Scroll Top

خطبة الجمعة: العربية لغة القرآن والعلم

الخطبة الأولى

الحمدُ للّهِ رَبِّ العالمينَ، القَائِلِ في مُحْكَمِ تبيانِهِ (وَمَا أَرْسَلْنَا من رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَومِهِ ليُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم: 4]، أكرمَنَا ببعثَةِ سيّدِنَا محمَّدٍ عليه الصَّلَاةُ والسَّلَامُ، خَاتَمِ الأنبيَاءِ والمرسلينَ، اجْتَبَاهُ من خيرَةِ بُطُونِ العَرَبِ نَسَبًا وشَرَفًا، وزَيَّنَ منطقَهُ بالحرفِ العرَبِيِّ المَكينِ، ثم أَتَمَّ علينا النّعمَةَ بإنزَالِ كتابِهِ العَظِيمِ بلسَانٍ عربِيٍّ مبينٍ، فله الحمدُ الكريمُ، والمِنَّةُ السّابغَةُ إلى يومِ الدِّينِ، وأشهدُ أن لا إله إلَّا اللّهُ، ذُو الفضلِ العميمِ، وأشهدُ أنّ سيِّدَنَا محمّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، المبلِّغَ عن اللّهِ الآيَاتِ البَيِّنَاتِ والهُدَى القويمَ، ألَا واتَّقُوا اللّهَ عبادَ اللّهِ، وراقبُوهُ في السِّرِّ والعَلَنِ، وفي المَنْشَطِ والمَكْرَهِ، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، ألا وإنَّ أصدَقَ الحديثِ كتابُ اللّهِ تعالى، وخَيْرَ الهُدَى هُدَى محمَّدٍ عليه الصَّلَاةُ والسَّلَامُ، وشَرَّ الأمور محدثاتُهَا، وكُلَّ بدعَةٍ ضَلَالَةٌ، أمّا بعد:

فقد قالَ اللّهُ تعالى في مُحْكَمِ تبيانِهِ، وهو أصدَقُ القَائلينَ: (وَإنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ منَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء: 192 ــ 195].

أمّة القرآن: لقد أَكْرَمَكُمُ اللهُ تعالى بإنْزَالِ أعْظَمِ كتَابٍ سَمَاويٍّ عَرَفَتْهُ البشريَّةُ، ضَمَّنَهُ أفضَلَ العَقَائِدِ والشَّرَائِعِ والأخلَاقِ، دستورًا للعالمينَ، إنّه القرآنُ الكريمُ، الذي لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ من بين يَدَيْهِ ولا من خَلْفِهِ، إذْ إِنَّه تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ، ومن بَدِيعِ ما يَسْتَوْجِبُ التَّدبُّرَ والتَّفَكُّرَ، أنَّ إرادَةَ اللّهِ وعنايَتَهُ اختارَتِ اللّغَةَ العربيَّةَ وِعَاءً لمَعَانِي وَحْيِهِ، تشريفًا وتكريمًا، فقال تعالى حَاكِيًا عن آخِرِ كُتُبِهِ: (حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الزخرف: 1 ــ 3].

إن اقترَانَ اللّغَةِ العربيَّةِ بالقرآنِ، هو سِرُّ الرِّفْعَةِ والخُلُودِ، فَشَرَفُهَا من شَرَفِهِ، فهُوَ الكَلَامُ المعجِزُ بلفظِهِ ومعنَاهُ، تَحَدَّى اللّهُ به أربَابَ البَيَانِ، وأَسَاطِينَ البَلَاغَةِ مِمَّن مَلَكَ ناَصيتَهَا، فَتَصَدَّعُوا عنهُ، وهُم أَهْلُ صِنَاعَةِ الحَرْفِ العربِيِّ، فقال تعالى (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء: 88].

وسِرُّ تخصِيصِ اللّهِ تعالَى الأمَّةَ بالقرآنِ العربِيِّ المعجِزِ، أنّها أُمَّةٌ مصْطفَاةٌ لفرطِ ذكائِها، وأنَّ رسالتهَا خالِدةٌ إلى أن يرِثَ اللّهُ الأرضَ ومَنْ عَلَيْهَا، فَخُصَّتْ لأجلِ ذلك بالمعجِزَةِ العقلِيَّةِ الشَّاهِدةِ على صِدْقِ الوحيِ، يقول الحافِظُ السيوطِيُّ رحمَهُ اللّهُ مُتَحَدِّثًا عن معجِزَةِ القرآنِ التي خُصَّ بها أهلُ الإسلَامِ: «اعلمْ أنَّ المعجِزَةَ أمرٌ خَارِقٌ للعادَةِ، مقرونٌ بالتحدِّي، سالِمٌ عن المعارضَةِ، وهي: إما حِسِّيَّةٌ وإما عقلِيَّةٌ، وأَكْثَرُ معجزَاتِ بني إسرائيلَ كَانَتْ حِسِّيَّةً، لبلادتِهِمْ؛ وقِلَّةِ بصيرَتِهِمْ، وأَكْثَرُ معجزَاتِ هذه الأمَّةِ عقليَّةٌ، لفَرْطِ ذكائِهِمْ؛ وكمالِ أفْهامِهِمْ، ولأنَّ هذهِ الشّريعَةَ لمَّا كانتْ باقيَةً على صَفَحَاتِ الدَّهْرِ إلى يومِ القيامَةِ، خُصَّتْ بالمعجِزَةِ العقليَّةِ الباقِيَةِ، ليَرَاهَا ذَوُو البَصَائِرِ…».

أمّةَ التّكريم: إنّ من المقَرَّرِ في دينِنَا الحَنِيفِ أنّ اللّغَةَ العربيَّةَ هي اللِّسَانُ المبينُ، فمَنْ تَكَلَّمَ العربِيَّةَ فهو عَرَبِيٌّ، فقد وَرَدَ في الأثَرِ، كما عندَ ابنِ عَسَاكِرَ في تاريخِ دمشقَ عن أبي سَلَمَةَ مُرْسَلًا: «يَا أَيّهَا النَّاسُ إِنَّ الرَّبَّ وَاحدٌ، وَالأَبَ وَاحِدٌ، وَلَيْسَتْ العَرَبِيَّةُ بِأَحَدِكُمْ منْ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، وَإِنَّمَا هِيَ اللِّسَانُ، فَمَنْ تَكَلَّمَ بِالعَرَبِيَّةِ فَهوَ عَرَبِيٌّ»، ويخطئُ من يعتَبرُ العربيَّةَ جِنْسًا أو عِرْقًا يُتَعَصَّب لهمَا، إذ قد تَضَافَرَتِ النّصوصُ على نَبْذِ العصبيَّةِ الجاهليَّةِ، مُوَجِّهَةً إلى الاعتزَازِ بالدِّينِ والخُلُقِ، كما قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13]، وقد جَاءَ التّرغيبُ في تَعَلُّمِ اللّسَانِ العَرَبيِّ، كما في شُعَبِ الإيمَانِ للبيهَقِيِّ عن سيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللّه عنهُ، حيث يقولُ: «تَعَلَّمُوا العَرَبِيَّةَ، فَإِنَّهَا تُثَبِّتُ العَقْلَ، وَتَزِيدُ في المُرُوءَةِ».

وقد فَهِمَ رُوَّادُ الإصلَاحِ في بِلَادِنَا هذه المسألَةَ فَهمًا عَمِيقًا، فَنَجِدُ عَلَّامَةَ الجَزَائِرِ الشّيخَ عبدَ الحميدِ بنَ بَادِيسَ، قَدَّسَ اللّهُ سِرَّهُ، قد اعتبَرَ اللّسَانَ العَرَبيَّ من أبرَزِ مقَوِّمَاتِ هُوِيَّتِنَا، ولا شكَّ أنّه يقصِدُ الاعتزَازَ بِلُغَةِ القرآنِ، لا بالعِرْقِ العَرَبِيِّ أو القوميَّةِ العربيَّةِ، فهو صَنهَاجِيٌّ أَمَازيغيٌّ، حيثُ يقولُ في رَائِعَتِهِ:

شَعْبُ الْجَزَائِرِ مُسْلِـــــمٌ   وَإِلَى الْعُرُوبَةِ يَنْتَسِـــــــبْ

مَنْ قَالَ حَادَ عَنْ أَصْلِهِ   أَوْ قَالَ مَاتَ فَقَدْ كَذَبْ

 أمّةَ الرقيِّ والسُّؤْدَدِ: إنّ لغتَنَا العربيَّةَ تُوَاجِهُ صُعُوبَاتٍ كثيرَةً، تَسَبَّبَتْ في زعزَعَةِ مَكَانَتهَا، وتَطَرُّقِ الشُّكُوكِ إلى النّاطقين بها، فأضحَتْ هَدَفًا سَهْلًا لكُلِّ من يُريدُ النَّيْلَ منها، والانتقَاصَ من قدرِهَا، فاتُّهِمَتْ زورًا وبُهْتَانًا بأنّها لا تَصلُحُ لُغَةً للعلمِ والمعرفَةِ، كونَهَا لُغَةَ الغَزَلِ والشّعرِــ في زَعمهِمْ ــ، وهي لا تُوَاكِبُ التَّطَوُّرَ التّكنولُوجِيَّ الهائِلَ الذي وَصَلَ إليه الفِكْرُ البشرِيُّ، ولأجلِ التّفكيرِ في عوامِلِ ترقيَةِ اللُّغةِ العربيَّةِ وموَاكَبَتِهَا لعصرِ التّكنُولجيَّاتِ الحَدِيثَةِ بطُرُقٍ علميَّةٍ رصينَةٍ، يحسُنُ بنَا أن نَقِفَ أَوَّلًا عَلَى أَخطَرِ ما تُعَانِيهِ لُغَتُنَا الجميلَةُ من تحدِّيَاتٍ جِسَامٍ، ثم وَصْفِ الحلولِ العلميَّةِ لمواجهَةِ هذه المخاطِرِ، أمّا التّحدِّيَاتُ فراجعَةٌ إلى أمورٍ أربعَةٍ:

  • أوّلها: العاملُ النّفسيُّ: وهي عقدَةُ النَّقصِ التي تَرَكَهَا المستعمِرُ الأجنبِيُّ في نفوسِ المجتمعَاتِ المُسْتَعْمَرَةِ، من أنَّ اللّغَةَ العربيَّةَ ضَعيفَةٌ، وأنّها لا تصْلُحُ لموَاكَبَةِ العلومِ الحديثَةِ، وأنَّ منْ يَتَحَدَّثُ بها رَجْعِيٌّ مُتَخلِّفٌ؛ لا يَمُتُّ للمَدَنِيَّةِ بصِلَةٍ، بخلَافِ من يَتَكَلَّمُ اللّغَاتِ الأخرَى، فهو مُتَحَضِّرٌ ومُتَمَدِّنٌ.
  • ثانيها: التعقيدُ والعسْرُ في تعلُّمها: حيثُ ادَّعى كثيرون استصعَابَ قَوَاعِدِ اللّغَةِ العربيَّةِ (صَرْفًا ونَحْوًا وبَلَاغَةً)، بسبَبِ المَنَاهِجِ التّعليميَّةِ العتيقَةِ المُتَّبَعَةِ، حتى انْطَبَعَ في الفِكْرِ أنّها لغَةٌ صعبَةٌ، لا تَنْسَجِمُ وعَصْرَ السُّهُولَةِ والتَّخْفِيفِ.
  • ثالثها: تخلُّف المجتمعاتِ النّاطقة بها وضَعْفُهَا في مختلِفِ المَجَالَاتِ؛ ممّا انعكسَ سَلْبًا على اللّغَةِ العربيَّةِ، وبالمقابِلِ هناك لُغَاتٌ أَقَلُّ شَأنًا، كالإنجليزيَّةِ والصّينيَّةِ والتُّرْكِيَّةِ، ليسَتْ لها خَصَائِصُ العربيَّةِ، ولا تَرْقَى إلى جَمَالِهَا ورَوْنَقِهَا، فَرَضَتْ نفسَهَا بقوَّةِ بلدَانِهَا ــ سياسِيًّا واقتصادِيًّا وعسكرِيًّا ــ.
  • رابعها: المشكلةُ المعجميّةُ: ونَعْنِي بها النُّدرَةَ الرَّهيبَةَ في المصطلحَاتِ العربيَّةِ التي تقابِلُ المصطلحَاتِ الإنجليزيَّةِ في مختلِفِ المَجَالَاتِ، حيثُ نَجدُ اللّغَةَ الإنجليزيَّةَ قد اكتَسَحَتْ السَّاحَةَ العالميَّةَ اكتسَاحًا كُلِّيًّا «من حيثُ الوسائِلُ التقنيَّةُ، والهندسَةُ اللّغويَّةُ، وحَوْسَبَةُ اللّغَةِ، والرَّقْمَنَةُ، ووسائِلُ الإعلَامِ …»، وتشيرُ بعضُ الإحصائيَاتِ العلميَّةِ أنّ عدَدَ الملفَّاتِ بالعربيَّةِ على الشَّابكَةِ العالميَّةِ (الانترنت) لا يتجاوَزُ نسبَةَ 2 % من مجموعِ الملفَّاتِ باللُّغَاتِ الأخرَى، وهي نسبَةٌ ضئيلَةٌ جِدًّا.

أيّها المؤمنون: هذهِ أَهَمُّ التّحدّيَاتِ الفعليَّةِ التي تُوَاجِهُ لغَةَ القرآنِ، فهلْ من تريَاقٍ لهذه الأدوَاءِ المزعُومةِ التي نَخَرَتْ جَسَدَ لغتِنَا، وشَوَّهَتْ من نَصَاعَتِهَا وأَزَالَتْ بريقَهَا؟ والجَوَابُ العلمِيُّ الرّصينُ هو مضمونُ الخطبَةِ الثّانيَةِ.

أقول ما تسمعون، وأستغفِرُ اللّهَ الحليمَ العظيمَ لي ولكم، ويا فوزَ المستغفرين، أستغفِرُ اللّهَ.

الخطبة الثانية

الحمدُ للّهِ وكَفَى، والصَّلَاةُ والسَّلَامُ على النّبيِّ المُصْطَفَى، ومن بآثارِهِ اقْتَفَى، وبعَهْدِ اللّهِ وَفَّى، وسَلَامٌ على عبادِهِ الذينَ اصطفى، وبعد: فإنَّ من أبرَزِ ما ينبغِي أن نُعْنَى به في عصرِنَا هذا للرُّقِيِّ بلغتِنَا الجميلَةِ إلى العليَاءِ، ونَرُدَّ بعِلْمٍ ومنطِقٍ علَى كُلِّ الهَجَمَاتِ الآثمَةِ التي وَجَّهَهَا أعدَاءُ العَربيَّةِ لها، ما يأتي:

أوّلًا: عُقْدَةُ النّقصِ اتجاه اللّغات الأخرى: وَهْمٌ غَرَسَتْهُ أَيَادِي الاستعمَارِ ــ خصوصًا المستعمِرَ الفرنسِيَّ ــ في نفوسِ المسلمين، محَاربَةً لثَوَابِتِهِمْ وهويَّتِهِمْ، وقد نَجَحُوا إلى حَدٍّ كبيرٍ في طَمْسِ الهُوِيَّةِ العربيَّةِ الإسلاميَّةِ، والمسلِمُ مأمورٌ شرعًا بأن يعتَزَّ بلغَةِ القرآنِ، وأن ينفتِحَ على كلِّ اللّغَاتِ من بَابِ التَّلَاقُحِ المعرِفِيِّ، ولأجلِ وَظِيفِيَّةِ اللّغَةِ أيضًا، فهي تحقِّقُ مصالِحَ التَّبَادُلِ الاقتصادِيِّ والثّقافِيِّ، وبها يحصُلُ التعارُفُ المأمُورُ به في قولِهِ تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) [الحجرات: 13]، وما أجمَلَ استِنْبَاطَ العلَّامَةِ ابن باديسَ من حديثِ زيدِ بن ثابِتٍ رضي اللّهُ عنه، حينما أَمَرَهُ النّبيُّ عليه الصّلاةُ والسّلامُ بتعلُّمِ اللّسَانِ العبرانِيِّ، وهو يشيرُ إلى وظيفيَّةِ اللُّغَةِ، حيث يقولُ: «كُلُّ قومٍ تربِطُ بينهُمْ المَصَالِحُ لا بُدَّ لهم من التَّعَاونِ، ولا يَتِمُ التَّعَاونُ إلا بالتَّفَاهُمِ، والتَّفَاهُمُ بالمُشَافَهَةِ والكِتَابَةِ، فعلى القومِ المترابطين بالمَصْلَحَةِ أن يُفْهِمُوا بَعْضَهُمْ لُغَةَ بَعْضٍ وخَطَّهُمْ».

ثانيا: دعوى العُسْرِ المقترنِ ِبقواعِدِ اللّغةِ العربيّةِ: فالجوابُ عنه بأنَّ المشكلَةَ في طريقَةِ تلقينِهَا، لا في ذَاتِهَا، لذَا فإنّ الأمَّةَ مطالبَةٌ ببذْلِ الوَسْعِ لتيسيرِ تعليميَّةِ اللّغَةِ ــ خصوصًا عِلْمَي النَّحْوِ والصَّرْفِ ــ، باستغلَالِ كلِّ الوسائِلِ التّقنيَّةِ المتاحَةِ، وانتهَاجِ كلِّ الآليَاتِ اللّغويَّةِ التي وَضَعَهَا العَرَبُ: من تعريبٍ وترجمَةٍ ونَحْتٍ واشتقَاقٍ وتَوْلِيدٍ، ونَجِدُ بأنّ هذا المَنْحَى قد اتَّبَعَهُ الأقدمون، وترجَمُوهُ في أعمَالٍ جليلَةٍ، أدَّتْ إلى تطورٍ كبيرٍ في اللّغَةِ، من ذلك نقطُ الإعرَابِ (الذي يشيرُ إلى حَرَكَاتِ الإعرَابِ)، ونقطُ الإِعْجَامِ (الذي يرمُزُ إلى حَرَكَاتِ الضَّبْطِ والشَّكْلِ)، يقول الأستاذُ الكبيرُ شوقي ضيف: «يظنُّ كثيرون أنّ فِكْرَةَ تيسيرِ النّحْوِ للنّاشِئَةِ فكرَةٌ حديثَةٌ، وأنّ أسلافَنَا لم يُعْنَوْا بها، وهو ظَنٌّ غيرُ صحيحٍ، إذ نَجِدُ الجَاحِظَ في القرنِ الثّالثِ الهجرِيِّ يُوصِي مُعَلِّمَ العربيَّةِ ألَّا يَشْغَلَ قلبَ الصّبِيِّ منه إلّا بقَدرِ ما يؤَدِّيهِ إلى السَّلَامَةِ من اللَّحْنِ في كتابٍ يكتبُهُ وشِعْرٍ يُنْشِدُهُ وشيءٍ يَصِفُهُ..».

ومن التّيسيرِ المنشودِ أيضًا: الاعتنَاءُ باللهجَاتِ العاميَّةِ التي دَرَجَت عليها المجتمعَاتُ العربيَةُ، ومحاولَةُ تضييقِ الهُوَّةِ بينها وبين الفصيحِ من الكَلَامِ، فعلى سبيل المثَال نَجدُ ألفَاظا كثيرَةً من العاميَّةِ؛ أصلُهَا فصيحٌ، جاءت موافقَةً للقراءَاتِ القرآنيَّةِ المتواترَةِ، فتسمَعُ الجزائِرِيَّ يستعمِلُ في كلامِهِ لفظَةَ (قاللَّك)، و(لَرْضَ)، و(مُومِن)، فيعتَقِدُ السَّامِعُ أنّه يتكلَّمُ بعاميَّةٍ لا علاقَةَ لها بالفُصْحَى، والمتمَعِّنُ فيهَا مِمَّنْ يُجِيدُ اللّغَةَ العربيَّةَ يَجِدُهَا قدْ بَلَغَتْ غَايَةَ الفَصَاحَةِ، فاللّفظَةُ الأولى (قَاللَّك)، هي من الإدغَامِ الكبيرِ، وأصلُهَا (قالَ لَك)، وممّن قرأَ به الإمامُ أبو عمرو البصريُّ براوييه الدُّورِيِّ والسُّوسِيِّ، واللّفظَةُ الثّانيَةُ، أصلُهَا (الأَرض) بالهمزةِ أو النَّبْرِ، وفيها حُكْمُ نقْلِ حركَةِ الهمزَةِ (أي الفتحة) إلى السّاكِنِ قبلهَا، على رواية ورشٍ، واللّفظَةُ الثّالثَةُ فأصْلُهَا (مُؤمن)، وأبْدِلَتْ الهمزَةُ واوًا تخفيفًا على روايَةِ وَرْشٍ وغيرِهِ.

وقد أبدعَ الأستاذُ شوقي ضيف في كتابِهِ «تيسيرات لغوية»، حين عَقَدَ بَابًا بعنوانِ «تسويغُ ألفاظٍ دارجةٍ»، ذكَرَ فيه كَمًّا هَائِلًا من الكلمَاتِ الدّارجَةِ وأصلُهَا فَصِيحٌ.

ثالثًا: تخلُّفُ مجتمعاتنا الناطقة بها: والجوابُ عن هذه الدَّعْوَى أنّه لا عَلَاقَةَ بين اللُّغَةَ والتّقدُّمِ التِّقَنِيِّ، ولم تكنِ اللّغَةُ يومًا ما عائِقًا عن الرِّفْعَةِ والسُّؤْدَدِ، وقد أثبتَ مَاضِينَا التَّلِيدُ، بأنّ الحَضَارَةَ الإسلاميَّةَ العربيَّةَ بلَغَتْ أوَجَّهَا وهي متمسِّكَةٌ باللِّسَانِ العربِيِّ، وذي جامِعَاتُ بغدَادَ وقرطبَةَ شاهِدَةٌ على ذلك، وقد بَرهَنَ الحَاضرُ بأنَّ الدّوَلَ الغربيَّةَ المتطوِّرَةَ، بَلَغَتْ ما بَلَغَتْ، وهي متشبِّثَةٌ بلغَةِ قومِهَا، وهذه الحقيقَةُ توجِبُ علينا نحنُ المسلمينَ أن نأخذَ بِزِمَامِ العِلْمِ بِقوَّةٍ وحَزْمٍ، ونحن مفتخرونَ بهُوِيَّتِنَا، لبلوغِ عليَاءِ المَجْدِ، وصَرْحِ الحضَارَةِ.

رابعًا: المشكلةُ المعجميَّةُ: ودعْوى ضعْفِ مصطلحَاتِ اللّغَةِ مقارنَةً باللّغَةِ الإنجليزيَّةِ، خصوصًا في المنصَّاتِ العالميَّةِ، فهو في الحقيقَةِ تقصيرٌ من أهلِهَا بالدّرجَةِ الأولى، ومع هذا العَجْزِ فإنّ بصيصًا من الأمَلِ قد لاَحَ في الأفُقِ من خلَالِ التَّجَارُبِ الفريدَةِ التي قامت بها المؤسَّسَاتُ العلميَّةُ في مختلِفِ الدّوَلِ العربيَّةِ، خدمَةً للّغَةِ العربيَّةِ وترقيَةً لها، فعلى سبيل المِثَالِ: أنجزَ المجلِسُ الأعلى للّغَةِ العربيَّةِ عدَّةَ معاجِمَ متخصّصَةٍ وقَوَاميسَ في مختلِفِ المَجَالَاتِ، منها: «معجَمُ ألفَاظِ الحَيَاةِ العَامَّةِ في الجزائِرِ»، و«معجَمُ المصطلحَاتِ الإداريَّةِ»، و«القَامُوسُ الوَرَقْمِيُّ للمطلحَاتِ اللّسانيَّةِ»، وعلى غرارِهِ قامَ المَجْمَعُ الجزائِرِيُّ للّغَةِ العربيَّةِ بإنجَازِ دراسَاتٍ علميَّةٍ ترْقَى بلغتِنَا إلى مجدِهَا المَأْمُولِ، مثل: «العربيَّةُ بين الحضارَةِ والحداثَةِ»، و«رُوَّادُ النّهضَةِ وجهودُهُمْ في ترقيةِ اللّغَةِ العربيَّةِ»، و«جهودُ الأستاذِ عبد الرحمنِ حاج صالح العلميَّةُ في ترقيَةِ اللّغَةَ العربيَّةِ»، كما لا نَنْسَى الجهودَ الكبيرَةَ التي تبذُلُها المؤسّسَاتُ العلميَّةُ المتخصّصَةُ من عقدٍ للملتقيَاتِ والأيَّامِ الدّراسيَّةِ.

سدنةَ اللّغةِ العربيّةِ وحماتَهَا: إنّ اللّغَةَ العربيَّةَ هي وسيلَةُ فَهْمِ مُرَادِ اللّهِ تعالى المضَمَّنِ في وَحْيِهِ، فمَنْ جهِلَ اللّسَانَ عَمِيَ عن فَهْمِ مَعَاني القرآنِ، فأقْبِلُوا على فقهِ اللّسَانِ العَرَبِيِّ، وخُذُوا الأمْرَ بجِدِّيَّةٍ وعَزْمٍ، فمكانَةُ العربيَّةِ من مكانَةِ كَلَامِ اللّهِ، ومَنْ رَفَعَ من شَأْنِ اللّغَةِ فقَدْ عَظَّمَ أَمرَ القرآن، وقد أخبرَنَا اللّهُ تعالى بأنَّ هذا الكتَابَ الخَالدَ من أسبَابِ الرِّفعَةِ والشَّأْنِ، حيثُ قالَ تعالى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) [الزخرف: 44]، وقال عليه الصّلاةُ والسّلامُ كما عند أحمَدَ ومسلِمٍ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ».

لَا تَلُمْنِي في هَــــــــــوَاهَا … أَنا لَا أَهْوَى سِــوَاهَا

لَسْتُ وَحْدِي أَفتَدِيـــــهَا … كُلُّنَا الْيَوْمَ فِــــــــــدَاهَا

نَزَلَتْ فِي كُلِّ نَفْـــــــــسٍ … وَتَمَشَّتْ في دِمَــاهَا

فبِهَا الْأُمُ تَغَنَّــــــــــــــــــــتْ … وَبهَا الْوَالِدُ فَـــــــــــاهَا

وَبِهَا الْعِزُّ تَجَــــــــــــــــــلَّى … وبِهَا الْعِلْمُ تَبَــــــــاهَى

كلَّمَا مَرَّ زَمَــــــــــــــــــــــــانٌ … زَادَهَا مَجْدًا وَجَاهَا

لُغَةُ القُرْآنِ هَـــــــــــــاذِي … رَفَعَ اللَّهُ لِــــــــــــــــــوَاهَا

فأَعِيدُوا يَا بَنِيـــــــــــــــــهَا … نَهضَةً تُحْيِي رَجَاهَا

لَمْ يَمُتْ شَعْبٌ تفَانَى … فِي هَوَاهَا وَاصْطَفَاهَا

عبادَ اللّهِ: إنّي دَاعٍ فَأَمِّنُوا:

اللّهمّ لا تَدَعْ لنا في هذا المَقَام ذَنْبًا إلّا غفرْتَهُ، ولا هَمًّا إلا فَرَّجْتَهُ، ولا دَيْنًا إلّا قَضَيْتَهُ، ولا مريضًا إلّا شَفَيْتَهُ، ولا عَدَوًّا إلّا خَذَلْتَهُ وقَصَمْتَهُ، اللّهمّ انْصُرْ مَن نَصَرَ الدّينَ، واخْذُلْ من خَذَلَ المسلمين.

اللّهمّ خُذْ بِيَدِ إخوَانِنَا الفلسطينيين إلى البِرِّ والتَّقَوى، اللّهمّ أَطْعِمْ جَائِعَهُمْ، وَاسْتُرْ عَارِيَهُمْ، وأَمِّنْ خَائِفَهُمْ، وتَقَبَّلْ شَهِيدَهُمْ، وانْصُرْهُمْ على عَدُوِّك وعَدُوِّهِمْ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.

اللّهمّ إنّا نَسْألُكَ الإصلَاحَ في الوَلَدِ، والعَافِيَةَ في الجَسَدِ، والأَمْنَ في البَلَدِ.

اللّهمّ احفَظْ حَاكِمَ البلَادِ بِحفْظِكَ، واكْلَأْهُ بِكَلَاءَتِكَ، وأَيِّدْهُ بتَأيِيدِكَ، وارزُقْهُ بِطَانَةَ الخَيْرِ التي تأْخُذُ بِنَاصيَتِهِ للبِرِّ والتَّقَوى.

رَبَّنَا آتِنَا في الدّنيَا حَسَنَةً، وفي الآخرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّار، وأَدْخِلْنَا الجَنَّةَ مع الأبرارِ.

وسبحانَكَ اللّهمّ وبحمدكَ، أشهَدُ أن لا إلَهَ إلّا أنت، أستغفرُكَ، وأتوبُ إليكَ.

للتصفح والتحميل:

 

جَامعُ الجزائر مركزٌ دينيّ، عِلميّ، ثقافيّ وسياحِيّ، يقعُ على تراب بلديّة المُحمَّديَّة بولاية الجزائر، وسط خليجها البحريّ. تبلغُ مساحته 300.000 متر مربّع، يضمّ مسجِدا ضخما للصّلاة، يسع لـ 32000 مصلٍ، وتصلُ طاقة استيعابِه إلى 120 ألف مصلٍ عند احتساب صحنه وباحَاته الخارجيّة.
قاعة الصّلاةِ وصحنها الفسـيح، جاءت في النّصوص القانونيّة المُنشِأة للجامع، تحتَ تسميةِ “الفضاء المسجدِيّ”.
ويضُمّ المجمّعُ هياكلَ أخرى ومرافقَ سُمّيت بالهَيئات المدمجة، ووجدت هـذه المرافق لتُساهم في ترسـيخِ قِيم الدّين الإسلاميّ من: قرآن منزّلٍ وسنّةِ مطهّرة على صاحبها أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم، وكذا للحِفاظ على المرجعيّة الدّينيّة الوطنيّة، بما يخدُم مكتسبات الأمّة ويحقّق التّواصل مع الغير.
وجامع الجزائر هـو معلم حضاريّ، بِهندسته الفَريدة، التي زَاوجـت بين عراقة العِمارة الإسلاميّة بطَابعها المغَاربيّ الأندلسيّ، وآخِر ابْتكارات الهندسة والبِناء في العالم، حيث حقّق عدّةَ أرقامٍ قيَاسيةٍ عالميةٍ في البناء.
فمن حيث الأبْعادُ الهنْدسيةُ، يُعدّ الجامع بين المساجد الأكبر والأضْخَم عبر العالم، بل هو ثالث أكبرِ مسجدٍ في العالم بعد الحرَمين الشريفَين بمكة المُكرّمَة والمدينَةِ المنوّرَة، وهو أكبر مساجد أفْريقيا على الإطلاق، فمساحة قاعة صلاته تبلغ 22 ألف متر مربع، وقُطر قبته 50 مترا، وفُرِش بـ 27 ألف متر مربع من السجّاد الفاخر المصنوعِ محليّا، وتزيَّنت الحوافّ العلويّة لجدرانه بـ 6 آلاف متر من الزّخرفة بمختلف خطوط الكتابة العربيّة.