Scroll Top

خطبة الجمعة: وداعا شهر الصيام

وداعا شهر الصيام

الخطبة الأولى

الحمد لله الّذي خَلَقَ فَقَدَّرَ،  وشَرَعَ فَيَسَّرَ، وأشهدُ ألا إله إلّا اللهُ وحده لا شريك له، خالقُ كُلِّ شيءٍ بقدَرٍ، وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، الشّافِعُ المُشفَّعُ في المحشَرِ، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِهِ السّادَةِ الغُرَرِ، ما اتّصلت عينٌ بنظَرٍ، وأذنٌ بخبَرٍ.

أمّا بعد، أيّها المؤمنون أيّتها المؤمنات: إنّ في تعاقبِ اللّيلِ والنّهارِ، لذكرى لمن أراد أن يَتَذَكَّرَ، وعبرة لمن أراد أن يعتبِرَ، قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان: 62].

أيّها المؤمنون: كنّا بالأمسِ القريبِ ننتظر شهرَ رمضانَ، وها نحن اليوم قد ودّعنَاه، مَضَى هذا الشّهرُ الكريمُ، مضت تلك الأيّامُ المباركةُ واللّيالي العظيمَةُ، مضت بفضائلها ونفحاتِ ربّها، وقُسّمت الجوائزُ على الفائزين بعد صلاةِ العيدِ، روى الطّبرانيُّ عن سعيد بن أوس الأنصاريِّ عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْفِطْرِ وَقَفَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الطُّرُقِ، فَنَادَوْا: اغْدُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى رَبٍّ كَرِيمٍ، يَمُنُّ بِالْخَيْرِ، ثُمَّ يُثِيبُ عَلَيْهِ الْجَزِيلَ، لَقَدْ أُمِرْتُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَقُمْتُمْ، وَأُمِرْتُمْ بِصِيَامِ النَّهَارِ فَصُمْتُمْ، وَأَطَعْتُمْ رَبَّكُمْ، فَاقْبِضُوا جَوَائِزَكُمْ، فَإِذَا صَلَّوْا، نَادَى مُنَادٍ: أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ قَدْ غَفَرَ لَكُمْ، فَارْجِعُوا رَاشِدِينَ إِلَى رِحَالِكُمْ، فَهُوَ يَوْمُ الْجَائِزَةِ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْيَوْمُ فِي السَّمَاءِ يَوْمَ الْجَائِزَةِ».

فهنيئًا للذين أطاعوا ربّهم، وعظّموا شهرهم، وأخلصوا العمل لخالقهم، وحُقَّ لكلِّ مسلمٍ أن يغصَّ بعبراتِ الأسى على فراقِ رمضانَ، وأن يريقَ دموعَ الوداعِ لشهرِ الخيراتِ والبركاتِ، وداعًا يا حبيبَ المؤمنين، وداعًا يا أنيسَ العابدين، وداعًا يا شهرَ الصّبرِ والغفرانِ، وداعًا يا شهرَ القرآنِ، وداعًا يا شهرَ التّوبةِ والعتقِ من النّيرانِ، وداعًا أيّها الزّائرُ العزيزُ، وداعًا أيّها الضيفُ الكريمُ.

رَمَضَانُ دَمْعِي لِلْفِرَاقِ يَسِيلُ    وَالْقَلْبُ مِنْ أَلَمِ الْوَدَاعِ هَزِيلُ

رَمَضَـانُ إِنَّكَ سَيِّدٌ وَمُهَـــذَّبٌ    وَضِيَاءُ وَجْهِكَ يَا عَزِيزُ جَلِيــلُ

رَمَضَـانُ جِئْتَ وَلَيْلُنَا مُتَصَدِّعٌ    أَمَّا النَّهَـــارُ بِلَهْـــــوِهِ مَشْغُــــــــولُ

فَالْتفَّ حَوْلَكَ سَادَةٌ ذُو هِمَّةٍ    لَمْ يُثْنِهِمْ عَنْ صَوْمِهِمْ مَخْذُولُ

قَامُوا لَيَالِي وَالدُّمُــوعُ غَزِيرَةٌ    وَيَــدُ السَّخَــــاءِ يَزِينُـهَا التَّنْـــــوِيلُ

سَجَدُوا لِبَارِئِهِمْ بِجَبْهَةِ مُخْلِصٍ    وَأَصَابَ كُلًّا زَفْــــــرَةٌ وَعَــــــــوِيلُ

كَمْ فِيكَ مِنْ مِنَحِ الْإِلَهِ وَرَحْمَةٍ    وَالْعِتْقُ فِيكَ لِمَنْ هَفَا مَأْمُولُ

وَسَحَائِبُ الرَّحَمَاتِ فِي فَلَكِ الدُّجَى    فِي لَيْلَــــــــةٍ نَادَى بِهَا التَّنْـــــزِيلُ

وَمَلاَئِكُ الرَّحْـــمَنِ تُحْيِي لَيْلَهَا    فِيْهِمْ أَمِيــنُ الْوَحْيِ جِبْرَائِيــــــلُ

وَعِصَابَةُ الشَّيْطَانِ فِي أَصْفَادِهَا    قَدْ ذَلَّهَا التَّسْبِيـــــــــحُ وَالتَّهْلِيــــلُ

أيّها المؤمنون، أيّتها المؤمنات: إنّ المؤمنَ بعد رمضانَ بين حالتين، بين رجاءٍ وخوفٍ، وبين فرحٍ وحزنٍ، فرِحٌ بما قَدَّمَ في رمضانَ من أعمَالٍ روحانيَّةٍ، فرِحٌ بصومِهِ وبقيامِهِ وختمِهِ للقرآنِ، فرحٌ بالدّعاءِ والذّكرِ وإفطارِ الصّائمين، وأنواعِ البِرِّ التي قدّمها في هذا الشّهرِ المبارَكِ، ومن ناحيةٍ أخرى نجده خائفًا وَجِلًا يقول هل تقبَّلَ اللهُ عمله أم لا؟ هل بَلَغَ درجَةَ المتّقين الذين قال الله في شأنهم: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 27].

كان السَّلَفُ الصَّالِحُ ــ عبادَ اللهِ ــ يجتهدون في إتمَامِ العَمَلِ وإكمَالِهِ وإتقَانِهِ، ثم يهتمّون بعد ذلك بقَبُولِهِ ويخافون من ردِّهِ، وكانوا لقَبُولِ العَمَلِ أَشَدَّ منهم اهتمَامًا بالعَمَلِ ذَاتِهِ.

وهؤلاء الذين يؤتون ما آتوا وقلوبُهُم وَجِلَةٌ، يُعطي أَحَدُهُمْ ويخشى أن لا يُقْبَلَ منه، يتصدَّقُ ويخافُ أن تُرَدَّ عليه، يصومُ ويقومُ ويحذَرُ أن لا يُكْتَبَ له الأجرُ، قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

روى التَّرمذيُّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون: 60] قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنْهُمْ، (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 61]».

ومن علامات التّقوى ــ أيّها المؤمنون ــ مواصلةُ العملِ بعد رمضانَ، مواصلةُ العبادةِ والطّاعةِ وخاصّةً ونحن مطالبون بذلك إلى أن نلقاه جَلَّ وَعَلَا، كما قال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99]، واليقينُ هو الموتُ.

وقال الله تعالى: (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) [مريم: 65].

ومن علاماتِ قبُولِ الطّاعةِ أن يُوَفَّقَ العبدُ للطّاعةِ بعدها.

ومن علاماتِ قَبُولِ الحسنَةِ فِعلُ الحسنَةِ بعدها، ومن رحمةِ الله تبارك وتعالى وفضلِهِ؛ أنّه يُكْرِمُ عبدَهُ إذا فعل حسنَةً، وأخلص فيها له، بأن يفتح له بابًا إلى حسنةٍ أخرى، ليزيدَهُ منه قُرْبًا؛ ولعلّه لأجلِ هذا، شَرَعَ لنا صيامَ السِّتِّ من شَوَّالٍ، حتّى لا تنقطِعَ عبادةُ الصّيامِ، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ».

وفي رواية ابن ماجه عن ثَوْبَانَ مَوْلَى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ كَانَ تَمَامَ السَّنَةِ، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا»،  ولا يُشترطُ في صيامها التّتابُعُ،  بل الأفضلُ أن تُصَامَ متفرِّقَةً.

أيّها المؤمنون: إنّ العملَ الصّالحَ شجرَةٌ طيّبَةٌ، تحتاجُ إلى سقايَةٍ ورعايَةٍ، حتّى تنمو وتَثْبُتَ، وتؤتي ثمارَهَا، وإنّ أهمَّ قضيّةٍ نحتاجُ إليها، أن نتعاهد أعمالَنَا الصّالحَةَ التي كنَّا نعمَلُهَا، فنحافظ عليها، ونزيد عليها شيئًا فشيئًا، وبذلك تدومُ طاعةُ الإنسانِ ويعظمُ ثوابُهُ، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ».

أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين، فاستغفروه يغفِر لكم، وهو الغفورُ الرَّحيمُ، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

الخطبة الثانية

الحمد لله الّذي بنعمته تتمّ الصّالحات، الحمد لله حقّ حمده، حمدا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد ألا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدا عبد الله ورسوله،  نشهد أنّه بلغ الرّسالة،  وأدّى الأمانة،  ونصح للأمّة،  وكشف الغمّة وجاهد في الله حقّ جهاده حتّى أتاه اليقين، صلوات ربّي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمّا بعد؛ أيّها المؤمنون: لقد مَنَّ اللهُ عليكم بإتمامِ شهرِ الصّيامِ ثلاثين يومًا زيادةً في حسناتِكُمْ، ومغفرةً لسيئاتِكُمْ، ورفعًا لدرجاتِكُمْ، وصدق اللهُ تعالى إذ يقول: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 186].

واعلموا عبادَ الله، أنّ ربَّ رمضانَ هو ربُّ سائِرِ الشّهورِ، فاتّقوا اللهَ وراقِبُوهُ في أعمالِكمْ، وحافِظُوا على صلواتِكُمْ تسعدُوا في دنياكُمْ وأُخراكُمْ، صِلُوا أرحامكُمْ وإن قطعُوكُمْ وأحْسِنُوا إليهم وإِنْ أساؤُوا إليكم، تَطُلْ أعمارُكُمْ ويوسّع لكم في أرزاقِكُمْ، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ».

أحسنُوا إلى جيرانِكُمْ، فانّ نبيّكُمْ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»، ولا يتمُّ إيمانُ عبدٍ حتّى يأمَنَ جارُهُ بوائقَهُ.

أحسنُوا تربيةَ أبنائِكُمْ تَنَالُوا دعواتِهِمْ بعد مَمَاتِكُمْ، احرصُوا على أَكْلِ الحَلَالِ تَصْلُحْ ذُرِّيَاتِكُمْ، وتُستَجبْ دعواتُكُمْ؛ وإيّاكم والظّلمَ فإنّ الظّلمَ ظلماتٌ يومَ القيامةِ؛ وأكثروا من الحسناتِ فإنّهنّ يذهبن السيّئاتِ.

اللّهمّ بارك لنا في القرآنِ العظيمِ، وانفعنا بما فيه من الآيَاتِ والذّكرِ الحكيمِ.

اللّهمّ كما سلّمتنا رمضانَ، وأعنتنا على صيامه وقيامه، فتسلّمْهُ منّا مقبولًا، وأعتق رقابنا من النّار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.

اللّهمّ أحينا مسلمين، وبلّغنا أمثال هذا الشّهرِ الكريمِ أعوامًا عديدَةً وأزمنَةً مديدَةً.

 

للتصفح والتحميل:

وداعا شهر الصيام
جَامعُ الجزائر مركزٌ دينيّ، عِلميّ، ثقافيّ وسياحِيّ، يقعُ على تراب بلديّة المُحمَّديَّة بولاية الجزائر، وسط خليجها البحريّ. تبلغُ مساحته 300.000 متر مربّع، يضمّ مسجِدا ضخما للصّلاة، يسع لـ 32000 مصلٍ، وتصلُ طاقة استيعابِه إلى 120 ألف مصلٍ عند احتساب صحنه وباحَاته الخارجيّة.
قاعة الصّلاةِ وصحنها الفسـيح، جاءت في النّصوص القانونيّة المُنشِأة للجامع، تحتَ تسميةِ “الفضاء المسجدِيّ”.
ويضُمّ المجمّعُ هياكلَ أخرى ومرافقَ سُمّيت بالهَيئات المدمجة، ووجدت هـذه المرافق لتُساهم في ترسـيخِ قِيم الدّين الإسلاميّ من: قرآن منزّلٍ وسنّةِ مطهّرة على صاحبها أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم، وكذا للحِفاظ على المرجعيّة الدّينيّة الوطنيّة، بما يخدُم مكتسبات الأمّة ويحقّق التّواصل مع الغير.
وجامع الجزائر هـو معلم حضاريّ، بِهندسته الفَريدة، التي زَاوجـت بين عراقة العِمارة الإسلاميّة بطَابعها المغَاربيّ الأندلسيّ، وآخِر ابْتكارات الهندسة والبِناء في العالم، حيث حقّق عدّةَ أرقامٍ قيَاسيةٍ عالميةٍ في البناء.
فمن حيث الأبْعادُ الهنْدسيةُ، يُعدّ الجامع بين المساجد الأكبر والأضْخَم عبر العالم، بل هو ثالث أكبرِ مسجدٍ في العالم بعد الحرَمين الشريفَين بمكة المُكرّمَة والمدينَةِ المنوّرَة، وهو أكبر مساجد أفْريقيا على الإطلاق، فمساحة قاعة صلاته تبلغ 22 ألف متر مربع، وقُطر قبته 50 مترا، وفُرِش بـ 27 ألف متر مربع من السجّاد الفاخر المصنوعِ محليّا، وتزيَّنت الحوافّ العلويّة لجدرانه بـ 6 آلاف متر من الزّخرفة بمختلف خطوط الكتابة العربيّة.