم طريق، وأهدى سبيل.
والله نسأل أن يجعل اجتماعنا هذا فاتحة خير لملتقيات وندوات علمية، ينظّمها هذا الصرح الحضاري، بإذن الله. وسنبذل الجهد من أجل أن تكون فضاء للاجتهاد والحوار الديني والفكريّ؛ آملين أن يكون جامع الجزائر بيتا كريما، وملتقانا الدوليّ سنويا، يجمع روّاد العلم، وضيوف المعرفة والحكمة، ويكون، بمشيئة الله، إشعاعا حضاريا للمسلمين وللإنسانية جمعاء.
بَاركَ اللهُ في جهودِكم وسدّد خطاكم؛ ووفَّق للصالحاتِ عملَكم ومسعاكم
نسأله تعالى أن يجعل يومنا خيرا من أمسنا، وغدنا خيرا من يومنا؛
وأن يجمع قلوبنا على التقى، ونفوسنا على الهدى،
وعزائمنا على الرشد وعلى حبّ الخير وخير العمل.
المجدُ والخُلودُ لشهدائنا الأبرارْ
عاشتِ بلادنا ُحرّةٍ أبيّةْ
عاشت الجزائر والأمّة الإسلامية
والحمد لله ربّ العالمين
للتصفح والتحميل:
كلمة السّيّد العميد بمناسبة افتتاح الجامع