Scroll Top

كلمة السيّد عميد جامع الجزائر في ندوة: “المؤسّسات الرّوحيّة.. قوّة رائدة في تحرير الوطن”

كلمة السيّد عميد جامع الجزائر في ندوة:

كلمة السيّد وزير الدّولة عميد جامع الجزائر في النّدوة العلميّة، بعنوان:

«في ظلال الهجرة وذكرى استعادة الاستقلال»

يوم الأربعاء 27 ذي الحجّة 1445ه، الموافق 03 جويلية 2024م.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتّقين، ولا عدوان إلّا على الظّالمين، نحمده سبحانه حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، ونصلي ونسلّم على سيّدنا ونبينا وحبيبنا محمّد، وعلى آله وصحبه.

حضرات السّادة الأفاضل، حضرات السيّدات الفضليات.

أيّها الحضور الكريم، كلّ باسمه وسامي مقامه.

أحيكم جميعا بتحيّة مباركة طيّبة، فالسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أمّا بعد؛ فيطيب لي أن أحيّي جمعكم الكريم؛ أطيب تحيّة؛ وأرحّب بكم في رحاب جامع الجزائر، في ندوة علميّة ننظّمها، بمناسبة الاحتفال بذكرى استرجاع الاستقلال؛ وشعبنا المسلم يستعدّ لاستقبال العام الهجري الجديد 1446هـ، أهلّه الله على بلادنا وبلاد المسلمين بالأمن والإيمان، والسّلامة والإسلام؛ ومنّ فيه على أمّتنا بالنّصر والعزّة والتّمكين.

وفي مطلع العام المبارك، تحلّ بنا الذّكرى الثّانية والسّتون لاستعادة الاستقلال، وفي ظلالها نقف وقفة تقدير وإكبار لأرواح شهدائنا الأبرار، وللمجاهدين الأحرار؛ ويحضر معنا اليوم بقيّة صالحة من رجال ثورة التّحرير، وقادة جيش التّحرير؛ نقف وقفة إجلال وعرفان لتضحيات شعبنا الذي ابتُليَ بشرّ احتلال استيطانيّ، وضحّى بما ضحّى من خيرة أبنائه، باعوا أنفسهم لله، واشتراها منهم بنعيم مقيم، خير من الدّنيا وما فيها. اشتراها منهم بجنّة عرضها السّماوات والأرض، أعدّت للمتّقين.

قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 111].

حضرات السّادة والسيّدات.

إنّ الهجرة، كانت أعظم حادث في تاريخ الأمّة الإسلاميّة، يجد فيها المسلمون القدوة والأسوة. كانت بداية الانتقال من الضّعف إلى القوّة، ومن الجماعة إلى الأمّة والدّولة.

لقد كانت نقطة تحوّل في تاريخ البشريّة، وبداية لتجديد الحياة، وتطهير الأحياء، نجد فيها من العظات، ونأخذ من العبر ما يتصّل بحاضرنا، ويفيدنا في إصلاح أمرنا وبناء مستقبلنا، والذّكرى تنفع المؤمنين.

كانت الهجرة الخالدة نقلة تاريخيّة مشهودة، لبناء مجتمع جديد، سمته التّكافل والتّعاون، وتشييد دولة الحقّ والعدل والإحسان، دولة يباركها الرّحمن، وتضيئ جوانبها أشعّة الهدى والإيمان، فما أحوجنا اليوم إلى دروس الهجرة، في التّخطيط والتّدبير والتّطبيق؛ وليتنا، نحن المسلمين، نبدأ بخطوات جادّة على الطّريق؛ وعسى الله أن يمنّ علينا بالسّداد والتّوفيق.

ليتنا نقدّم لذكرى الهجرة، ولذكرى صاحب الهجرة ما يليق بهما من إجلال واحتفال، لنستفيد من وراء ذلك، في وعينا الاجتماعي، وجهادنا الحيويّ، وإقلاعنا الحضاريّ؛ ونكون برحمة الله ممّن رضي الله عنهم ورضوا عنه؛ وذلك هو الفوز العظيم.

 حضرات السّادة والسيّدات.

اخترنا عنوانا لندوتنا اليوم: «المؤسّسات الرّوحية قوّة رائدة في تحرير الوطن».

نحن في هذه النّدوة نتحدّث عن الوفاء لرسالة الشّهداء وتبليغها إلى الأجيال؛ ومضمون هذه الرّسالة ليس سوى المبادئ والقيم التي كافح من أجلها المجاهدون الأحرار، وضحّى في سبيلها الشّهداء الأبرار، من عهد الأمير، مرورا بالشّيخ بلحداد والمقراني وبوعمامة، إلى ثورة التّحرير.

لقد جاء مشروع نوفمبر متضمّنا جملة من هذه القيم؛ وعبّر عن مبادئ وأهداف، كان أهمّها توضيح هوّية الدّولة الجزائرية، بعد استعادة الاستقلال، واعتبار الإسلام الإطار الحضاري والمقوّم الأساسي للهوّية الوطنية؛ حيث نصّ على: «إقامة الدّولة الجزائريّة الدّيمقراطيّة الاجتماعيّة، ذات السّيادة، ضمن إطار المبادئ الإسلاميّة؛ وتحقيق وحدة شمال إفريقيا، في إطارها الطبيعي العربيّ الإسلامي»؛ فكان ذلك إعلانًا صريحًا أكّد الانتماء الحضاريّ للشّعب الجزائريّ الذي اختار هُوّيته، منذ أربعة عشر قرنًا، فلم يبغ عنها حولًا، ولن يرضى بغيره بديلًا.

لقد تمسّك شعبنا بالإسلام، منذ أن هداه الله إليه. وكما عرف فيه السّماحة والكرامة والمساواة الإنسانيّة؛ وجد فيه دين العدالة الاجتماعيّة؛ وهي في الإسلام عدالة إنسانية، تمتزج فيها القيم الماديّة بالقيم الرّوحيّة. إنّها القيم الّتي جعلت شعبنا يلوذ بالإسلام، ويعتصم بحبله، ويبقى على الدّوام محصّنا بركنه، متماسكا بقوّته.

وفي ضوء هذه القيم السّامية، كانت مبادئ المقاومة والجهاد؛ ومن قبس هذه الأنوار، يستلهم شعبنا عهد الشّهداء؛ ليبقى أمانة يحملها الخلف عن السّلف، على مرّ الزمان، وتعاقب الأجيال، بحول الله. إنّها أمانة الشهداء في اللّاحقين، وإنّها لعهد في رقابنا متين.

إنّ الجزائر الّتي كانت مثلًا يُحتذى في الصّمود والمقاومة والجهاد، لهي قادرة، بإذن الله، على أن تكون مثلًا في تحقيق ذاتها، وتحصين مقوّمات شخصيتها، وتثبيت عناصر هوّيتها؛ وذلك كلّه من مبادئ نوفمبر، وأهداف الاستقلال؛ ولا سيما ما يتعلّق منها بثوابت شعبنا: عقيدة، ولغة، وثقافة وطنية، وقيما روحية وأخلاقية.

أيّها السّادة والسيّدات.

لقد شكّلت المقاومة الرّوحية في الجزائر قوّة رائدة من أجل الدّفاع عن ثغور الوطن، وحماية بيضة الإسلام، منذ سقوط غرناطة سنة 1492م؛ فكانت معاقلها مناراتٍ علمية وجهادية واجتماعية للإسلام والوطنيّة، ومنارات علمية وجهادية واجتماعيّة؛ وهو ما أهّلها لأن تكون روح المقاومة الشّعبيّة وقيادتها في الجزائر، خلال القرن التّاسع عشر. ثمّ استمرّت في أداء وظائفها الرّوحيّة والوطنيّة إلى اندلاع ثورة التّحرير، الّتي شاركت فيها بطلبتها وأتباعها ومريديها. وكان بعضها ملجأً للمجاهدين، ومراكز للدّعم والتّموين والتّسليح.

إنّ هذه المؤسّسات هي المعاقل الحضاريّة، والقلاع الحصينة الّتي حفظت لشعبنا هوّيته الوطنيّة، ومقوّمات شخصيته الأساسيّة. لقد حمت شعبنا من مخاطر التّنصير والتّغريب، وحصّنت الأجيال من عوامل المسخ والذّوبان؛ ووقفت سدًّا منيعًا في وجه مخطّطات الاحتلال. تخرّج منها العلماء والفقهاء والدّعاة. فذادوا عن عقيدة الأمّة، ونافحوا عن هوّيتها وثوابتها، ومثّلوا في الأمّة قيم الإسلام ومبادئه، في شموله وسعته، في وسطيته وتوازنه، في يُسر شريعته وسماحة دعوته. لقد كانت معاهد للعلم، ورباطًا للجهاد، انطلق منها قادة الجهاد وجحافل المجاهدين، فقادوا المقاومة، وخاضوا المعارك، جعلوا غايتهم تحرير الوطن وتطهير الأرض من دنس المحتلّين، وبذلوا ما يملكون في سبيل الله، إعلاءً لكلمة الله. ولعلّ خير مثال لهؤلاء العظماء قائد المقاومة والجهاد، وباني الدّولة الجزائريّة الحديثة، الأمير عبد القادر، رضي الله عنه وأرضاه.

لقد ارتبط تاريخ الجزائر بهذه المعاقل، ارتباطًا وثيقًا، تاريخها العلميّ والثقافيّ، وتاريخها الوطنيّ الجهادي؛ وعلى الرغم من محاولات الإقصاء التي استهدفتها، والضغوط الممارسة عليها، والعوامل المناوئة لرسالتها، مازالت تحتلّ مكانة متميّزة في نفوس الجزائريين، وتمثّل جزءًا من وجدانهم؛ تلتفّ حولها قلوبهم، وتتآلف بدعوتها أرواحهم؛ يحتكمون إليها، ويطمئنّون لرأيها؛ تجمعهم في رحابها رابطة واحدة؛ فيستمعون من منبرها الموعظة الحسنة والكلمة الهادية؛ ولا يجدون في ساحتها إلّا صلاحًا وفلاحًا، وسكينةً وطمأنينةً، ومثابةً وأمنًا. تحكم روابط الألفة والأخوّة بين النّاس؛ وتمتصّ كلّ خلافٍ قد ينشأ بين الأفراد والجماعات.

هكذا أدّت رسالتها في الماضي؛ وأسهمت بدورها في الإصلاح الاجتماعي، ومقاومة الاستلاب والاغتراب الثّقافي، بالوسائل المتاحة، وحسب الظّروف والأوضاع والإمكانات. والآمال معقودة عليها لكي تستمرّ في الدّعوة إلى الله، على منهج الله؛ وتظلّ، كما كانت، عبر العقود والأجيال، منارات قرآنيّة، ومصابيح هداية، تغذّي القلوب بغذاء القرآن، وتزكّي النّفوس بهداية الإيمان؛ وتجعل في طليعة أهدافها حماية مرجعيتنا الدّينية الوطنيّة، فتحفظ مجتمعنا من المخاطر التي تهدّد انسجامه وتماسكه، بالدّعوة إلى نبذ الغلوّ والتّعصّب، وانتهاج سبيل الوسطيّة والاعتدال، والعمل لنشر قيم التّسامح، وإشاعة روح التّعاون والتّكافل، لكي تكون الأخوّة بين أبناء الجزائر هي الرّابطة الوثقى؛ ويكون المجتمع أسرةً واحدةً، تجمعه المحبّة والإخاء، ويظلّه التّضامن والتّعاون على البرّ والتقوى.

إنّ هذه القيم الرّوحيّة والوطنيّة هي ما نريدها أن تسود مجتمعنا، ويتحلّى بها شبابنا، لمواصلة مسيرة البناء، وتثبيت دعائم الاستقلال. ولا سبيل إلى ذلك إلّا بتربية النّشء تربية منبثقة من عقيدتنا، منسجمة مع مبادئنا وأهدافنا؛ تبعث الطّاقات الرّوحيّة في النّفوس؛ وتغرس الرّوح الوطنيّة في الأجيال؛ وتعزّز لديهم الشّعور بانتمائهم الحضاري الأصيل.

إنّ شبابَ الجزائر، اليوم، يعيش نعمةَ الاستقلالِ، فماذا عساه يعرف عن التّضحيات الجسام التي كانت ثمنًا للاستقلال. ماذا يعرف عن الجيل الذي صنع ملحمة التّحرير؛ وضرب مثلًا رائعًا في التّضحية والثّبات، والبذل والإقدام. أذكر أنّني قلت مثل هذا الكلام، في الذّكرى العاشرة لاستعادة الاستقلال، سنة اثنتين وسبعين؛ وكنت أوجّه خطابي للشّباب، في ندوة تلفزيونيّة، قلت فيها أيضا: «إنّ هؤلاء الأحرار، هم اليوم بين شهيد سبق إلى رحمة الله، ومعطوب فقد أعضاءه؛ ومازال شاهدًا على بطش الاستدمار، وبين مسؤول في مواقع العمل والبناء، يصل ليله بنهاره، لاستكمال الرّسالة وتبليغ الأمانة للأجيال».

تلكم هي رسالة الشّهداء إلينا، كنّا وسنظلّ أوفياء لها، نبلّغها ونذكّر بها؛ لتبقى حيّة في ذاكرة الأمّة، على مدى الأيّام، تتفاعل معها، وتعمل لتجسيد أهدافها وبلوغ غاياتها.

حضرات السّادة والسيّدات.

إنّنا، في الجزائر؛ ما زلنا نعيش إشكالية كتابة التّاريخ؛ ونُعاني الآثارَ السيّئةَ النّاجمةَ عن تحريف حقائقه؛ ولا سيّما تاريخ المقاومة والحركة الوطنيّة، والثّورة التّحريريّة. والنّصيب الأكبر من التّحريف أساء به بعض الكتّاب في التّاريخ إلى قلاع الإسلام في الجزائر، التي كانت معاقل للتّربيّة والجهاد والوطنيّة؛ وتمتزج في رسالتها الرّوح الدّينيّة الإسلاميّة بالرّوح الوطنيّة.

ونحن اليوم نتطلّع إلى الباحثين من جيل الاستقلال، من أهل الاختصاص، ذوي الكفاءات العلميّة، ننتظر منهم أن يتصدّوا لتصحيح الانحرافات، ويعيدوا كتابة التاريخ، بتجرّد وموضوعيّة، ونزاهة علميّة. وأملنا أن يُسهم جامع الجزائر في هذه الجهود، من خلال مخابره العلميّة، ومركز البحث في العلوم الدّينيّة.

إنّنا، في جامع الجزائر، نضع في طليعة أهدافنا العمل لتغيير النّظرة إلى المؤسّسات الدّينيّة والعلميّة، على الصعيدين الوطنيّ والدوليّ، بالتّعاون مع الهيآت العلميّة وجهات الدّولة المختلفة، سعيًا لإعطاء الصّورة الحقيقيّة لرسالة هذه المؤسّسات، والدّفع بحركتها الفاعلة من جديد؛ بما يخدم صالح الأمّة الإسلاميّة، بتعدّديتها، وتنوّعاتها المذهبيّة والاجتماعيّة؛ وبما يعيد إلى الجزائر أمجادها التّاريخيّة، وعطاءها الحضاريّ، الّذي تجسّد، بأبعاده الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة والعمرانيّة، خلال قرون من السّؤدد والرّيادة والتّأثير؛ ولا سبيل إلى تحقيق هذه الأهداف السّامية إلّا بتوحيد الجهود والتّعاون على أداء هذه الرّسالة الحضاريّة، خدمة لديننا وأمّتنا؛ مستمدين العون والتّوفيق من الله، فإنّه لا حول ولا قوة إلاّ بالله.

والله يقول الحقّ وهو يهدي السّبيل. وهو وليّ الإعانة والتّوفيق.

 

للتصفح والتحميل:

كلمة السيّد عميد جامع الجزائر في ندوة: “المؤسّسات الرّوحيّة.. قوّة رائدة في تحرير الوطن”