الخطبة الأولى
الحمدُ للّهِ حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنَا ويرضى، أحمدُهُ سبحانَهُ وتعالى على نعمِهِ السَّابِغَةِ، وآلَائِه العظيمَةِ الوَافيَةِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلّا اللّهُ وحدهُ لا شريكَ له، أمرَنَا بعِمَارةِ الدُّنيا والآخرَةِ، فقال: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [التوبة: 105]، وأشهَدُ أنّ سيِّدَنَا محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، وصَفيُّهُ من خلقِهِ وخليلُهُ، أوصَى أُمَّتَهُ بالعَمَلِ الصّالحِ، وَحَثَّنَا عَلَيْهِ فَقَالَ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ»، صَلَّى اللّهُ عليك وسَلَّمَ يا عَلَمَ الهُدَى؛ ونُورَ الدُّجَى، كُنْتَ خيرَ مِثَالٍ يُحْتَذَى، تَجْسِيدًا لتعاليمِ القرآنِ في شتَّى مَنَاحِي الحَيَاةِ جِلِّهَا ودِقِّهَا، ألا واتَّقُوا اللّهَ عبادَ اللّهِ، ورَاقبُوهُ في السِّرِّ والعَلَنِ، وفي المنشَطِ والمَكْرَهِ، وفي العسرِ واليسرِ، واعْمَلُوا على زرعِ بَذرَةِ الخيرِ في دنياكُمْ، تَصْفُ لكم حياتُكُمْ، وتَنْعَمُوا في أُخْرَاكُمْ، وصدقَ اللهُ العظيمُ إذ يقول: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 ــ 71]، ألا وإنَّ أصدَقَ الحديثِ كتابُ اللّهِ تعالَى، وأحسَنَ الهَدْيِ هَدْيُ سيِّدِنَا محمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وشَرَّ الأمورِ محدثاتُهَا، وكُلَّ بدعَةٍ ضَلَالَةٌ، أمّا بعد: فقد صَحَّ عن سيِّدِنَا رسولِ اللّهِ عليه الصّلاةُ والسّلامُ أنّه قال: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا».
عبادَ اللّهِ: إنّ شريعةَ رَبِّنَا تَبَارَكَ وتعالى الخَالِدَةَ صَالِحَةٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، مُلَبِّيَةٌ لحاجيَاتِ الإنسَانِ في شتَّى مَفَاصِلِ الحَيَاةِ، فقد نَصَّ القرآنُ الكريمُ بصريحِ عبارَتِهِ على هذه الحَقيقَةِ؛ فقال عزَّ من قَائِلٍ: (مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام: 38]، ولمّا كانت النَّوَازِلُ والمُسْتَجِدَّاتُ غيرَ منتهِيةٍ، مقارنَةً بمَحْدُودِيَّةِ نصوصِ الوحيين ــ الكِتَابِ والسُّنَّةِ ــ عُلِمَ يقينًا بأنَّ كُلَّ ما استجَدَّ في حياةِ النّاسِ فللشَّرعِ الحكيمِ حُضُورٌ؛ ولهُ فيه حُكْمٌ شَرعِيٌّ، إمّا بالتَّنصِيصِ؛ وإمّا بالِاستنبَاطِ المَبْنِيِّ على أُصُولِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ، ومنهُ فإنَّ شريعَةَ رَبِّنَا مُهَيْمِنَةٌ على كُلِّ تصرُّفَاتِ العبادِ، ووجَبَ على المُسْلِمِ الإذعانُ لحُكْمِ السَّماءِ في كُلِّ شُؤُونِ حياتِهِ، قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65].
قال الأستاذُ سَيِّدٌ صاحبُ الظّلالِ رحمَهُ اللّهُ كلامًا نفِيسًا عند تفسيرِ قولِهِ تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3]، وهو يقرِّرُ هيمنَةَ أحكَامِ الشَّرْعِ على حَيَاةِ النّاسِ في كُلِّ الأَعْصُرِ: «إنّ شريعَةَ ذلك الزَّمَانِ الذي نزل فيه القرآنُ هي شريعَةُ كُلِّ زَمَانٍ، لأنّها بشهادَةِ اللّهِ شريعَةُ الدِّينِ الذي جَاءَ للإنسَان في كُلِّ زَمَانٍ وفي كُلِّ مَكَانٍ، لا لجماعَةٍ من بَنِي الإنسَانِ، في جيلٍ من الأجيَالِ، فِي مَكَانٍ منَ الأمكنَةِ، كما كانت تجيءُ الرُّسُلُ والرِّسَالَاتُ،… واللّهُ الذي خَلَقَ الإنسَانَ، ويعْلَمُ مَنْ خَلَقَ، هوَ الّذي رَضيَ له هذا الدِّينَ المُحْتَوِيَ على هذه الشّريعَةِ، فلا يقول: إنَّ شريعَةَ الأمسِ ليست شريعَةَ اليَوْمِ، إلاَّ رَجُلٌ يَزْعُمُ لنفسِهِ أنَّهُ أَعْلَمُ منَ اللّهِ بحاجَاتِ الإنسَانِ وبِأَطْوَارِ الإنسَانِ» اهـ.
أمّةَ الإسلامِ: إنّ ممَّا كَثُرَ الكلَامُ فيه مَوْقِفَ الإسلَام من التَّنميَةِ المُسْتَدَامَةِ ــ وهو مصطلَح معَاصرٌ ــ، والّتِي صارت حديثَ العَامَّةِ والخَاصَّةِ، وهي أَسمَى غَايَةٍ تَسعَى المَدَنِيَّةُ الحديثَةُ للرُّقِيِّ إلى عَلْيَائِهَا، والتَّحَقُّقِ بأركَانِهَا، وصولًا إلى السّعادَةِ المنشودَةِ في هذه الحَيَاةِ.
وقبل الخوضِ في مَعَالِمِهَا، يَحْسُنُ بنا أن نقفَ عند تعريفِ أهلِ الشَّأْنِ لها بما يُبَيِّنُ حَقِيقَتَهَا:
إنّ هذا المصطلَحَ حديثُ النَّشْأَةِ، ومن أشهَرِ تعريفَاتِ التّنميَةِ المستدامَةِ ما صدر عن اللَّجْنَةِ العالميَّةِ للتّنميَةِ والبيئَةِ أنّها: «التّنميَةُ التي تُلَبِّي احتياجَاتِ البَشَرِ في الوقتِ الحَالِي، دون المَسَاسِ بقدرَةِ الأجيَالِ القادمَةِ على تحقيقِ أهدافِهَا، وترتكِزُ على النُّمُوِّ الاقتصادِيِّ المتكامِلِ المستدَامِ، والإشرَافِ البيئِيِّ، والمسؤوليَّةِ الاجتماعيَّةِ»، وقريبٌ منه مصطلَحُ التّنميَةِ الشّاملَةِ؛ الذي تَطَوَّرَ إلى مصطلَحِنَا هذا.
وممّا نَلْحَظَهُ من خلَالِ هذا التَّعريفِ: أنّ التّنميَةَ المستدامَةَ في المفهومِ الغربِيِّ تَرْتَكِزُ على ثلاثَةِ أبعادٍ:
- البعدُ الاقتصاديُّ: ويُعْنَى بتلبيَة حاجيَات الفرد الأساسيَةِ، وتحسينِ مستوى معيشَتِهِ.
- البعدُ الاجتماعيُّ: ويهتمُّ بتوزيعٍ عَادِلٍ للثّروَةِ، وعنايَةٍ بالنّظَامِ الاجتماعِيِّ.
- البعدُ البيئيُّ: ويعمَلُ على المحافظةِ على البيئةِ، وترشيدِ استغلالِ موارِدِهَا، لتبقَى للأجيالِ، والاتِّجَاهِ نحو الطَّاقَاتِ المتَجَدِّدَةِ.
أمّةَ العلمِ: كُنَّا قد مَهَّدْنَا بشُمُوليَّةِ تعاليمِ الإسلَامِ الحنيفِ لكلِّ مَفَاصِلِ الحَيَاةِ، فَلْنَقِفْ عبادَ اللّهِ على أَهَمِّ مُقَوِّمَاتِ التَّنميةِ المُسْتَدَامَةِ من منظورِ دينِنَا الإسلَامِيِّ، وكيفَ عُنِيَ الشَّرْعُ القويمُ بتحقيقِهَا في أرضِ الوَاقِعِ، ولكنْ بنظرتِهِ الشّموليَّةِ المَقَاصِدِيَّةِ، التي تُعْنَى بالرُّوحِ والجَسَدِ معًا، وتَتَعَدَّى في مفهومِهَا الاهتمَامَ بالحَيَاةِ الدّنيا إلى تَشَوُّفِ الآخرَةِ، فهي لا تَقْتَصِرُ على الأبعَادِ الثّلَاثةِ التي حَدَّدَهَا الغربُ بحسبِ منظورِهِ المَادِيِّ: الاجتماعِيِّ والاقتصادِيِّ والبيئِيِّ، وإليكُم أَهَمَّ مَعَالِمِهَا على وَجْهِ الإجمَالِ، ولا يُغْنِي هذا عن التَّفاصِيلِ المبثوثَةِ في أمَّهَاتِ المراجِعِ العلميَّةِ:
- أوّلًا: الأمْرُ بعِمَارَةِ الدّنيا بالخيرِ، اهتدَاءً بنورِ العلمِ النّافِعِ.
لقد خَلَقَ اللّهُ تعالى الإنسَانَ، واسْتَخْلَفَهُ الأرضَ، لتحقيقِ العبوديَّةِ المطلقَةِ له سبحانَهُ، ولعِمَارةِ الدّنيا بالخيرِ، وهي من العبادَةِ أيضًا، فقال تعالى في شأنِ الغايَةِ الأولى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، وقال سبحانَهُ في شَأْنِ الغايَةِ الثّانيَةِ: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا، فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [هود: 61]، وقال تعالى مُشِيدًا بمكانَةِ العلمِ، وأنّه يهدي إلى طريقِ اللّهِ القويمِ: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الحج: 54].
ولا شكَّ أنّ عمَارَةَ الأرضِ بالخيرِ على هُدًى وبصيرَةٍ وعِلْمٍ؛ هو عُنوَانُ التّنميَةِ الشَّاملَةِ التي ينشدُهَا كُلُّ إنسَانٍ عَاقِلٍ، فاعْمَلُوا رحمَكُمْ اللّهُ على أن تَنْشُرُوا الخيرَ، وتَسْتَكْثِرُوا من الأعمَالِ الصّالحَةِ، قال تعالى: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج: 77]، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) [الكهف: 107].
- ثانيًا: المَالُ مَالُ اللّهِ، ونحن مُسْتَخْلَفُونَ فيه
إنَّ نظرَةَ الإسلَامِ للمَالِ أَنَّهُ مُلْكٌ للّهِ وحدَهُ على الحقيقَةِ، وأنَّنَا مُسْتَخْلَفُون فيه، مصدَاقًا لقولِهِ تعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) [الحديد: 07]، ويُوَكِّدُ الإمامُ الزّمخشرِيُّ رحمَهُ اللّهُ هذا المعنى الجليلَ عند تفسيرِهِ للآيَةِ السّابقَةِ بقولِهِ: «يعني أنّ الأموَالَ التي في أيديكُمْ، إنّما هي أموَالُ اللّهِ بخَلْقِهِ وإنشائِهِ لها، وإنّما مُوَّلَكُمْ إيَّاهَا وخَوَّلَكُمُ الِاسْتِمْتاعَ بها، وجعلَكُمْ خلفَاءَ في التَّصَرُّفِ فيها، فليست هي بأموالِكُمْ في الحقيقَةِ، وما أنتم إلّا بمنزِلَةِ الوُكَلَاءِ والنُّوَّابِ».
أيّها المؤمنون: إذا عَلِمَ المؤمِنُ أنّ المَالَ للّهِ حقيقَةً، سَهُلَ عليه أن يَمْتَثِلَ أوامِرَهُ في كُلِّ ما يتعلَّقُ به، فيُوَظِّفَهُ في مرضَاةِ اللّهِ طَوَاعِيَّةً، وينفِقَهُ في وجوهِ البِرِّ والإحسَانِ بطيبِ نفسٍ، كما قال تعالى: (وَآتُوهُمْ مِن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) [النور: 33]، وبهذا تَتَحَقَّقُ التّنميَةُ المستدامَةُ.
- ثالثًا: وظيفَةُ المالِ في الإسلَامِ تحقيقُ مقاصدِه ِالمشروعَةِ
إنَّ من تشريعَاتِ اللّهِ تعالى في وظيفَةِ المَالِ، ما يَضْمَنُ تحقيقَ مَقَاصِدِهِ الكُليَّةِ والجزئيَّةِ؛ التي منها الوصولُ إلى التّنميَةِ المُسْتَدَامَةِ، فعلى سبيلِ المثَالِ لا الحَصرِ:
- أمَرَ الإسلَامُ بتداوُلِ المَالِ وتوظِيفِهِ استِثْمَارًا وتجارَةً وتنميَةً، لئلَّا يكونَ حِكْرًا على فِئَةٍ من النَّاسِ، ولتتحقَّقَ الدَّوْرَةُ الاقتصاديَّةُ، فقال تعالى محرِّمًا الاكتنَازَ: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [ التوبة: 34]، وقال أيضا مُشِيرًا إلى مَقْصِدِ تَدَاوُلِ المَالِ: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ) [الحشر: 7].
- جَاءَ التَّشريعُ الإلهِيُّ بتحريمِ أكلِ أموَالِ النَّاسِ بالباطِلِ، فحرَّمَ الرِّبَا والرِّشَى والمَيْسِرَ والقِمَارَ والسَّرِقَةَ والغَصْبَ، وكُلَّ مظهَرٍ من مظاهر إساءَة توظيفِ المَال؛ أو التَعَدِّي عليه، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) [النساء: 29].
ومن أَرَادَ اسْتِقْصَاءَ أحكَامِ الإسلَامِ المتعلِّقَةِ بالمَالِ، فَلْيَطْرُقْ بَابَ المعَامَلَاتِ في كُتُبِ الفقْهِ الإسلامِيِّ، فالزموا رحمَكُمُ اللّهُ تعاليمَ الدّينِ فيما يتعلَّقُ بالمَال تحصيلًا وإنْفَاقًا، وَضَعُوا نَصْبَ أعينِكُمْ قَوْلَ الصَّادِقِ المصدوقِ عليه الصَّلاَةُ والسَّلَام، فيما رواه التّرمذيُّ والدّارمي عن أبي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رضي اللّهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَا فَعَلَ بِهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ، فِيمَا أَبْلَاهُ»، فالمَالُ يؤخَذُ من حِلِّهِ، ويُنْفَقُ في مَحَلِّهِ.
أقولُ ما تسمعون، وأستغفِرُ اللّهَ الحليمَ العظيمَ لي ولكم، ويا فوزَ المستغفرين، أستغفِرُ اللّهَ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للّهِ وكَفَى، والصّلاةُ والسّلامُ على النَّبيِّ المصطفى، ومَنْ بآثارِهِ اقتَفَى، وبعهدِ اللّهِ وَفَّى، وسَلَامٌ على عبادِهِ الذين اصْطَفَى، وبعد:
فكُنَّا قد وَقَفْنَا في الخطبَةِ الأولى على ثلاثَةِ مَعَالِمَ للتَّنْمِيَةِ المستدامَةِ في المنظُورِ الإسلامِيِّ، وهي: الأمرُ بعمارَةِ الدُّنيا بالخير؛ اهتدَاءً بنورِ العلمِ النّافِعِ أوّلًا، ثمّ إنَّ المَالَ مَالُ اللّهِ، ونحن مستخلفون فيه ثَانِيًا، ثمّ إنَّ وظيفَةَ المَالِ في الإسلَامِ تحقيقُ مقاصِدِهِ المشروعَةِ ثالثًا، ومع المَعْلَمَيْنِ الأخيرَيْنِ الرَّابِعِ والخَامِسِ:
- رابعًا: الدّنيا مزرعَةُ للآخرَةِ.
إنّ فلسفَةَ الإسلَامِ في عِمَارَةِ الدّنيا أن يَتَّخِذَهَا المَرْءُ وسيلَةً لعِمَارَةِ الآخرَةِ والفوزِ بنعيمِهَا السَّرْمَدِيِّ، فمَنِ اعتبَرَ الدُّنيَا قنطرَةً للآخِرَةِ؛ ومزرَعَةً لها، لم يُعَرْبِدْ فيهَا، ولم يُفْسِدْ فوقَ ظَهْرِهَا، ولم يتعَدَّ حدودَ اللّهِ التي بَيَّنَ الدِّينُ معالمَهَا، وعَمَّرَهَا بكُلِّ خيرٍ: من عدلٍ؛ ورحمَةٍ؛ ونشرِ فضيلَةٍ؛ وحِفَاظٍ على بيئَةِ؛ وبنَاءٍ حَضَارِيٍّ؛ وإتقَانِ عَمَلٍ؛ ونصرَةِ مظلومٍ؛ وإعانَةِ ملهوفٍ؛ واضِعًا نصْبَ عينيه نصيحَةَ المؤمنينَ لقارونَ: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 76 ــ 77].
فإذا ما أَيقَنَ الإنسَانُ هذه الحقيقَةَ؛ واعْتَقَدَهَا اعتقَادا جَازمًا، استخْدَمَ هذه الوسيلَةَ بالقَدْرِ الكَافِي الذي يُحَقِّقُ الغَايَةَ المَنْشُودَةَ، وما أجمَلَ كَلَامَ حُجَّةِ الإسلَامِ أبي حامِدٍ الغزالِيِّ قدَّسَ اللّهُ سِرَّهُ، وهو يُشِيرُ إلى مرتبَةِ الاقتصَادِ في معادَلَةِ الدّنيا والآخرَةِ، بالجَمْعِ بين العِمَارَتَيْنِ، فيقول: «أمّا بعدُ، فإنّ رَبَّ الأربَابِ ومُسَبِّبَ الأسبَابِ، جَعَلَ الآخرةَ دَارَ الثَّوَابِ والعِقَابِ، والدُّنيا دارَ التَّحَمُّلِ والاضْطِرَابِ، والتَّشَمُّرِ والِاكْتِسَابِ، وليس التّشمُّرُ في الدّنيا مقصورًا على المَعَادِ دُونَ المَعَاشِ، بلِ المَعَاشُ ذريعَةٌ إلى المَعَادِ، ومُعِينٌ عليه، فالدّنيا مزرعَةُ الآخرَةِ ومَدْرَجَةٌ إليها، والنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: رَجَلٌ شَغَلَهُ مَعَاشُهُ عن مَعَادِهِ، فهو من الهالكين، ورَجَلٌ شَغَلَهُ مَعَادُهُ عن مَعَاشِهِ، فهو من الفائزين، ورَجَلٌ شَغَلَهُ معاشُهُ لمعادِهِ، فهو الأقرَبُ إلى الِاعْتِدَالِ، فهو من المُقْتَصِدِينَ».
عبادَ اللّهِ: إنّ الموازنَةَ بين الدّنيا والآخرَةِ من أَهَمِّ مقاصِدِ التَّشْرِيعِ، فلا الدّنيا تشغَلُ عن عَمَلِ الآخرَةِ، ولا الآخرَةُ تُلْغِي عَمَلَ الدّنيا، قال اللّهُ تعالى وَاصِفًا عبادَهُ المؤمنين الذين يَعْمُرُونَ دُنْيَاهمْ، ولا يُخَرِّبُونَ آخِرَتَهُمْ: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وإِقَامِ الصَّلَاةِ وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النور: 37 ــ 38].
وصدقَ عبدُ اللّهِ بنُ عمرَ رضي اللّهُ عنهما إذ يقول: «احْرُثْ لَدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَدًا، وَاعْمَلْ لِآخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَدًا».
- خامسا: وجوبُ التَّحَقُّقِ بالإيمانِ الصّحيحِ
إنَّ الإسلامَ يؤَكِّدُ على رَبْطِ كُلِّ مفاصِلِ الحياةِ (الاجتماعيَّةِ والسّياسيَّةِ والاقتصاديَّةِ والثّقافيَّةِ، وهَلُمَّ جَرًّا) بتحقيقِ الإيمانِ الصَّحيحِ، وأنّ أَثَرَ الإيمَانِ في تحقِيقِ كُلِّ تنميَةٍ منشودَةٍ في الحَيَاةِ غَيْرُ خَافٍ على كُلِّ ذي لُبٍّ، وقد نَطَقَ القرآنُ الكريمُ بهذه الحقيقَةِ في غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ، من ذلك قولُهُ تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ والْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96].
أيّها الصّادقون: تَحَقَّقُوا بالإيمَانِ في حياتِكُمْ، ثُمَّ اشْفَعُوا ذَلِكَ بعمَلٍ صَالِحٍ مبرورٍ، تُقَدِّمُونَهُ في دُنْيَاكُمْ، فَتَسْعَدُوا به في العَاجِلَةِ، وتَعْمُرُوا به الآجِلَةَ، وتَيَقَّنُوا بأنَّ الذي أَكْرَمَ سَلَفَكُمْ بالحَيَاةِ الكريمَةِ، مِصْدَاقًا لِقولهِ عليه الصّلاةُ والسّلامُ فيما أخرجَهُ البخاريُّ عن خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ أنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»، والذي أَفَاضَ المَالَ على أمَّةِ الإسلَامِ في عهدِ خَامِسِ الخلفَاءِ الرّاشدين، حتىَّ لم يجدوا مَنْ يأْخُذُهُ، هو الكَفِيلُ بأن يُحْيِيَكُمْ حَيَاةً رغيدَةً آمِنَةً مطمئنَّةً في الدّنيا، وتَخْلُدُوا في جَنَّاتِ النّعيمِ يوم القيامَةِ، وهذه هي التّنميَةُ المستدامَةُ التي لا تَفْنَى بفنَاءِ الدّنيا، قد وَعَدَكُم بها ربُّكُمْ تَبَارَكَ وتعالى في مُحْكَمِ تِبْيَانِهِ، فقال: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ الذِي أَطْعَمَهُم مِن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِنْ خَوْفٍ) [قريش: 3 ــ 4]، وصدق اللّهُ إذ يقول أيضًا: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].
عبادَ اللّهِ: إنّي دَاعٍ فَأَمِّنُوا.
للتصفح والتحميل: