كلمة السّيد وزير الدّولة، عميد جامع الجزائر، الشّيخ محمّد المأمون القاسميّ الحسنيّ، اليوم الاثنين 25 ذو القعدة 1445هـ، الموافق 03 يونيو (جوان) 2024م، في افتتاح ندوة علمية موسومة: «الحج… أسرار ومقاصد»، بقاعة المحاضرات للمدرسة الوطنية العليا للعلوم الإسلامية «دار القرآن».
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصّالحات، وبتوفيقه تتحقق المقاصد والغايات، الحمد لله الّذي شرع لعباده حجّ بيته الحرام، وجعله خامس أركان الإسلام، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، هو الله الذي لا إله إلّا هو، الملك القدّوس السّلام، وأشهد أنّ سيدنا ونبيّنا وحبيبنا محمّدًا عبده ورسوله، خاتم الأنبياء والمرسلين، ورحمة الله للعالمين، اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأنصاره ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه واتّبع سنّته إلى يوم الدّين، أمّا بعد؛
حضرات السّادة الأفاضل، حضرات السّيّدات الفضليات، أصحاب السّماحة والفضيلة، العلماء والمشايخ والأئمة؛ حضرات الأساتذة الأفاضل؛ أبنائي الطّلبة والطّالبات، أحيي الجميع بتحيّة الإسلام، فالسّلام عليكم ورحمه الله تعالى وبركاته
إنّ اختيارنا موضوع «البعد الرّوحي في رحلة الحجّ»، إنّما يأتي لجملة من الأسباب، منها:
أنّ أغلب الّذين يتناولون الحديث عن فريضة الحجّ، يعالجون الموضوع من الجانب الفقهي؛ فهم يتناولون مناسك الحجّ، من أركان وواجبات، وسنن ومستحبّات. وهذه الأعمال الّتي يقوم بها الحاجّ، فصّل فيها القول الفقهاء، على اختلاف مذاهبهم، وصدرت فيها مؤلّفات، ونُشرت فيها بحوث ودراسات، يتناولها بالتّفصيل الأئمّة والمرشدون والدّعاة.
ولو سألت أحدًا، على سبيل المثال: ماذا تعلّمت من أعمال الحجّ؟ يأتيك منه الجواب: هي الإحرام بالنّسك، والطّواف بالبيت الحرام، والسّعي بين الصّفا والمروة، وصولًا إلى الوقوف بعرفة، وإلى رمي الجمرات يوم العيد وأيّام التّشريق.
في ندوتنا اليوم، قصدنا تناول رحلة الحجّ، بمعانيها الإيمانيّة وأبعادها الرّوحيّة.
فالحجّ إلى بيت الله الحرام، الذي هو الرّكن الخامس من أركان الإسلام، جاء في فضله قول رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ».
وقوله عليه الصّلاة والسّلام: «الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ، إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ، وَإِنِ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ».
وإنّ مغفرة الذّنوب بالحجّ، ودخول الجنّة، مرتّبٌ على كون الحجّ مبرورًا؛ وإنّما يكون الحجُّ مبرورًا باجتماع أمورٍ، في طليعتها إخلاصُ التّوجّه إلى الله، فسائر العبادات وكلّ الأعمال روحها ونيل ثوابها هو سرّ الإخلاص فيها، ومنها الإتيان في رحلة الحجّ بأعمال البرّ، والإحسان إلى النّاس بالبرّ والصّلة وحسن الخلق؛ ولمّا سُئل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن البرّ قال: «البِرُّ حُسنُ الخُلُقِ». وهذا ما يُحتاج إليه في الحجّ كثيرًا، فيطلب من الحاجّ أن يعامل ضيوف الرّحمن بالإحسان، بالقول والفعل، سواء من رُفقته، أو من سائر الحجّاج. وقد قيل: «إِنَّمَا سُمِّيَ السَّفَرُ سَفَرًا لإِسْفَارِهِ عَنْ أَخْلَاقِ الرِّجَالِ».
وحين سُئِلَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مَا بِرُّ الحَجِّ؟ قَالَ: «إِطْعَامُ الطَّعَام وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ».
وسُئل سعيدُ بن جُبير: «أيُّ الحاجّ أفضلُ؟ فقال: «مَنْ أَطعَمَ الطَّعَامَ، وَكَفَّ لِسَانَهُ».
فبحسن الخُلق يضبط الإنسان جهله، ويحسن صحبة النّاس، وإلّا فلا حاجة لله بحجّه.
ومن أنواع البرّ ذكر الله تعالى، وهنا نقف عند الشّعار الخالد، شعار الحاجّ حين يحرم بالحجّ أو العمرة: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ».
هكذا تُرفع الأصوات، بعد الإحرام بالتّلبية لله، ونفي الشّرك عنه، وإعلان انفراده بالحمد والنّعمة والملك؛ ونحن ندرك أنّ من مقتضيات صحّة الاعتقاد، وفهم كلمة التوحيد «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»، أنّها هي التي تقود المؤمن إلى إخلاص العبادة لله، وصدق اليقين بالله، والإخبات والإنابة إلى الله، وإلى محبّته وإيثاره على ما سواه، والخشية منه والرّجاء فيه.
كلمات التّلبية يردّدها الحجّاج، بين فترة وأخرى، حتّى يشرعوا في التّحلّل من الإحرام.
كلمات تردّدها الألسنة، فما موقعها في القلب؟ وماذا ينبغي للحاجّ أن يفهم من هذه الكلمات؟ هل يستشعر معانيها؟ هل تستوقفه هذه المعاني وهو يردّد التّلبية ويجدّدها بتجدّد أحواله؟ هو يقول: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ»، يا ربّي إجابة بعد إجابة، دعوتني إلى حجّ بيتك الحرام، فأجبت، أمرتني فامتثلت، وأنا أقوم بأعمال الحجّ كما أمرت، فأنا أطوف وأسعى؛ وأقف بصعيد عرفات، وأرمي الجمرات، تقرّبا إليك، وطاعةً لك كما أمرت.
وحين يردّد كلمات الحمد: «إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ»، فهو يقرّ بالحمد والنّعمة لله وحده، لا شريك له، هو يقرّ بقلبه، ويردّد بلسانه: يا ربّي منك الفضل والمنّة، الفضل منك وإليك، فأنا يا ربّي في بيتك الحرام، بفضلك ومنّك وكرمك، ليس بحولي ولا قوّتي ولا بفضلٍ منّي، أنت من هديتني ووفّقتني وأعنتني ويسّرت الأسباب لي، وأنا أعيش هذه الرّحلة الإيمانيّة بقدرتك وفضلك وإحسانك.
وهكذا يستشعر الحاجّ نعمة الله عليه في كلّ محطّات الحجّ؛ ويتذكّر في رحلته عشرات الملايين من المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، تهفو أفئدتهم إلى البيت الحرام، وزيارة الحبيب المصطفى عليه الصّلاة والسّلام، ولا يجدون إلى ذلك سبيلًا.
إنّها بحقّ أوقات روحانيّة، ومعايشة وجدانيّة، تتطهّر فيها النّفوس، وتمتثل لها الجوارح، وتستقيم بها الأقوال والأفعال؛ حين يتزوّد الحاجّ بخير زاد، وما تزوّد مؤمن بأفضل من زاد التّقوى، الّتي تجمع خصال الخير كلّها.
وحين تخلص النّيّة لله، بأن لا يقصد بحجّه رياءً ولا سمعةً ولا مطمعًا من مطامع الدّنيا، والله تعالى يقول: (وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلهِ) [البقرة: 196]، وإتمام الحجّ القيام بمناسكه على الوجه المشروع؛ كما بيّنها رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، القائل: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ».
وقوله سبحانه (لِلهِ) في هذه الآية، يعني إخلاص النّيّة لله وحده، وتخليص أفعاله من الشّرك، فلا رياء ولا فخر، ولا خيلاء ولا مباهاة، مع تواضع لله.
وتستوقفنا، في هذا السّياق، ركعتا الطّواف، يقرأ في الأولى سورة الكافرون، ويقرأ في الثّانية سورة الإخلاص، ففي الأولى البراءة من دين المشركين، وإفراد الله بالعبادة، وفي الثّانية الإخلاص، إفراد الله بصفات الكمال، وتنزيهه عن صفات النّقص، سبحانه وتعالى عمّا يصفون.
ومن أنواع البرّ في الحجّ كثرة ذكر الله تعالى في موقف عرفة، وفي الإفاضة من عرفات.
وأعظم الذّكر الّذي يقال في يوم عرفة، وخير الدّعاء دعاء يوم عرفة؛ كما قال صلى الله عليه وسلّم: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»، إنّه إعلانٌ عظيمٌ في هذا التّجمّع العظيم، في هذا اليوم المبارك.
وبنطق هذه الكلمات وتكرارها، يستشعر الحاجّ مدلولها، ليعمل بمقتضاها، فيؤدّي مناسك الحجّ، خالصة لله من جميع الشّوائب.
في موقف عرفة، يتجمّع الحجّاج الميامين، في صعيد واحد، على اختلاف أعراقهم وأجناسهم، وتعدّد ألسنتهم وألوانهم؛ كلّهم سواسية، لا فرق بين عربيّ وأعجمي، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين غنيّ وفقير؛ يلبسون ثياب الإحرام، يتجرّدون لطاعة الله ورضوانه، كما تجرّدوا من ثيابهم، وانقطعوا عن شواغل دنياهم، يدعون ربّا واحدا، ويردّدون شعارًا واحدًا، ويستشعرون في موقفهم معنى الانتماء إلى الأمّة المحمّديّة، يتذكّرون في موقف عرفة، يوم المحشر؛ حيث تمتثل جميع الخلائق، خاشعين بين يدي الرّحمن.
حضرات السّادة والسيّدات.
إنّ الحجّ ليس مجرّد رحلة سياحيّة أو ترفيهيّة، ليس مجرّد مظاهر وحركات وشعارات؛ إنّنا نجد في سائر أعماله دروسًا وعبرًا؛ وإنّما يعدّ المسلم لهذه الرّحلة، بمقاصدها ومعانيها، تربية إيمانيّة متكاملة.
والتّربية الرّوحيّة هي الّتي تجعل المسلم يحرص على كمال عبادته، ليزداد قربًا من الله، ويحظى بمحبّته، ويفوز برضوانه.
وكمال العبادة وصدقها تتجلّى ثمارها في حسن الأخلاق، وفي السّلوك الفردي والجماعي، واتّزان القيم والموازين؛ فالميزان الّذي لا يخطئ في معرفة صحّة العبادات وصدقها هو ما تثمره في الحياة الخّاصّة والعامّة، من صفاء وعدل وإحسان، وأخوّة وإيثار، ووضع المصلحة العليا للأمّة فوق كلّ اعتبار.
وإنّ من علامات قبول الحسنة، الحسنة بعدها، ومن علامات قبول الطّاعة، الاستقامة على الطّاعة.
ونحن نأمل من لقائنا العلميّ، أن تتّسم هذه المعاني في رحلة الحجّ، وهي رحلة إيمانيّة، طابعها روحانيّ بامتياز.
إنّ المعاني والأسرار الّتي تتضمّنها جميع العبادات، هي الّتي نسعى في ندوتنا هذه لإلقاء مزيد من الأضواء عليها، نريد أن نستشفّها من خلال رحلة الحجّ، بمختلف محطّاتها؛ ونقف عند أبعادها الرّوحيّة، لنتلمّس كيف تتناغم تلك المعاني، وتنسجم تلك الأبعاد، وتتوافق تلك التّجلّيات.
وسبحان من لو شاء لهدى النّاس جميعًا إلى سواء السّبيل، والله وليّ الإعانة والتّوفيق.
والحمد لله ربّ العالمين.
للتصفح والتحميل:
كلمة السّيد عميد جامع الجزائر في ندوة “الحج..أسرار ومقاصد”
فيديو الكلمة: