Scroll Top

خطبة الجمعة: مجازر 17 أكتوبر 1961

الخطبة الأولى

الحمدُ للّهِ ثمّ الحمدُ للّهِ، الحمدُ للّهِ حمدًا يُوَافِي نعمهُ، ويكافِئُ مزيدهُ، يا ربّنا لك الحمدُ كما ينبغي لجلالِ وجهِك، ولعظيمِ سلطانِك، وأشهدُ أن لا إله إلّا اللّهُ وحده لا شريك له، الملِكُ الحَقُّ المبينُ، نَاصِرُ المستضعفين، ومهلِكُ المتجبّرين، وأشهَدُ أنّ سيِّدَنَا محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، خاتمُ الأنبياءِ والمرسلين، وقَائِدُ الغُرِّ المحجلين، صلّى اللّهُ عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.

أمّا بعد؛ فيأيّها الإخوةُ المؤمنون: التّاريخُ أمانَةٌ في أعنَاقِ الأجيَالِ، يورِّثُهُ السَّابِقُ للاَّحِقِ، وهو ذاكرَةُ الأمَّةِ الحَيَّةِ، بأحداثِهِ المؤلمَةِ والمشرقَةِ، وكُلٌّ فيه دروسٌ وعِبَرٌ، فيها معالِمُ هاديَةٌ لمستقبَلٍ مَاجِدٍ، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف: 111].

وتاريخُ الجزائِرِ ملِيءٌ بالبطولَاتِ، زَاخِر بالتّضحيَاتِ الجسيمَةِ الغاليَةِ، ملهِم لكلِّ الشّعوبِ المستضعَفَةِ في الأرضِ، نَشْرُف بالانتمَاءِ إليه، ونَعتَزُّ باستذكارِهِ في كلِّ مناسبَة تهلّ علينا بصفحَة مشرِقَة متجدِّدَة من تاريخِنَا الخَالِدِ، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ [الرعد: 5]، وقد مَرَّتْ بنا أَمْسِ ذكْرَى مؤلِمَةٌ من أحدَاثِ تاريخِ ثورتِنَا المجيدِ، ألا وهي مَجَازِرُ السّابِعِ عشرَ من شهرِ أكتوبر، من عَامِ واحدٍ وستّين وتسعمِائَةٍ وَأَلْفٍ، التي تذكِّرنَا بشاعَتُهَا بجرائِمِ الاستدمَارِ ووحشيَّتِهِ التي اسودَّ بها سِجِلُّهُ الدَّامِي في ذاكرَةِ التّاريخِ،  ومُلَخَّصُ الأحدَاثِ يَتَمَثَّل في محاوَلَةِ الإدارَةِ الاستدماريَّةِ كَتْمَ صَدَى الثّورَةِ الذي بَلَغَ شوارِعَ باريس، من خلَالِ الوحشيَّةِ التي بَطَشَتْ بالمتظاهرين السّلميين الجزائريين، الذين خرجوا في هذا اليومِ رَفْضًا لقرَارِ حَظْرِ التِّجْوَالِ بباريس وضَوَاحِيهَا، الذي يشمَلُ العُمَّالَ الجزائريين على وَجهٍ أَخَصّ،  حيث أضحَت حركَةُ هؤلاء مقيّدَةً من الثَّامنَةِ والنّصفِ مَسَاءً إلى الخامسَةِ والنّصفِ صَبَاحًا، وأثناءَ تَجَمُّعِ الجزائريين في السَّاحَاتِ العَامَّةِ للتّنديدِ بقرَارِ المستعمِرِ، لم تتورَّع أجهزَة الأمنِ الفرنسيِّ عن استخدَامِ الرَّصَاصِ الحَيِّ في مواجهَةِ المتظاهرين، الذين تقيَّدوا حرفِيّا بتعليمَاتِ قيادَاتِ الثّورَةِ، القاضيَةِ بعدَمِ استعمَالِ الأسلحَةِ والاكتفَاءِ برفعِ الرَّايَاتِ واللّافتَاتِ المُطَالبَةِ بإلغَاءِ الحَظرِ والمُطَالبَةِ باستقلَالِ الجزائِرِ، تَدَخَّلَتْ الشّرطَة الفرنسيَّة بوحشيَّةٍ وشرعت في قَمْعِ المتظاهرين، فَقَتَلَتْ العشرَاتِ منهم عمْدًا في الشّوارِعِ ومحطَّاتِ مِتْرُو الأنفَاقِ، وألقت بآخرين من الجُسُورِ في نَهرِ السّين، وقد بلغ مجموعُ من استشهدوا في هذه المجازِرِ ما يربُو على ثلاثمِائةِ شهيدٍ، كما زجت بالألاف في السجون يسومونهم ألوان العذاب،  وقد تمّت هذه المجازِرُ تحت مَرْأَى ومَسْمَعٍ من الصَّحَافَةِ العالميَّةِ، التي وَثَّقَتْ الجرائِمَ البشعَةَ وَوَصَفَتْهَا بأنّها أَعْنَفُ قَمْعٍ لمظاهرَةٍ في أوروبا الغربيَّةِ في التّاريخِ المعاصِرِ، ولا يُفَسِّرُ هذه القسوَةَ والقُوَّةَ الغاشمَةَ في قَمْعِ المتظاهرين غير الجنون الذي أَصَابَ السّلطَاتِ الاستدماريّةِ خوفًا من اندلَاعِ الثّورَةِ في شوارِعِ فِرَنْسَا، بعد ما كانت تُرَاهِنُ على كَتْمِ أنفاسِهَا في الجزائِرِ.

أيّها السّادةُ الأعزاءُ: هذه الأحدَاثُ المؤلمَةُ التي لم تَزَلْ حَيَّةً في ذاكرتِنَا، لا يمكن أن تَلُفَّهَا غَيَاهِبُ الزَّمَنِ مهما تباعدَت أيّامُهُ، ولا تسقُطُ هذه الجنايَاتُ التي هي جرائِمُ حربٍ ضِدَّ الإنسانيَّةِ بالتّقادُمِ، ولا يمكن أن تُبْنَى عَلَاقَاتٌ طبيعيّةٌ مع عَدُوِّ المَاضِي إلّا بعد تسويَةِ مِلَفِّ الذّاكرَةِ واعترافِهِ بجرائمِهِ الموثَّقَةِ في أرشيفِهِ وسطّرتْهَا أَيَادِيهِ الآثمَةِ.

ذلك لأنّ تلك التّضحيَاتِ الجسيمَةَ هي أمانَةُ الشّهدَاءِ في أعناقِنَا، وهي مصدَرُ فخرِنَا، وسَبَبُ مجدِنَا الخالِدِ الذي يرفَعُ رأسَ كُلِّ جزائريٍّ في كُلِّ زَمَانٍ ومَكَانٍ، وكَفَاهُمْ شَرَفًا ومَكْرُمَةً أنّهم أحْيَاءٌ عند ربِّهِمْ يُرْزَقُونَ، قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169].

وما أشبَهَ اليومَ بالبارحَةِ، وكأنّ التّاريخَ يُعِيدُ نفسَهُ؛ فمنطِقُ الاستدمَارِ وَاحِدٌ، والإجرَامُ والجبن هو وسيلتُهُ الخسيسَةُ التي تَصمُّهُ، فها هو الاحتلَالُ الصهيونيُّ اليومَ في أرضِ فلسطينَ ــ ونحن نحُيِي ذِكْرَى هذه المجازِرِ الأليمَةِ ــ يذكِّرُنَا عمَلِيّا بارتكابِهِ مَجَازِرَ لا تَقِلُّ في بشاعَتِهَا وهمجيَّتِهَا عن بشاعَةِ وهمجيَّةِ إجرَامِ المستدمِرِ الفرنسِيِّ، تحت صَمْتٍ عَالَمِيٍ مُرِيبٍ، بل تَوَاطُئٍ مفضوحٍ.

أيّها الأحبّةُ في اللّه: أَوَّلُ درسٍ نتعلّمُهُ ونحن نَتَدَارَسُ أحدَاثَ التّاريخِ؛ أن لا نَنْسَى تضحيَاتِ شهدائِنَا الأبرَارَ، ولا تاريخَنَا الّذي سطّرُوهُ بدمائِهِمْ الزّكيَّةِ، والذي بسببِهِ نَحيَا أعِزَّاءَ فوق أرضِنَا، فخورين بماضِينَا، آمنين في أوطانِنَا.

وإنّ من الوَفَاءِ لشهدائِنَا أن نَرْوِيَ بطولاتِهِمْ التي سطّروهَا بدمائِهِمْ للأجيَالِ، وهذا ما أرشدنا إليه القرآنُ الكريمُ في قولِهِ تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب: 23].

وهكذا كان دَأْبُ أسلافِنَا رضي اللّه عنهم، يروون لأبنائِهِمْ وأحفادِهِمْ غزواتِ النّبيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وبطولاتِ المسلمين في حمايَةِ الدِّينِ، والدّفاعِ عن الأمَّةِ ودَحْرِ المعتدين، فعن إسماعيلَ بنِ محمَّدِ بنِ سَعْدِ بنِ أبي وقّاصٍ رضي اللّه عنهما: «كَانَ أَبِي يُعَلِّمُنَا مَغَازِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعُدُّهَا عَلَيْنَا، وَسَرَايَاهُ، وَيَقُولُ: يَا بَنِيَّ، هَذِهِ مَآثِرُ آبَائِكُمْ فَلَا تُضَيِّعُوا ذِكْرَهَا».

وصَدَقَ شاعرُ جمعيّةِ العلماءِ المسلمين محمّدُ العيدِ آلِ خليفة إذ يقول:

رَحمَ اللَّهُ مَعْشَرَ الشُّهَـــدَاءِ … وَجَزَاهُمْ عَنَّا كَرِيمَ الْجَزَاءِ

وَسَقَى بِالنَّعِيمِ مِنْهُمْ تُرَابًا … مُسْتَطَابًا مُعَطَّرَ الْأَرْجَــــــــاءِ

هذِهِ فِي الثَّرَى قُبُورٌ حَوَتْهُـــــــــــمْ … أَمْ قُصُورٌ تَسْمُو عَلَى الْجَـوْزَاءِ؟

لَا تَقُلْ مَعْشَرًا قَضَوْا في سَبيل اللَّـ … ـهِ مَوْتَى، بَلْ هُمْ مِنَ الْأَحْيَاءِ

إِنَّهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ حَوْلَ رِزقٍ … مِنْه في نِعْمَةٍ وَفِي سَرَّاءِ

هَكَذَا أَخَبَرَ الْإِلَهُ فَصَـــدَّقَ … نَبَأَ اللَّهِ أَصْدَقَ الْأَنْبِيَاءِ

أَيُّهَا الزَّائِرُونَ سَاحَةَ طُهْـــرٍ … قُدُسِيٍّ وعِزَّةٍ قَعَســـاءِ

قَدْ وَطِئْتُمْ مَا طَابَ مِنْهَا فَطِبْتُمْ … وَسَعِدْتُمْ بِزَوْرَةِ السُّعَدَاءِ

شُهَدَاءُ التَّمَدُّنِ فِي كُلِّ عَصر… سرُجُ الأَرضِ بَل نُجُومُ السَّمَاءِ

لَم أَجِدْ فِي الرِّجَالِ أَعْلَى وِسَامًا … مِنْ شَهِيدٍ مُخَضَّبٍ بِالدِّمَاءِ

ولأنّ منطِقَ الاستدمَارِ واحِدٌ، فإنّ نهايتَهُ واحِدَةٌ بإذنِ اللّهِ، وتلك هي سُنَّةُ التّاريخِ ومنطِقُ الأشيَاءِ، كما قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: 5]، فقد كتب اللّهُ الخُلُودَ للأصلَحِ لا للمتجَبِّرِ الطَّاغِي، مهما كانت قوّتُهُ وجبروتُهُ، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: 105].

وقال أيضًا: ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: 128].

والدّرسُ الثّانِي المستفَادُ، أن نَظَلَّ إلى جَانِبِ المستضعفين في الأرضِ، نَدْعَمُ الشُّعُوبَ الواقعَةَ تحت وَطْأَةِ القَهْرِ والجبروتِ، وعلى رأسِهِمْ إخواننَا في الأرضِ المقدّسَةِ بفلسطينَ، الذين يرزحون تحت نَيْرِ الإبادَةِ الجماعيَّةِ العلنيَّةِ، فنحن أكْثَرُ الشُّعُوبِ إحساسًا بمرارَةِ الاحتلَالِ والظّلمِ، وأَكْثَرُ معرفَةً بحقيقَةِ العيشِ تحت القَصْفِ والحِصَارِ والتّدميرِ، فالقضيَة وَاحِدَة والموقِف وَاحِد، فكما نعتَزُّ بمجاهِدِينَا وشهدائِنَا الذين صنعوا تاريخَنَا، نعتَز بشهدَاءِ ومجاهِدِي أرضِ الرِّباطِ فلسطينَ، وكما كان طريقُ استقلالِنَا وعِزّتِنَا هو الجهَادُ والمقاوَمَةُ، فنحن معهم لأنّهم مِنَّا ونحن منهم،  ونحن مع كُلِّ مُقَاوِمٍ للظّلمِ، يدافِع عن أرضِهِ وعِرضِهِ، ويَأْبَى أن يُحْنِيَ هامتَهُ إلّا للّهِ، فشعارُنَا وَاحِدٌ، إمّا النّصرُ وإمّا الشَّهَادَةُ، قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ﴾ [التوبة: 52].

الدّرسُ الثّالثُ: بعد مرورُ ثلاثٍ وستّينَ (63) عامًا على هذه المجازِرِ الموثّقَةِ والمسَجَّلَةِ، لم تتحرَّكْ المنظّمَاتُ الحقوقيَّةُ والدّوليَّةُ لإدانَةِ هذه الجرائِمِ والمجازِرِ، التي هي جرائِمُ ضِدَّ الإنسانيَّةِ، وقد تَمَّتْ في قلبِ أوروبا المتغنِّيَةِ بحقوقِ الإنسَانِ، ما يجعَلُ مِصْدَاقِيَّتَهَا تَتَهَاوَى، والثِّقَةَ بها تنقطِعُ،  والتعويلَ عليها في استرجَاعِ الحقوقِ لا طَائِلَ منه،  لأنّها موجَّهَةٌ على الضّعفَاءِ وحسب؛ كما قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن قريشٍ زَمَنَ الجاهليَّةِ: «إِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ»، وأصحَابُ هذا المنْطِقِ ليس لهم الأهليَّةُ لقيادَةِ العَالَمِ ولا تدريسُ النّاسِ قِيَمَ الحَقِّ والعَدْلِ، وأنّ الحُقُوقَ تُؤخَذُ ولا تُعْطَى، كما قال أميرُ الشّعراءِ أحمد شوقي:

ولِلْحُرِّيَّةِ الْحَمَرَاءِ بَابٌ    بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ

وقال أيضًا:

قِفْ دُونَ رَأْيِكَ فِي الْحَيَاةِ مجَاهِدًا     إِنَّ الْحَيَاةَ عَقِيدَةٌ وَجِهَادُ

قال تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ  وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ [التوبة: 15].

أقول قولي هذا وأستغفِرُ اللّهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كُلِّ ذَنْبٍ، فاستغفرُوهُ تجدُوهُ غفورًا رحيمًا.

الخطبة الثانية

الحمدُ للّهِ ربِّ العالمين، وأشهَدُ أن لا إله إلّا اللّهُ ولِيُ الصّالحين، وأشهَدُ أنّ سيِّدَنَا محمَّدًا عبدُ اللّهِ ورسولُهُ الصّادقُ الأمينُ، صلّى اللّه عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعين..

أما بعد:

أيّها الجمعُ الكريمُ: فإنّ من حُقُوقِ الشّهدَاءِ والمجاهدين علينا، أن نَعرِفَ فضلَهُمْ، وأن نَتَذَاكَرَ مآثِرَهُمْ التي هي فَخْرُنَا وتَاجٌ فوق رُؤُوسِنَا، وذلك بأن نكونَ أوفيَاءَ لتضحيَاتِهِمْ الغاليَةِ، بالمحافظَةِ على استقلَالِ أرضِنَا ووحدَةِ شعبِنَا، والسَّعْيِ الحَثيثِ لبنائِهِ، والبلوغِ به أَعْلَى غَايَاتِ المَجْدِ والحضارَةِ، كُلٌّ من موقعِهِ على قَدرِ جهدِهِ واستطاعَتِهِ، وأن نحمِيَهُ من الأخطَارِ والدَّسَائِسِ وكَيْدِ المتآمرين، فمهما تَعَاظَمَتْ الأخطَارُ والتّهديدَاتُ، لن تحقِّقَ أغراضَهَا البائسَةَ ما دَامَتْ جبهتُنَا الدّاخليَّةُ متماسِكَةً وصُلْبَةً عَصِيَّةً على الاخترَاقِ والمَكْرِ، كما قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103].

وقال: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46].

وكما قال عليه الصّلاةُ السّلامُ: «لَا تَقَاطَعُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا إِخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ».

يا أُمَّةَ القرآنِ: إنّ الجزائرَ أمانَةُ الشّهداءِ في أعناقنا، ماذا نقولُ لرِّبنا إذا سألَنَا عن هذه الأمانَةِ المودعَةِ إلينا؟ وكيف يكونُ ردُّنَا إذا سألَنَا عن نعمَةِ الحرّيَّةِ والاستقلَالِ؟ هل حفِظْنَا أو ضيّعْنَا؟ هل وفّيْنَا أو خُنَّا؟

نسألُ اللّهَ تعالى أن يعينَنَا على حفظِ أمانَةِ الشّهداءِ، وأن يحفظَ بلدَنَا من كيدِ الكائدين، ومن شَرِّ الضّالين المضلِّين.

اللّهمّ استعمِلْنَا فيما يُرْضِيكَ، والطُفْ بنا فيما جَرَتْ به المقادِيرُ، واجعَلْ بلدَنَا آمِنًا مطمَئِنًّا، سَخَاءً رَخَاءً، وسائِرَ بِلَادِ المسلمين، وَوَحِّدْ كلمتَنَا، واجْمَعْ شَملَنَا، واجعلْنَا يَدًا واحدَةً على من عَادَانَا، واختِمْ بالباقيَاتِ الصّالحَاتِ أعمالَنَا.

اللّهمّ أصلِحْ لنا دينَنَا الّذي هو عِصْمَةُ أمرِنَا، وأصلِح لنا دُنْيَانَا التي فيها مَعَاشُنَا، وأصلِح لنا آخرتَنَا التي إليها مَعَادُنَا، واجعَلْ الحَيَاةَ زيادَةً لنا في كُلِّ خَيْرٍ، واجْعَلْ الموتَ راحَةً لنا من كُلِّ شَرٍّ، وأَحْسِنْ عاقبتَنَا في الأمورِ كُلِّهِا، وأَجِرْنَا اللّهمّ من خِزْيِ الدّنيَا وعَذَابِ الآخرَةِ.

واجعَلْ آخِرَ كَلَامِنَا في الدّنيا لا إلهَ إلّا اللّهُ محمَّدٌ رسولُ اللّهِ، ثمّ احشُرْنَا في زمرَةِ خيرِ الأنَامِ، مع الّذين أَنْعَمْتَ عليهم من النّبيّين والصّدّيقين والشّهدَاءِ والصّالحين وحَسُنَ أولئك رفيقًا.

اللّهمّ آمين.

للتصفح والتحميل:

جَامعُ الجزائر مركزٌ دينيّ، عِلميّ، ثقافيّ وسياحِيّ، يقعُ على تراب بلديّة المُحمَّديَّة بولاية الجزائر، وسط خليجها البحريّ. تبلغُ مساحته 300.000 متر مربّع، يضمّ مسجِدا ضخما للصّلاة، يسع لـ 32000 مصلٍ، وتصلُ طاقة استيعابِه إلى 120 ألف مصلٍ عند احتساب صحنه وباحَاته الخارجيّة.
قاعة الصّلاةِ وصحنها الفسـيح، جاءت في النّصوص القانونيّة المُنشِأة للجامع، تحتَ تسميةِ “الفضاء المسجدِيّ”.
ويضُمّ المجمّعُ هياكلَ أخرى ومرافقَ سُمّيت بالهَيئات المدمجة، ووجدت هـذه المرافق لتُساهم في ترسـيخِ قِيم الدّين الإسلاميّ من: قرآن منزّلٍ وسنّةِ مطهّرة على صاحبها أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم، وكذا للحِفاظ على المرجعيّة الدّينيّة الوطنيّة، بما يخدُم مكتسبات الأمّة ويحقّق التّواصل مع الغير.
وجامع الجزائر هـو معلم حضاريّ، بِهندسته الفَريدة، التي زَاوجـت بين عراقة العِمارة الإسلاميّة بطَابعها المغَاربيّ الأندلسيّ، وآخِر ابْتكارات الهندسة والبِناء في العالم، حيث حقّق عدّةَ أرقامٍ قيَاسيةٍ عالميةٍ في البناء.
فمن حيث الأبْعادُ الهنْدسيةُ، يُعدّ الجامع بين المساجد الأكبر والأضْخَم عبر العالم، بل هو ثالث أكبرِ مسجدٍ في العالم بعد الحرَمين الشريفَين بمكة المُكرّمَة والمدينَةِ المنوّرَة، وهو أكبر مساجد أفْريقيا على الإطلاق، فمساحة قاعة صلاته تبلغ 22 ألف متر مربع، وقُطر قبته 50 مترا، وفُرِش بـ 27 ألف متر مربع من السجّاد الفاخر المصنوعِ محليّا، وتزيَّنت الحوافّ العلويّة لجدرانه بـ 6 آلاف متر من الزّخرفة بمختلف خطوط الكتابة العربيّة.