Scroll Top

خطبة الجمعة: ذكرى معركة حطّين

الخطبة الأولى

الحمدُ للّهِ رَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ، نَحمَدُهُ تعالى حَمْدًا يَدُومُ بدوامِهِ دَوامُ الأنفَاسِ، وأشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللّهُ وحدَهُ لَا شَريكَ لَهُ، القائلُ سُبحانَهُ: (وَتِلْكَ الايَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140]؛ وأشهَدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، سيِّدُ النّاسِ، وسرَاجُ الهدايَةِ والنّبرَاسُ الوهَّاجُ والقمرُ المنيرُ، وهو القائِلُ صلّى اللّه عليهِ وسلّم فيما رواه أحمدُ في مُسندِهِ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الدِّينِ ظَاهِرِينَ، لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ»، صلوَاتُ ربّي وسَلَامُهُ عليهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ الطيّبينَ الطّاهرينَ، ومَنْ تبعَهُمْ بإحسَانٍ إلى يومِ الدِّينِ، أمّا بعدُ:

معاشِرَ المؤمنينَ: إنَّ التّدافُعَ بينَ الحَقِّ والباطِلِ، وبينَ الكُفْرِ والإيمَانِ، سُنَّةٌ من السُّنَنِ الإلهيَّةِ الثّابتَةِ منذُ أنْ بَدَأَ اللّهُ الخليقَةَ، قال اللّهُ تعالى: (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُّسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) [آل عمران: 179]؛ وأثنَاءَ هذا الصّرَاعِ والتّدافعِ تكونُ الدّولَةُ لأهلِ الحَقِّ تَارَةً، ولأهْلِ البَاطلِ تَارَةً أخرى، لحِكَمٍ إلهيَّةٍ كثيرَةٍ، منها أنْ يختَارَ اللّهُ ويَصطفي شهدَاءَ؛ يدافعونَ عنِ الحَقِّ ويموتونَ عليه، كما قــــــال تــعالى: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران: 140].

ومنَ الحكَمِ الإلهيَّةِ كذلكَ، حِفْظُ الدّنيا منَ الفَسَادِ، قالَ تعالى: (وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251]، وحتّى لا يَعُمَّ الفسَادُ في الأرضِ ولا ينتشِرَ البَاطِلُ، جَعَلَ اللّهُ سُنَّةَ التَّدَافعِ بينَ النّاسِ، الّتي لولاها ما بَقِيَ مسجِدٌ يُعْبَدُ فيه اللّهُ، قال عزّ وجلّ: (وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40].

لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ       فَلَا يُغَرَّ بِطِيبِ العَيشِ إِنسَانُ

هِيَ الْأُمُورُ كَمَا شَهِدْتُهَا دُوَلٌ        مَنْ سَـــرَّهُ زَمَنٌ سَاءَتْهُ أَزمَانُ

وَهَذِهِ الدَّارُ لَا تُبْقِي عَلَى أَحَدٍ       وَلَا يَدُومُ عَلَى حَالٍ لَهَا شَـانُ

أيُّهَا الأَفَاضِلُ: إنّنا اليومَ وفي آخِرِ شهرِ ربيعٍ الآخر، نستذكِرُ مناسبَةً عظيمَةً؛ وذكرَى عزيزَةً، تُفْرِحُ القلبَ وتبعَثُ على الأمَلِ، بعد أن بدأ اليَأْسُ والقنوطُ يدُبَّانِ إلى قلوبِنَا، نتيجَةَ هذه الأوضَاعِ الشّاقَّةِ المؤلمَةِ، والأحداثِ الموجعَةِ الخطيرَةِ، ومشاهِدِ التّخريبِ والتّقتيلِ بأبشَعِ أنواعِ المجازِرِ والمذابِحِ، في أرضِ الرّباطِ والجهادِ، أرضِ الإسراءِ والمعراجِ، فلسطينَ الأبيَّةِ.

نَتَذَكَّرُ اليومَ مَعْرَكَةَ حِطِّينَ الَّتِي وقعت أحداثُهَا في يومِ السّبتِ 25 من شهرِ ربيعٍ الآخِرِ سنةَ 583هـ، الموافق 4 جويلية 1187م، بقيادَةِ القائِدِ العَابِدِ الزَّاهِدِ صَلَاحِ الدِّينِ الأَيُّوبِيِّ ضِدَّ الصَّلِيبِيِّينَ، الَّذِينَ اسْتَوْلَوْا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ البِلَادِ الإِسْلَامِيَّةِ، بِمَا فِيها المَسْجِدُ الأَقْصَى، وَمَكَثُوا فِيهَا مَا يُقَارِبُ قَرْنًا مِنَ الزَّمَنِ؛ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَتَلُوا الأَنْفُسَ البريئَةَ، وَذَبَحُوا مِنَ المُسْلِمِينَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَقَطْ سَبْعِينَ أَلْفًا، حَتَّى بَلَغَتِ الدِّمَاءُ الرُّكَبَ فِي شَوَارِعِ القُدْسِ، وَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، وَتَبَّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا، فَتَمَكَّنَ الْيَأْسُ من قُلُوبِ المُسْلِمِينَ، وَظَنَّ الكَثِيرُ منهم أَنْ لَا أَمَلَ فِي النَّصْرِ، وَلَا رَجَاءَ فِي عَوْدَةِ الأَرْضِ إِلَى المُؤمنين، بِمَا فِيهَا الأَقْصَى الْمُبَارَكُ، كَمَا هو حَالُنَا اليَوْمَ، بَلْ اليومَ أَسْوَأُ، نَظَرًا لِكَثْرَةِ المُتَآمِرِينَ وَالمُتَخَاذِلِينَ، وَلَكِن لِلَّهِ فِي خَلْقِهِ شُؤُونٌ، وَكُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ سُبْحَانَهُ، فَقَدْ سَخَّرَ جُنْدًا مِنْ جُنْدِهِ، جَمَعَهُمْ مِنْ أَصقَاعٍ شَتَّى، مِنْ مِصْرَ وَالشَّامِ وَالجَزِيرَةِ وَالعِرَاقِ وَبلدَانِ المَغْرِبِ، تَحْتَ قِيَادَةِ صَلَاحِ الدِّينِ الأَيُّوبِيِّ، الَّذِي حَشَدَ لِهَذِهِ المَهمهَّةِ الْعُلَمَاءَ وَالفُقَهَاءَ، يُحَرِّضُونَ المُجَاهِدِينَ عَلَى القِتَالِ، وَاسْتَطَاعَ بِحَمْدِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ أَنْ يَجْتَمِعَ لَدَيْهِ آلَافُ المُجَاهِدِينَ، لِيُكَوِّنَ منهم جَيْشًا بَرِّيًّا جَرَّارًا، وَيُنشِئَ أَسْطُولًا بَحْرِيًّا قَوِيًّا، لِتَنْدَلِعَ مَعْرَكَةُ حِطّينَ إِحْدَى أَهَمِّ المَعَارِكِ الفَاصِلَةِ فِي التَّارِيخِ الإِسْلَامِيِّ، تِلْكَ المَعْرَكَةُ الَّتِي أَنهَتْ زُهَاءَ تسْعَةِ عُقُودٍ مِنَ الذُّلِّ وَالهَوَانِ وَالتَّشَرْذُمِ وَالاضْمِحْلالِ، وَبِهَا تَيَسَّرَ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدسِ، وَبَعْدَهَا تَهَاوَتِ القِلَاعُ الصَّلِيبِيَّةُ، الَّتِي طَالَمَا أَغَارَتْ عَلَى مَنَاطِقِ المُسْلِمِينَ.

وَلنْسْتَمِعْ ــ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ــ إِلَى الحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ وَهُوَ يَقُصُّ عَلَيْنَا جانِبًا مِنْهَا فِي كِتَابِهِ (البِدَايَة وَالنِّهَايَة) إِذْ يَقُولُ: «فَتَوَاجَهَ الفَرِيقَانِ، وَتَقَابَلَ الجَيْشَانِ، وَاصْفَرَّ وَجْهُ الإِيمَانِ، وَاغْبَرَّ وَأَقْتَمَ وَجْهُ الكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَدَارَتْ دَائِرَةُ السُّوءِ عَلَى عَبَدَةِ الصُّلْبَانِ، وَذَلِكَ عَشِيَّةَ الجُمُعَةِ،…إلى أن قال:  وَتَبَارَزَ الشُّجَعَانُ، ثُمَّ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِالتَّكْبِيرِ وَالحَمْلَةِ الصَّادِقَةِ، فَحَمَلُوا وَكَانَ النَّصْرُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنَحَهُمُ اللَّهُ أَكْتَافَهُمْ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ ثَلَاثُونَ أَلْفًا فِي ذَلِكَ اليَوْمِ، وَأُسِرَ ثَلاثُونَ أَلْفًا مِنْ شُجْعَانِهِمْ وَفُرْسَانِهِمْ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ أُسِرَ جَمِيعُ مُلُوكِهِمْ سِوَى قَوْمَسِ طرَابُلُسَ، فَإِنَّهُ انْهَزَمَ فِي أَوَّلِ المَعْرَكَةِ»، انتهى كلامُ الحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ.

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ مَعْرَكَةَ حِطِّينَ وَمَا تَبِعَهَا مِنَ انْتِصَارَاتٍ وَفُتُوحَاتٍ، بِقَدْرِ مَا تَرَكَتْ مِنَ الرَّهْبَةِ وَالهَيْبَةِ فِي قُلُوبِ الصَّلِيبِيِّينَ، تَرَكَتْ كَذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ إِعْجَابًا كَبِيرًا بِنُبْلِ المُسْلِمِينَ وَشَهَامَتِهِمْ، وَخَاصَّةَ بتَسَامُحِ وَحُسْنِ مُعَامَلَةِ القَائِدِ صَلَاحِ الدِّينِ الأَيُّوبِيِّ وَجَيْشِهِ مَعَ الأَسْرَى وَزَوْجَاتِ الصَّلِيبِيِّينَ وَبنَاتِهم، مِمَّا جَعَلَ العَدِيدَ مِنَ المُدُنِ وَالحُصُونِ تَسْتَسْلِمُ دُونَ مُقَاوَمَةٍ تُذْكَرُ، وَبِفَضْلِ هَذِهِ السَّجَايَا مَارَسَتْ جُيُوشُهُ ضَبْطَ النَّفْسِ عِنْدَمَا انْتَصَرَتْ عَلَى الصَّلِيبِيِّينَ، وَتَجَنَّبَتْ ارْتِكَابَ الأَعْمَالِ الوَحْشِيَّةِ بَعْدَ أَنْ تَمَكَّنَتْ مِنْهُمْ، عَلَى عَكْسِ مَا يَفْعَلُهُ الصَّهَايِنَةُ اليومَ ضِدَّ إِخْوَانِنَا فِي غَزَّةَ وَفِلَسْطِينَ، مِنْ بطشٍ، وترويعٍ، وتجويعٍ، وتَدْمِيرٍ، وَتَهْجِيرٍ، وَسَفْكٍ لِلْدِّمَاءِ، حَتَّى وَصَلَ بِهِمُ الأمرُ إلى أَنْ يَحْرِقُوا الأَبْرِيَاءَ العُزَّلَ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، مَا أَعْظَمَ الإِسْلَامَ، وَمَا أَقْبَحَ الظُّلْمَ وَالعُدْوَانَ.

إنّنا ــ أيّها المؤمنون والمؤمنات ــ نشعُرُ اليوم بأَلَمٍ يعتصِرُ قلوبَنَا اعتصَارًا، لما يَقَعُ لإخوانِنَا في فلسطينَ، حيث أطنَانٌ من القَنَابِلِ المحرَّمَةِ دولِيًّا تُلْقَى على قِطَاعِ غَزَّةَ، ومئاتُ الأسَرِ أبيدَتْ عن آخرِهَا، وعشراتُ الآلافِ من الشّهدَاءِ، وتدميرٌ كاملٌ للبُنَى التَّحْتِيَّةِ، والعالمُ يتفرَّجُ على ما يجري على أرض الإسراءِ والمعراجِ وكأنّ الأمر لا يعنيه!

وينتابنا الشّعورِ نفسُه الذي سَادَ العالَمَ الإسلاميَّ عندما تنازَلَ المَلِكُ الكامِلُ عن بيتِ المقدسِ للإمبراطورِ فردريك الثّاني، وأَنْشَدَ الشّاعِرُ ابنُ المُجَاوِرِ قصيدتَهُ التي منها:

أَعَيْنَيَّ لَا تَرْقَــيْ مـــــــــــــــنَ الْعَبَــــــــــــــــرَاتِ    صِلِي في الْبُكَا الْآصَالَ بِالْبُكُرَاتِ

لَعَلَّ سُيُولَ الدَّمْعِ يُطْفِــــــــــــــــــئُ فَيْضُـــــهَا    تَوَقُّدَ مَا فِي الْقلْبِ مِنْ جَمَـــــــرَاتِ

وَيَا قَلْبُ أَسْعِرْ نَارَ وَجْـــــــــــــــــدِكَ كُلَّـــمَا    خَبَتْ بادِّكَارٍ يَبْعَثُ الْحَسَــــــــــــرَاتِ

وَيَا فَمُ بُحْ بِالشَّجْــــــــــــــــوِ مِنْك لعلــــــــــهُ    يُرَوِّحُ مَا أَلْقَى مِنَ الْكُــــــــــــــــــــرُبَاتِ

عَلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي جَلَّ قَدْرُهُ    عَلَى مَوْطِنِ الْإِخبَات وَالصَّلَــوَاتِ

عَلَى سُلَّمِ الْمعْرَاجِ وَالصَّخْــــــــــرَةِ الَّتِي    أَنَافَتْ بِمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ صَخَرَاتِ

عَلَى الْقِبْلَةِ الْأُولَى الَّتِي اتَّجَهَتْ لَــــــهَا    صَلَاةُ الْبَرِيَّا فِي اخْتِلَافِ جِهَــــــاتِ

وَمَا زَالَ فِيهِ لِلنَّبِيِّيـــــــــــنَ مَعْبَــــــــــــــــــــــــدٌ    يُوَالُونَ فِي أَرْجَائِهِ السَّجَـــــــــــــــــدَاتِ

لتَبْكي على الْقدْس الْبلَادُ بأَسْـــــــــرِهَا    وَتعْلن بالْأَحْزَان وَالتَّرِحَــــــــــــــــــــــاتِ

لِتَبْكِي عَلَيْهَا مَكَةُ فَهْيَ أُخْتُــــــــــــــــــــــهَا    وَتَشْكُو الَّذِي لَاقَتْ إِلَى عَرَفَــــــــــاتِ

لِتَبْكِي عَلَى مَا حَلَّ بِالْقُدْسِ طَيْبَــــــــــةٌ    وَتَشْرَحُهُ في أَكْرَمِ الْحُجُــــــــــــــــــــرَاتِ

بارَك اللّهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني ربّي وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذِّكْرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا وأستغفِرُ اللّهَ العظيمَ لي ولكم، فاستغفرُوهُ إنّه هو الغُفُورُ الرّحيمُ.

الخطبة الثانية

الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ، الحَمْدُ لِلَّهِ حَقَّ حَمْدِهِ، حَمْدًا كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، نَشْهَدُ أَنَّهُ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى الأَمَانَةَ، وَنَصَحَ لِلْأُمَّةِ، وَكَشَفَ الغُمَّةَ، وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ حَتَّى أَتَاهُ اليَقِينُ، صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:

مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ مَعْرَكَةَ حِطِّينَ شَاهِدَةٌ عَلَى العَلَاقَةِ القَوِيَّةِ بَيْنَ الجَزَائِرِ وَفِلَسْطِينَ، لِأَنَّ جَيْشَ المَغْرِبِ الأَوْسَطِ، أي الجَزَائِر حَالِيًا، كَانَ من أَوَائِلِ مَنْ لَبَّى نِدَاءَ الجِهَادِ، عِندَمَا صَدَحَتْ بِهِ المَآذِنُ بحيَّ على الجهادِ، جَيْشٌ يَقُودُهُ الوَلِيُّ الصَّالِحُ والعَالِمُ الفَقِيهُ العابدُ أَبُو مَدِينَ شُعَيْبٌ الغوث، دفينُ تِلِمسانَ، وَمُعْظَمُ أَفْرَادِ جَيْشِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَطَلَبَتِهِ الَّذِينَ يَدْرُسُونَ عِنْدَهُ بِبَجَايَةَ، هَذَا الجَيْشُ الَّذِي أَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا، وَأَظْهَرَ بَأْسًا شَدِيدًا إِلَى جَانِبِ صَلَاحِ الدِّينِ، فِي جِهَادِ الصَّلِيبِيِّينَ وَفِي تَحْقِيقِ الانْتِصَارِ بِمَعْرَكَةِ حِطِّينَ.

وَكَانَ مِنْ نَتَائِجِ هَذَا الدَّوْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي قَامَ بِهِ أَبُو مَدِينَ شُعَيْبٌ مَعَ أَتْبَاعِهِ وَطَلَبَتِهِ، أَنَّ قَرَّرَ صَلَاحُ الدِّينِ الأَيْوبِيُّ مُكَافَأَتَهُمْ بِأَوْقَافٍ كَبِيرَةٍ مِنَ النَّاحِيَةِ الغَرْبِيَّةِ لِلْمَسْجِدِ الأَقْصَى المُلَاصِقَةِ لِحَائِطِ البُرَاقِ، رَجَاءَ بَقَائِهِمْ فِي القُدْسِ، حَتَّى يَكُونُوا سَدًّا مَنِيعًا فِي وَجْهِ الصَّلِيبِيِّينَ إِذَا مَا فَكَّرُوا في مَعَاوَدَةِ الهُجُومِ عَلَى القُدْسِ مَرَّةً أُخْرَى، وَفِعْلًا اسْتَقَرُّوا وَتَجَذَّرُوا فِي هَذَا المَكَانِ، حَتَّى سُمِّيَ الحَيُّ بِحَيِّ المَغَارِبَةِ، وبابُ المسجِدِ الأقصى من ناحيتِهِمْ بِبَابِ الْمَغَارِبَةِ، وهم أجدادُكُمْ أيّها المؤمنون والمؤمنات، وَبَقِيَتْ يَدُ الوَلِيِّ الصَّالِحِ أَبِي مَدِينَ مَدْفُونَةً هُنَاكَ بَعْدَ أَنْ قُطِعَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهو يدافعُ عن دينِ اللّهِ ويحمي العرضَ، وَلَا تَزَالُ يَدُ الجَزَائِرِيِّينَ مَمْدُودَةً إِلَى الشَّعْبِ الْفِلِسْطِينِيِّ، ثَابِتَةً عَلَى عَهْدِ الأَسْلَافِ، لَا تَبْدِيلَ وَلَا تَغْيِيرَ، حَتَّى تَعُودَ القُدْسُ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى حَاضِنَةِ الإِسْلَامِ وَالمُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ في العالمين، وَارْضَ اللَّهُمَّ عن خلفائِهِ الرّاشدين، وعن أزواجِهِ أمَّهَاتِ المؤمنين، وعن سَائِرِ الصّحابَةِ أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنَاتِ الى يومِ الدِّينِ، وَعَنَّا معهم برحمتِك يا أرحَمَ الرّاحمين.

اللّهمّ اجعل لأهلِ فلسطينَ النّصرَةَ والعزَّةَ والغلبَةَ والقوَّةَ والهيبَةَ في قلوبِ أعدائِهِمْ، يا حيُّ يا قيّومُ.

اللّهُـمَّ أكرمْهُمْ واحفظْهُمْ واجعَلْ لهم من كُلِّ ضيقٍ مخرَجًا، اللّهُـمَّ افتح لهم فتحًا قريبًا، اللّهُـمَّ احْفَظْ القدسَ وأهلَ القدسِ، يا مَنْ لا تضيعُ عندَكَ الودائِعُ.

اللّهمّ إنا نستودعُكَ بيتَ المقدسِ وأهلَ القُدسِ وكُلَّ فلسطينَ، اللّهُمّ كُنْ لهم عونًا وظهيرًا، ووليًّا ونصيرًا.

اللّهمّ ردّ إلينا فلسطين والمسجد الأقصى ردًّا جميلًا.

اللّهمّ إنّا نسألُكَ الهُدَى والتُّقَى والعَفَافَ والغِنَى.

اللّهمَّ آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّهَا أنت خيرُ من زَكَّاهَا، أنت وَلِيُّهَا ومولَاهَا.

اللّهمّ اجعل جمعنا هذا جمعا مرحوما وتفرقنا من بعده تفرقا معصوما، ولا تجعل فينا ولا معنا شقيا ولا محروما.

رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.

رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.

عِبَادَ اللّهِ: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ، وَإِيتاءِ ذِي القُرْبَى، وَيَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.

عبادَ اللّهِ: اذكروا اللّهَ العظيمَ يَـــذْكُرْكُمْ، واشكرُوهُ على عُمُومِ نِعَمِهِ يزدكم، ولَذِكرُ اللّهِ أكبرُ، واللّهُ يَعلَمُ ما تَصنَعُونَ.

للتصفح والتحميل:

جَامعُ الجزائر مركزٌ دينيّ، عِلميّ، ثقافيّ وسياحِيّ، يقعُ على تراب بلديّة المُحمَّديَّة بولاية الجزائر، وسط خليجها البحريّ. تبلغُ مساحته 300.000 متر مربّع، يضمّ مسجِدا ضخما للصّلاة، يسع لـ 32000 مصلٍ، وتصلُ طاقة استيعابِه إلى 120 ألف مصلٍ عند احتساب صحنه وباحَاته الخارجيّة.
قاعة الصّلاةِ وصحنها الفسـيح، جاءت في النّصوص القانونيّة المُنشِأة للجامع، تحتَ تسميةِ “الفضاء المسجدِيّ”.
ويضُمّ المجمّعُ هياكلَ أخرى ومرافقَ سُمّيت بالهَيئات المدمجة، ووجدت هـذه المرافق لتُساهم في ترسـيخِ قِيم الدّين الإسلاميّ من: قرآن منزّلٍ وسنّةِ مطهّرة على صاحبها أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم، وكذا للحِفاظ على المرجعيّة الدّينيّة الوطنيّة، بما يخدُم مكتسبات الأمّة ويحقّق التّواصل مع الغير.
وجامع الجزائر هـو معلم حضاريّ، بِهندسته الفَريدة، التي زَاوجـت بين عراقة العِمارة الإسلاميّة بطَابعها المغَاربيّ الأندلسيّ، وآخِر ابْتكارات الهندسة والبِناء في العالم، حيث حقّق عدّةَ أرقامٍ قيَاسيةٍ عالميةٍ في البناء.
فمن حيث الأبْعادُ الهنْدسيةُ، يُعدّ الجامع بين المساجد الأكبر والأضْخَم عبر العالم، بل هو ثالث أكبرِ مسجدٍ في العالم بعد الحرَمين الشريفَين بمكة المُكرّمَة والمدينَةِ المنوّرَة، وهو أكبر مساجد أفْريقيا على الإطلاق، فمساحة قاعة صلاته تبلغ 22 ألف متر مربع، وقُطر قبته 50 مترا، وفُرِش بـ 27 ألف متر مربع من السجّاد الفاخر المصنوعِ محليّا، وتزيَّنت الحوافّ العلويّة لجدرانه بـ 6 آلاف متر من الزّخرفة بمختلف خطوط الكتابة العربيّة.