بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة السّيّد وزير الدّولة، عميد جامع الجزائر
في الملتقى الدوليّ الأوّل، بجامعة الونشريسي، في مدينة تيسمسيلت، بعنوان:
«جودة الحياة والسّلم الاجتماعي في النوازل الفقهية الاجتماعية المغاربية
أحمد بن يحيى الونشريسي نموذجا»
يومي: 05 و06 ذي القعدة 1445هـ، الموافق 13 و14 ماي 2024م.
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم على المبعوث رحمة للعالمين، سيّدنا ونبيّنا وحبيبنا محمّد، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واتّبع سنّته إلى يوم الدّين، أمّا بعد؛ فالسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حضرات السّادة الأفاضل، حضرات السّيدات الفضليات، كلٌّ باسمه ومقامه.
أحيّيكم بتحيّة من عند الله مباركة طيّبة، فالسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تحيّاتي أسديها إلى السّيد الفاضل والي تيسمسيلت، وإلى السّيد مدير جامعة الونشريسي المحترم، مع الشّكر الجزيل على دعوتهما الكريمة لحضور هذا الملتقى المبارك، إن شاء الله.
كما أتوجّه بالتّحية إلى الحضور الكريم، من أركان هذه الولاية، والسّادة نواب الأمّة، وأصحاب الفضيلة المشايخ والعلماء، وأئمّة المساجد، ومديري الجامعات، وأساتذة الجامعات، وكافّة الإخوان، الّذين يزدان بهم هذا الملتقى العلميّ المتميّز، الّذي نسعد فيه بالاستماع إلى كوكبة من الأساتذة الأفاضل، يتناولون بالبحث موضوع: «جودة الحياة والسّلم الاجتماعي في النوازل الفقهية الاجتماعية المغاربية»، من خلال عَلَمٍ كبيرٍ من علماء الجزائر، طاب ذكره وثمره، وانتشر في الأقطار علمه وأثره؛ إنّه الإمام أحمد بن يحيى الونشريسي، رحمه الله، الّذي لُقِّب بحامل لواء المذهب المالكيّ، في القرن التّاسع الهجريّ، وهو من عُرِفَ بكتابه «المعيار»، الّذي عرف انتشارًا واسعًا في المغرب والمشرق، واهتمّ به الغرب الأوروبي، وترجمت بعض نصوصه؛ ويعدّ مصدرًا لا غنًى عنه للمؤرّخين وعلماء الاجتماع والموثّقين والقضاة والسّياسيّين.
لقد كان إمامًا فقيهًا مجتهدًا، وتضمّن كتابه دعوة إلى توحيد الاجتهاد؛ كان لا يخاف في الحقّ لومة لائم، حيث عايش أحداثًا جسامًا، وانتقد تخاذل الحكّام المسلمين في زمنه، وتقاعسهم، وتناحرهم من أجل الحكم، وبسببهم ضاعت وحدة المسلمين، وسقطت دولتهم في الأندلس.
شاهد الإمام الونشريسي هذه الأحداث، وما تلاها من الهجومات الاسبانيّة والبرتغاليّة على سواحلنا؛ وقد جرّت عليه مواقفه وانتقاداته الحكّام متاعبَ ومصاعب، حيث صادر الحاكم أبو ثابت المتوكّل أمواله، وأمر بنهب بيته، فاضطرّ إلى الرّحيل من وطنه، واتّجه إلى مدينة فاس.
وفي هذا المقام، أهيب بطلبة العلم، أن يتدارسوا هذه المَعْلَمَة الفقهيّة الّتي حوت خمسا وثلاثين ومائتين وألفي مسألة (2235)، جمع فيها الونشريسي من مدوّنات الفقهاء والقضاة، وبعض نوازل من سبقوه؛، ومنهم المازوني، صاحب موسوعة «الدّرر المكنونة في نوازل مازونه».
وأدعو الشّباب إلى الاهتمام بهذا التّراث العلميّ، والاعتزاز بمرجعيّتهم المالكيّة، واعتبار علمائنا قدوةً لهم في التّربية والتّعليم والاجتهاد.
وهنا أشير إلى مشروع «جامع الجزائر»، الذي نعمل لكي تسري روحه في محيطه الاجتماعي الواسع، وليكون مركز إشعاع حضاريّ على العالم من حوله؛ وفي هذا المشروع: نهتمّ بالذّاكرة، ونوليها أكبر العناية، ونعمل لتحصين المرجعيّة الدّينيّة، من خلال «الكراسي العلميّة»، و «مكتبة الجامع»، و «متحف الحضارة الإسلامية في الجزائر»، و «مركز البحث في العلوم الدّينية وحوار الحضارات».
ومن الأهداف الّتي سطّرناها في جامع الجزائر: العمل لتغيير النّظرة إلى المؤسسات الدّينيّة والعلميّة، وإعطاء صورتها الصّحيحة، وإبراز إسهاماتها الحضاريّة عبر التّاريخ؛ والتّعريف بدور علمائنا وعطائهم العلميّ، عبر العصور والأجيال، وهي رؤية السّيد رئيس الجمهوريّة للرّسالة الحضاريّة الّتي يضطلع بها هذا الصّرح الدّينيّ الكبير.
حضرات السّادة والسّيدات؛
كنّا، منذ عهدنا بطلب العلم، وما زلنا طلبةً للعلم، نستلهم من هدي القرآن الكريم دعوته إلى العلم، وهو في أساسه من فيض الله وعطاء الرّحمن، ففي كتاب الله نقرأ قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 1 ــ 5].
وقوله عزّ وجلّ: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) [النحل: 78].
وما فتئنا نحفّز الهمم لتحصيل العلم، وطلبه من العلماء الثّقات، لنكون على بيّنة من ربّنا، وبصيرة بديننا، وصلة بنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم.
أقول هذا في حضرة العلماء، وقد شهدنا في العقود الأخيرة كيف يزهد النّاس في الاهتداء بالقرآن الكريم، الّذي تزخر آياته بالدّعوة إلى العلم، وورد فيه الأمر بأخذ العلم من أهل الخبرة والاختصاص، يقول تعالى: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
ويقول سبحانه: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83].
والعجيب في حال الأمّة، في دنيانا اليوم، أنّنا نعرف احترام التخصّص في كلّ المجالات، ولكنّنا لا نعرف ذلك في مجال علوم الدّين؛ وهكذا أصبح الإفتاء كلأً مباحًا لكلّ راغبٍ، ورأينا من هبّ ودبّ يعطون أنفسهم الحقّ في تفسير القرآن، كما يشاؤون، وفي تصوّرهم لقضايا الدّين كما يريدون؛ مع أنّ العلوم الشّرعيّة واسعة وعميقة.
وفي القرآن الكريم رمز إلى ما يشبه التخصّص في فقه الدّين, يقول جلّ وعلا: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة.122]، ومعنى ذلك أنّنا محتاجون دائمًا إلى مجموعة من العلماء يتخصّصون في الدّراسات الإسلاميّة، ويكونون من أهل الخبرة والقدرة على استخلاص الأدلّة، وأخذ الأحكام من النّصوص الشّرعيّة؛ حتّى لا يتطاول الجاهلون على الإفتاء، ويتجرّأ على الدّين من لا يعرفون فرائض الوضوء، حسب التّعبير الشّعبي المعروف.
حضرات السّادة والسّيدات؛
إنّ ملتقانا اليوم، نرجو أن تتواصل حلقاته بانتظام، فما أكثر المواضيع الّتي نحتاج فيها إلى مزيدٍ من الأبحاث والدّراسات، نستثمرها في تعزيز مسيرتنا العلميّة، وتثبيت مرجعيتنا الدّينيّة الوطنيّة، فحبّذا لو يستمرّ هذا الملتقى في منطقة هي موطن الونشريسي، الّذي تعتزّ به الأمّة، كرمزيّة تاريخيّة، كما كانت هذه المنطقة قلعة لمقاومة الاحتلال الفرنسيّ؛ وفيها تحصّن الأمير عبد القادر وجيش المقاومين؛ وكانت من معاقل ثورة التّحرير.
لقد اختار المنظّمون لهذا الملتقى عنوانًا كبيرا، هو: «الاجتهاد وقضايا العصر»، وأحببت أن أسهم في افتتاحه بكلماتٍ في موضوع «الاجتهاد»، فنحن في جامع الجزائر نتطلّع إلى الإسهام في حركة التّجديد والإحياء، بإذن الله، مستمدّين العون والتّوفيق من الله، فإنّ من يستضيء بنور الله، ويهتدي بهداية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لا يخطئ الصّواب؛ والإسلام بمبادئه السّمحة وقيمه السّامية، خير منهج يُهتدى به في إصلاح الإنسان وتقويم انحرافه؛ إذا أحسن المسلمون التّلقّي من الوحيين، وفق منهج علميّ أصيل، خَطَّه العلماء الأوّلون، الذين سلكوا نهج الوسطيّة والاعتدال؛ فلم يحيدوا عن مبادئه وقواعده المقرّرة، ولم يقدّموا الفروع على الأصول الثّابتة.
إنّ حديثًا نقرأه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يمنحنا طاقة من الأمل، بأنّ المستقبل للإسلام، مهما يبلغ الانحراف، وتتكاثر قوى الشرّ والفساد، ويتعاظم طغيان أهل الباطل والضّلال.
فقد روى سيّدنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنّه قال: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»، أي: بإحياء ما اندرس من معالم الدّين، وما انطمس من أحكام الشّريعة، وما ذهب من السُّنن، وما خَفِيَ من العلوم الظّاهرة والباطنة؛ ونحن بحاجة إلى تأكيد هذا المعنى ونشره بين النّاس، حتى نقاوم موجات اليأس والقنوط، الّتي عمّت بعض النّفوس، فجعلتها تستسلم للذلّ والخضوع والخنوع، بحجّة أنّنا في آخر الزّمان، وأنّه لا فائدة ولا رجاء من كلّ جهود الإصلاح والتّجديد.
وممّا نفهمه من الحديث الشّريف: أنّ تجديد الدّين يعني تجديد الفهم للدّين، وحسن العمل بمبادئه وتطبيق تشريعاته.
إنّ الفقه الإسلامي لم يضق في الماضي البعيد والقريب عن تقديم الحلول التي تلتزم بشريعة الله، وتتجاوب مع حاجات العصر، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومن أبرزها في العقود الأخيرة ما حقّقته الصّيرفة الإسلاميّة من صناعة أنظمة استثماريّة وصيغ تمويل متكاملة، مستمدّة من الفقه الإسلامي، وبعيدة عن التّعامل الربويّ؛ فقد انتشرت المؤسّسات المالية الإسلاميّة؛ وأحرزت نجاحًا مرموقًا؛ وكانت تطبيقًا عمليًّا للاقتصاد الإسلاميّ، الذي هو جزء من النّظام الإسلاميّ المتكامل.
لقد أثمرت جهود العلماء الذين واكبوا مسيرة الصّيرفة الإسلاميّة، وأثرت بحوثهم واجتهاداتهم فقه المعاملات، وأعادت تطبيقاتها إلى واقع الحياة، ونحن نتطلّع إلى أن تكون الصّناعة المالية الإسلاميّة أنموذجًا صالحًا، يمثّل الإسلام تمثيلًا صادقًا، وتصبح مؤسّساتها الواجهة التي تعكس صورة الإسلام، كنظام صالح لكلّ زمان ومكان.
أيّها الحضور الكريم.
إنّ أمّتنا بحاجة إلى تجديد فقهها، بما يبرز عظمة الإسلام وسماحة تشريعاته، في كافّة المجالات، التّربويّة، والثّقافيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة، والسياسيّة؛ لأنّ الإسلام دين لكلّ عصر ومصر، وشريعته ربّانية خالدة إلى يوم الدّين؛ وسرّ بقائها واستمرارها وصلاحها لكلّ زمان ومكان، يكمن في مرونتها وحيويتها، وتفاعلها ومواكبتها للتغيّرات، ومراعاتها لتطوّرات الحياة، والإسلام لا يقف عاجزًا أمام ظروف التّطوّر؛ فليس التّحجّر والجمود من شيم الإسلام؛ وهو بريء من كلّ من يقف في وجه التقدّم باسم الدّين.
والاجتهاد المطلوب يجب أن يرتكز على أصول الدّين وثوابته، وقواعده المقرّرة، ومهمّة تجديد الفقه الإسلامي ليست ميسّرة لكلّ النّاس؛ وإنّما يضطلع بها المؤهّلون لها؛ وهم العلماء العدول، والثّقات من أهل الخبرة والاختصاص، الذين تحرّكهم الغيرة على أمّتهم؛ رائدهم الإخلاص لدينهم؛ ولهم معرفة واسعة بقضايا العصر، فضلًا عن رسوخ قدمهم في علوم الإسلام ومعرفتهم بمقاصد رسالته.
وإذا كان علينا بيان دور الاجتهاد، فإنّ علينا كذلك ضبط شروط المجتهد، وتوضيح صفاته، لنعيد للاجتهاد مكانته وحرمته، ونقضي على الفوضى التّشريعيّة التي تتخبّط فيها مجتمعاتنا الإسلاميّة، ونُقصي عن ساحة الاجتهاد الطفيليين الذين لا يجوز لهم الكلام في الدّين، فضلًا على الاجتهاد في شريعة الله؛ كما يجب أن يُقصى عنها المنحرفون الذين يتّخذون الاجتهاد وسيلة للتّخفيف من التّكاليف الشّرعيّة، ويفتون بآراء يحلّون بها ما حرّم الله، ليضربوا الإسلام من الدّاخل، بعد أن عجزوا عن مجابهته صراحة من الخارج؛ علينا كذلك أن نسكت الجامدين المتشدّدين، الذين يدّعون العلم بالشّريعة الإسلاميّة والحرص على تطبيقها، فيصدرون أحكامًا شرعيّةً باطلةً يسترضون بها العامّة، وهنالك أيضًا الوصوليون الذين يلتمسون رضا أهل الأهواء بإصدار رخصٍ دينيّةٍ زائفةٍ، فيكونون معاول هدم، وأدوات تخريب وفساد.
إنّ الاجتهاد الفردي؛ في بدء تأسيس الفقه الإسلاميّ على أيدي المجتهدين الأوائل، قد عاد بالخير الكثير على هذه الأمّة، لأنّه قد جنّد العزائم لخدمة الشّريعة؛ وتبارى أساطين العلم في استنباط القواعد، وتأسيس النّظريات القانونيّة في فقه الشّريعة، على نور من نصوصها، وفي ضوء قواعدها، حتّى أسّسوا ثروة فقهيّة عظيمة، فيها القواعد والنّظريات والأحكام الفرعيّة الصّالحة لأن تمدّ العصور إلى الأبد بمعين فقهي لا ينضب، ممّا لم يعهد له نظير في جميع الأمم.
وإذا كان الاجتهاد الفردي ضرورة في الماضي، فإنّ ضرره اليوم كبير، فالمحاذير الّتي كانت مخاوف يخشى وقوعها في القرن الرّابع الهجري، ولأجلها أغلق العلماء باب الاجتهاد، قد أصبحت اليوم أمرًا واقعًا.
فقد كَثُرَ المتاجرون بالدّين، ولعلّ بعضهم يكون أغزر علمًا وأقوى بيانًا من العلماء الصّالحين الأتقياء، وقد وُجِدَ من خريجي الدّراسات الشّرعيّة من أصدر كتبًا وفتاوى تدلّ على أنّ أصحابها قد وضعوا علمهم تحت تصرّف أعداء الإسلام، في الدّاخل والخارج، ليهدموا دعائم الإسلام، بشكل لا يستطيعه أعداؤه، تحت ستار الاجتهاد وحريّة التّفكير، وهم يجنون من وراء ذلك أرباحًا ومنافعَ مغرية، لا يبالون معها بسخط الله، ولا يقيمون وزنًا لدين الله.
لقد نكبت الأمّة، وأصيبت بانحطاط حضارتها، بعد أن أصبحت مبادئ الإسلام تستغلّ في خدمة أقوام وجدوا من يفسّر لهم الإسلام كما يريدون، ولذلك يجب أن نضع في مقدّمة شروط الاجتهاد: العلم الصّحيح، والإيمان الصّادق، ويضاف إلى هذين الشّرطين استقلالية الرّأي، والحرّيّة في التّفكير والتّعبير، حتى لا يتأثّر المجتهد بالأهواء.
وإذا كان علينا أن نستبعد من ميدان الاجتهاد من لا تتوافّر فيهم هذه الشّروط، فلا يعني ذلك أن يتقوقع الفقهاء وينطووا على أنفسهم؛ بل يجب عليهم أن يسترشدوا في اجتهاداتهم بكلّ الاختصاصات في جميع الفروع العلميّة التي يزخر بها عصرنا.
بهذه الشّروط تضمن الأمّة للاجتهاد جوًّا صحيًّا سليمًا، لكي يعمل فقهاء الشريعة الإسلاميّة بعقل حرّ راشد، وليستنبطوا الأحكام الملائمة للقضايا الجديدة، مدركين جوهرها، إذِ العبرة بالمقاصد والنّيّات، لا بالمظاهر والأشكال.
ومن هذا المنطلق؛ فإنّ الأسلوب الذي ينبغي أن تعتمده الأمّة هو الاجتهاد الجماعي المنظّم، ليحلّ محلّ الاجتهاد الفرديّ، في القضايا الكبرى؛ وبذلك نرجع بالاجتهاد إلى سيرته الأولى، في عصر الخلافة الرّاشدة؛ حيث كان الخليفة يجمع الصّحابة، رضي الله عنهم، ويستشيرهم في الحوادث الطّارئة الهامّة، والسّبيل إلى ذلك هي المجامع الفقهيّة، والمجالس العلميّة المتخصّصة، التي تضمّ أشهر الفقهاء الرّاسخين في العلم، ممّن يجمعون بين العلم الشّرعيّ والمعرفة بقضايا العصر، ويُعْرَفون بصلاح السّيرة والورع والتّقوى، ويساعدهم علماء موثوقون في دينهم، من مختلف الاختصاصات، في شؤون الاقتصاد والاجتماع والقانون والطبّ، ونحو ذلك، ليكونوا بمثابة خبراء يعتمد الفقهاء رأيهم في اختصاصاتهم العلميّة؛ وذلك لكي تكون القرارات التي تصدر عن هذه الهيئات مبنيّة على فهم وإدراك لواقع الحال، في كلّ موضوع ومسألة، ولكي لا يُرمى أعضاؤها بأنّهم يحكمون بالحلّ والحرمة في أمور اختصاصيّة، من صحّية أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة، لا يعرفون حقيقتها وواقع الحال فيها.
إنّ الاجتهاد هو بمثابة الرّوح للشّريعة الإسلاميّة ومنبع الحياة لفقهها، ولا يُعقل أبدًا أن تؤدّي الشّريعة وظيفتها، وأن يكون لها فقه حيّ ينظّم مصالح البشر باستمرار، دون الاجتهاد، ولاشكّ أنّ الأبحاث الّتي تقدّم خلال ملتقانا هذا، تبيّن مكانة الاجتهاد في نطاق الشّرع الإسلامي، ودوره في حلّ المشكلات الناشئة في تطوّر الحياة، على مدى العصور، وبذلك تبرز أهميّة الاجتهاد وأثره في تجديد حياة الأمّة الإسلاميّة، وفعاليته في النّهوض بالمجتمعات الإسلاميّة.
حضرات السّادة والسيّدات؛
إنّ مثل هذه الملتقيات العلميّة، نشهد فيها أوقاتا مباركة، نقضيها في البحث المستفيض، والدّراسة الموضوعيّة، والمناقشات الجادّة، التي تربط ماضي المسلمين المُشْرِق بحاضرهم المتطلّع إلى الانبعاث والتّجديد، وترسم معالم مستقبلهم التّشريعيّ ونهوضهم الحضاريّ المنشود.
إنّ المسلمين لا تستقيم لهم حياة إلّا إذا اعتمدوا الإسلام في تشريعاتهم وأنظمتهم، وفي تخطيطهم لحاضرهم ومستقبلهم، فلقد كان الإسلام مصدر عزّ الأوّلين ومجدهم، وعامل تحرّر المتأخّرين ونهضتهم، والغاية المنشودة أن يكونوا في مستوى عظمته، مثلما كان أسلافهم؛ وذلك بإخلاص النِّيَّةِ، وصدق العزم، وتنسيق الجهود، وتوحيد الأهداف.
وفي ملتقانا اليوم، نستحضر الإمام الونشريسي، مثالًا صالحًا للعلماء العاملين، والأئمّة المجتهدين، حرّاس الملّة وحملة ميراث النّبوّة، كما جاء وصف العلماء العدول، الّذين يحملون أمانة العلم الشرعيّ، في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ».
جزى الله عنّا أئمّة العلم، الّذين أخذوه لله، وأعطوه لله، خير ما يجزي به عباده المحسنين، وألحقنا بهم في الصّالحين.
هذا، والله نسأل أن يجعل يومنا خيرًا من أمسنا، وغدنا خيرا من يومنا، وأن يقيّض من علماء الأمّة من يعملون لتجديد حياتها، وإصلاح أحوالها، ويرسمون للاجتهاد منهاجًا واضحًا شاملًا يضمن للمسلمين حياةً روحيّةً وماديّة متكاملة، ويحقّق لهم، بعون الله وتوفيقه، اليوم الأرشد، والغد الأسعد، والله وليّ الإعانة والتّوفيق، والحمد لله ربّ العالمين.
للتصفح والتحميل: