الخطبة الأولى
الحمدُ للّهِ رَبِّ العالمين، الرّحمنِ الرّحيمِ، مِلِكِ يومِ الدِّينِ، أحمدُهُ سبحانَهُ وتعالى على نعمَةِ الإسلَامِ، وأشكُرُهُ وأُثني عليه أن جعلَنَا من أُمَّةِ سيِّدِنَا محمَّدٍ عليه الصّلاةُ والسّلامُ، حثَّ أُمَّةَ الخيريَّةِ في الكتابِ المبينِ على نهجِ سُنَّةِ التّغييرِ والتّجديدِ، إعادَةً لنضارَةِ الدِّينِ، وإحيَاءً لما انْدَرَسَ من معالمِهِ، وبعثًا لتعاليمِهِ السّمحَةِ من جديدٍ، وأشهَدُ أن لا إله إلّا اللّهُ وحدهُ لا شريك له، وأشهَدُ أنّ سيّدَنَا محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، وصفيُّهُ من خلقِهِ وخليلُهُ، بعثَهُ اللّهُ تعالى للإنسِ والجَانِ، فَوَضَعَ عنهم الأغلَالَ والآصَارَ؛ وبَيَّنَ لهم طريقَ الجَنَّةِ والنَّارِ، بَشَّرَ هذه الأمَّةَ ببعثَة من يجَدِّدُ لها أَمرَ دينهَا على رأس كلّ مئة سَنَة، وَعْدَ صِدْقٍ لا يتخلَّفُ ما تَعَاقَبَ اللّيلُ والنَّهَارُ، صَلِّ اللّهمّ وسَلِّمْ وبَارِكْ عليه، وعلى آلِهِ وصحبِهِ وأزواجِهِ، ومن اقتفى أَثَرَهُ واسْتَنَّ بسنَّتِهِ إلى يومِ يبعثون، ألا فَاتَّقُوا اللّهَ عبادَ اللّهِ؛ فإنّها رأسُ الأَمْرِ ومَلَاكُهُ، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [: ]، ألا وإنّ أَصدَقَ الحديثِ كتابُ اللّهِ تعالى، وخيرَ الهديِ هَديُ محمَّد، وشَرَّ الأمورِ محدثاتُهَا، أَعَاذَنِي اللّهُ وإيّاكم منها، أمّا بعد: فقد قال اللّهُ تعالى في مُحْكَمِ التّنزيلِ وهو أصدَقُ القائلين: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
عبادَ اللّه: إنّ القرآنَ الكريمَ دستُورُ البشريَّةِ لإصلَاحِ العبَادِ، وتحقيقِ مَصَالِحِ الدّنيا والدِّينِ ويومَ المَعَادِ، ضَمَّنَهُ اللّهُ تعالى مَصَادِرَ التّربيَّةِ والتّعليمِ؛ والتّوجيهِ والإصلَاحِ؛ وتزكيَةِ النّفوسِ وتهذيبِهَا بإذعانِهَا لشرعِ الحكيمِ العليمِ، فالقرآنُ الكريمُ تَطَرَّقَ لمختلَفِ المَجَالَاتِ والميادِينِ التي تَهُمُّ شَأنَ الإنسَان في دينِهِ ومعاشِهِ.
ومن أَهَمِ مَظَاهِرِ التّربيَّةِ والتّوجِيهِ والإصلَاحِ التي جاء بها الكتَابُ المبينُ: سُنَّةُ التّغييرِ الإيجابِيِّ، أو التّجديدُ في مَعَالِمِ الدِّينِ بانتهاجِ سُنَّةِ التّدرّجِ، وكيفيةُ أَخْذِ النّاسِ بها والالتزام بمضامينِهَا.
أمّةَ التّشريع: إنّ التّجديدَ سُنَّةُ إلهيَّةُ، تشملُ كُلَّ نَوَاحِي الكونِ، إذ يُحْكَمُ على الشّيءِ الذي لا يتجدَّدُ بالاضمحلَالِ والتّبدُّدِ، ومن حكمَةِ اللّهِ تعالى في تشريعِ أحكامِ الدِّينِ، أن جعلها خاضعَةً لهذا النّاموسِ الكونِيِّ، فتحتاجُ الأمَّةُ لمن يجدِّدُ لها أَمرَ دينِهَا، فَيُحْيِي ما انْدَرَسَ من مَعَالِمِ الدِّينِ، ويفتِي في مستجِدَّاتِ العصرِ بالحجَّةِ والبرهَانِ، على وَفقِ قَوَاعِدِ العلمِ المتينِ، ويبيِّنُ للنّاسِ ما يتغيّرُ من أحكامٍ بتغيّرِ الأزمَانِ والأمكنَةِ والأعرَافِ والأحوَالِ، وينبري لإظهَارِ السُّنَنِ المتروكَةِ، ومجابَهَةِ ما ابتدعَهُ أصحَابُ الأهوَاءِ من بدَعٍ قديمَةٍ؛ وأخرى جاءت بها العلمانيَّةُ الحديثَةُ والتّيّارَاتُ التّغريبيَّةُ الهَدَّامَةُ.
والتّجديدُ في الدِّينِ لا ينافِي الأَصَالَةَ الّتي نَتَمَسَّكُ بثوابِتِهَا، إذ ترفضُ طبيعَةُ الدِّينِ الانكفَاءَ على كُلِّ قديمٍ، ورفضَ كُلِّ جديدٍ، إذ يُعتبَرُ هذا المفهومُ الخَاطِئُ قتلًا للإبداعِ؛ وإغلاقًا لبابِ الاجتهادِ، ودعوةً إلى الجُمُودِ والرُّكُودِ، وهو مُنَافٍ لمَقَاصِدِ الإسلَامِ العظيمَةِ.
أمّةَ العلم والهُدَى: إنّ مبرّرَاتِ التّجديدِ كثيرَةٌ ومتعدّدَةٌ، ولَعَلَّ من أبرزِهَا كما يذكُرُ صَاحِبُ كتابِ (من فقهِ الدّاعيَةِ): «التّغيرَات الهائلَة في الحياةِ المعاصرَةِ، فالتّقدُّمُ التّقنِيُّ في مَجَالَاتِ الاتّصالَاتِ والمَجَالَاتِ الصّناعيَّةِ والطّبيَّةِ وغيرِهَا، وكُلُّ ذلك يُحْدِثُ وَقَائِعَ تحتَاجُ لأحكَامٍ شرعيَّةٍ، وبعضُهَا كان موجودًا لكن بصفَةٍ مبسّطَةٍ كمسائِلِ الإجارَةِ وأحكَامِ الشّركَاتِ».
لذا يجب علينا لِزامًا أن نعمَلَ على تفعيلِ هذه الخاصِيَّةِ في التَّعَامُلِ مع أحكَامِ الدِّينِ، ضِمْنَ المفاهِيمِ الشّرعيَّةِ الأصيلَةِ، وانسجَامًا مع تَطَوُّرِ الحَيَاةِ وتَعَقُّدِهَا، ولعلّ من أَهَمِّ ما ينبغي التّجدِيدُ فيه: مراجعَةُ التُّرَاثِ الفقهِيِّ مراجعَةً علميَّةً دقيقَةً، وتنقيتُهُ من الشَّوَائِبِ التي عَلِقَتْ به، والتّخصُّصُ في فقهِ النَّوَازِلِ والمستجدَّاتِ، وإيجَادُ الحلولِ الشّرعيَّةِ لها، واستخدَامُ لُغَةِ العصرِ الميسورَةِ في التّبليغِ، والحرصُ على بَيَانِ مَقَاصِدِ التّشريعِ وحِكَمِهِ، ورَبطُ الجزئيَاتِ بالكلّيَاتِ، والتَّصَدِّي للشّبهَاتِ المعاصرَةِ في العقيدَةِ والشّريعَةِ والأخلَاقِ، والاستفادَةُ ممّا تَوَصَّلَ إليه العقلُ البشرِيُّ في مختلَفِ المَجَالَاتِ، وحَرِيٌّ بنا ونحن في خِتَامِ هذه السَّنَةِ الهجريَّةِ، ومقبلون على عَامٍ جديدٍ، أن نستشرِفَ المستقبَلَ باستحضَارِ معاني التّجديدِ لانطلاقَةٍ قويَّةٍ، واضحَةِ المَعَالمِ، في شَتَّى الميادِينِ، كما كان يُنَادِي بذلك مهندِسُ الحضارَةِ في العصرِ الحديثِ مفكِّرُنَا العظيمُ الأستَاذُ مالكُ بن نبي قَدَّسَ اللّهُ سرَّهُ.
أمّةَ القرآن: إنّ الحديثَ عن سُنَّةِ التّجديدِ لا ينفَكُّ أبدًا عن منهَجِ الإسلَامِ في التّغييرِ، إذ إنّ من أَهَمِّ ضوابِطِهِ التَّدَرُّجَ فيه وِفْقَ طريقٍ مدروسٍ بعنايَةٍ فائقَةٍ، وهذا ما لمسنَاهُ يقينًا في فلسفَةِ الوَحْيِ في التّشرِيعِ، فالقرآنُ لم يَصُبَّ أحكامَهُ وفرائضَهُ في حَيَاةِ النَّاسِ جملَةً واحدَةً، ولكنّه سَعَى بهم إليها على مراحِلَ، وفي خَطَوَاتٍ رُتِّبَ بعضُهَا على بعضٍ، ومَهَّدَتِ السّابقَةُ منها للّاحقَةِ، فنجدُهُ في المرحلَةِ المكيَّةِ قبل الهجرَةِ رَكَّزَ على ترسيخِ العقيدَةِ السّليمَةِ في قلوبِ النّاسِ حتّى تتوجَّهَ الأفئدَةُ بالعبادَةِ والإخلَاصِ للّهِ رَبِّ العالمين، والإنابَةِ إليه، والتَّوَكُّلِ عليه؛ (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [: ]، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [: ]، وإذا ما أَذْعَنَتْ قلوبُ النّاسِ لرَبِّ العِزَّةِ، سَهُلَ عليهم أن يتقبَّلوا أحكَامَهُ ويطبّقُوا أوامرَهُ، فيثمِرُ هذا الامتثَالُ لشريعَةِ اللّهِ أخلَاقًا حسنَةً وخِلَالًا حميدَةً، وهذا هو المنهَجُ النّبوِيُّ ذَاتُهُ؛ كما رُوِيَ في الصّحيحين عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ».
وأبرزُ مِثَالٍ على سنَّةِ التَّدَرُّجِ في القرآنِ الكريمِ تحرِيمُ الخمرِ الّذي مَرَّ بثلَاثِ مَرَاحِلَ: أمّا المرحلَةُ الأولى فقد ذَكَرَ القرآنُ مَحَاسِنَ الخمرِ ومساوِئَهَا وأجرى المقارنَةَ بينهما، ثمّ خَلَصَ إلى أضرارِهَا ومفاسِدِهَا، قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) [البقرة: 219]، وفي الآيَةِ إشارَةٌ لطيفَةٌ إلى أنّ حُكْمَ الشّيءِ إذا تَرَدَّدَ بين مفسدَةٍ ومصلحَةٍ، فحكمُهُ تَبَعٌ للغالِبِ عليه، والغالِبُ في الخمرِ والميسِرِ الإثْمُ والسُّوءُ.
وهذه قاعدَةٌ عظيمَةٌ من قَوَاعِدِ الموازنَاتِ تصلُحُ في كُلِّ الأمورِ، خصوصًا في السّياسَةِ الشّرعيَّةِ، والمَصَالِحِ المرعيَّةِ، فكم من خيرٍ غالِبٍ على شرِّهِ، امتنع النّاسُ من فعلِهِ، لأجلِ الدَّخَنِ الذي فيه، وهو خَطَأٌ فَادِحٌ، إذ العِبرَةُ بالخيرِ الغالِبِ، لا بالشَّرِّ الذي خَالَطَهُ، فالحُكْمُ للغَالِبِ.
وأمّا المرحلَةُ الثّانيَةُ: فقد حَرَّمَ القرآنُ على المسلمين قُرْبَانَ الصَّلَاةِ في حَالَةِ السُّكْرِ، حتّى لا يدخُلُوهَا وعقولُهُمْ مغيّبَةٌ لا تَعِي ما تَقُولُ، ولا تدري ما تَفْعَلُ، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ) [النساء: 43].
وأمّا المرحلَةُ الثّالثَةُ: فقد فَصَلَتْ في مسألَةِ تحريمِهِ فَصْلًا نِهَائِيًّا، لأنّ النّفوسَ قد تهيَّأَتْ لقَبُولِ الأوامِرِ الإلهيَّةِ، ولو كانت فيها المَشَقَّةُ والعُسْرُ، فلمّا نزل قولُهُ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 90]، قال الصّحابَةُ: انْتهَيْنَا يَا رَبَّنَا، انْتَهَيْنَا، وجَرَتْ سِكَكُ المدينَةِ أنهَارًا وَوِدْيَانًا من الخمرِ التي أَرَاقَهَا المسلمون المُخْبِتُونَ المُنِيبُونَ لربِّهِمْ.
ويَذْكُرُ الشَّاطِبِيُّ في الموافقَاتِ أنّ عبدَ المَلِكِ قال لأبيهِ عمرَ بنِ عبدِ العزِيزِ خَامِسِ الخلفَاءِ الرّاشدين: «يَا أَبَتِ، مَا لَكَ لَا تُنْفِذُ الْأُمُورَ؟ فَوَاللَّهِ مَا أُبَالِي لَوْ أَنَّ الْقُدُورَ غَلَتْ بِي وَبِكَ فِي الْحَقِّ»، يريدُ القَضَاءَ على المَظَالِمِ وآثَارِ الفَسَادِ والانحرَافِ دفعَةً واحدَةً دون تَرَيُّثٍ ولا أَنَاةٍ، وليكن بعد ذلك ما يكون، فأجابَهُ الخليفَةُ الرَّاشِدُ بلسَانِ الفقيهِ المُتَبَصِّرِ والسَّائِسِ الحَكِيمِ: «لَا تَعْجَلْ يَا بُنَيَّ، فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْخَمْرَ فِي الْقُرْآنِ مَرَّتَيْنِ، وَحَرَّمَهَا فِي الثَّالِثَةِ، وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ أَحْمِلَ الْحَقَّ عَلَى النَّاسِ جُمْلَةً، فَيَدْفَعُوهُ جُمْلَةً، وَيَكُونُ مِنْ ذَا فِتْنَةٌ».
وصدقَت أمّنَا عائشَةَ رضي اللّه عنها إذ قالت: «لَوْ كَانَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ: لَا تَزْنُوا، لَا تَشْرَبُوا، لَقَالَتِ النَّاسُ: وَاللَّهِ لَا نَدَعُهَا أَبَدًا».
أقول ما تسمعون، وأستغفِرُ اللّهَ الحليمَ العظيمَ لي ولكم، ويا فَوْزَ المستغفرين، أستغفِرُ اللّهَ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للّهِ وكَفَى، والصّلاةُ والسّلامُ على النّبيِّ المصطَفَى، ومن بآثارِهِ اقْتَفَى وبعَهْدِ اللّهِ وَفَّى، وسَلَام على عبادِهِ الذين اصْطَفَى وبعدُ: فإنّ تغييرَ الأنفُسِ والأمَمِ والحَضَارَاتِ والمجتمَعَاتِ ونَقْلَهَا من حَالَةٍ إلى أخرى، إنّما يكُونُ بالتَّدَرُّجِ والمرحَلِيَّةِ، وِفْقًا لمبدَأِ الأولوِيَاتِ، فيبتدَأُ بالأمُورِ الأساسيَّةِ قبل الانتقَالِ إلى الأمُورِ الجزئيَّةِ، فأَوَّلُ ما يحرِصُ عليه المَرْءُ المسلِمُ تصحِيحُ الاعتقَادِ؛ ونَبْذُ الخُرَافَاتِ والخُزَعْبَلَاتِ التي عَشْعَشَتْ في أذهَانِ النّاسِ، ثمّ الاهتمَامُ بجانِبِ العبادَاتِ كالصَّلَاةِ والزَّكَاةِ والصّيَامِ، أو ما يتعلَّقُ بجانِبِ المعاملَاتِ كالبيعِ والشِّرَاءِ وغيرِ ذلك، حتى يَعْبُدَ الإنسَانُ رَبَّهُ على بصيرَةٍ وعِلْمٍ، ثمّ يُتَوِّج إذعانَهُ للّهِ ربِّ العالمين بالتَّخَلُّقِ بأخلَاقِ الفضيلَةِ، وهكذا يعلّمُنَا القرآنُ الكريمُ هذه السُّنَّةَ: سنَّةَ التّدرُّجِ في تشريعِ الأحكَامِ وتغييرِ النُّفُوسِ والجماعَاتِ، وإذا حاولنا أن نُسْقِطَ هذا المنهَجَ على حياتِنَا نَجِدُ أمورًا كثيرَةً تخضعُ له.
فلا يُتَصَوَّرُ مثلًا أن نُشَدِّدَ على الإنسَانِ في حُكْمِ التّدخينِ؛ وهو آكِلٌ للرّشوَةِ مستحِلٌّ للرِّبَا، فالأولى أن نعمَلَ على أن يُقْلِعَ عن الكَبَائِرِ قبل زَجْرِهِ عن الصَّغَائِرِ، ولا يُعْقَلُ أن تُطَالَبَ المرأَةُ المسلمَةُ بسترِ وجهِهَا وهي لم تستُرْ بَعْدُ أطرافَهَا وسَاقَيْهَا، ولا يُقْبَلُ من نَاصِحٍ أن يُرَغِّبَ النّاسَ في قيامِ اللّيلِ وهم يضيّعون الفرائِضَ، والعَجَبُ مِمَّنْ يَعُقُّ والديه ويضيِّعُ أولادَهُ؛ وتَجِدُهُ حريصًا على أداءِ بعضِ العبادَاتِ البدنيَّةِ على أَتَمِّ وَجْهٍ، ومِنْ أَقبَحِ ما تجِدُهُ في وَاقِع النّاسِ من يتنزُّهُ عن بعضِ النَّجَاسَةِ في صَلَاتِهِ، ويحرِصُ على طهارَةِ ثوبِهِ، وهو غارِقٌ في أعراضِ النّاسِ وأموالِهِمْ ودمائِهِمْ، وصدق ابنُ عَطَاءِ اللّهِ السَّكَنْدَرِيّ رحمَهُ اللّهُ تعالى حين قال في حِكَمِهِ: «مِنْ عَلَامَاتِ اتِّبَاعِ الهَوَى، المُسَارَعَةُ إِلَى نَوَافِلِ الخَيْرَاتِ والتَّكَاسُلُ عَنِ القِيَامِ بِالوَاجِبَاتِ».
ويذكُرُ لنا تاريخُ المسلمين في جانِبِهِ الأسوَدِ القاتِمِ المُظْلِمِ: كما جاء في مُسْنَدِ الإمَامِ أحمدَ وصحيحِ البخاريِّ عن عبدِ الرّحمنِ بنِ أَبِي نُعْمٍ قال: كُنْتُ جَالسًا عنْدَ ابْنِ عُمَرَ فجاءَ رَجُلٌ يَسْأَلُ عَنْ دَمِ البَعُوضِ، أَي الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي أَصَابَهُ دَمُ البَعُوضِ».
وفي رواية شُعْبَةَ عند أحمدَ قَالَ: «وَأَحْسِبُهُ سَأَلَهُ عَنِ الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الذُّبَابَ؟ فَقَالَ لَهُ ابنُ عُمَرَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا، يَسْأَلُنِي عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ، وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هُمَا رَيْحَانَتَيَّ مِنَ الدُّنْيَا».
وسَبَبُ الإنكَارِ من سيِّدِنَا عبدِ اللّهِ بنِ عُمَرَ على السَّائِلِ، حِرْصُهُ على مسألَةٍ فرعيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِفِقْهِ الحَجِّ أو الصّلَاةِ، وقد قَتَلُوا ريحانَةَ رسولِ اللّهِ صلّى اللّه عليه وسلّم، وما أعظَمَهُ من مُصَابٍ جَلَلٍ، ابْتُلِيَتْ به أمَّةُ الإسلَامِ.
وللهِ دَرُّ القائِلِ:
هَلْ منْ جَدِيد يُرْجَّى أَمْ هَلْ نُجَابُ بِكَلَّا
إِنْ لَمْ أَرَ الْيَوْمَ شَيْـــئًا فَإِنَّنِـــي لَــــــنْ أَمَــــــلَّا
دَوْمًـــا أُعَلِّـــــلُ نَفْسِــي وَبِالرَّجَـــــــــا أَتَحَــــــلَّى
فَلْنَعْقِدْ الْعَــزْمَ عَقْــدًا لَا نَرْتَضِــي أَنْ يُحَــلَّا
عَزْمًا عَلَى مَبْدَأِ التَّغْيِيرِ لِـــــــــــمَا هُــــــــوَ أَوْلَى
وَلنَعْتَقِـــــدْ أَنَنَّا أَهْــــــلُ كُـــــلِّ قِـــــــدْحٍ مُعَــلـَّى
فَالْمَجْد فينَا وَمنَا مَنْ صَارَ للمَجْد أَهْلَا
فَلْنَمْلَأْ النَّفْسَ عَزْمًا وَلْنَمْلَأ الوَقْتَ شُغْلَا
لَا نَقْتُلِ الْوَقْتَ لَهْوًا فَالْوْقْتُ أَسْمَى وَأَغْلَى
وَلْنَبْدَأْ السَّيْرَ فَــــوْرًا حَتَّى وَإِنْ كَانَ مَهْــلَا
مَنْ قَصْدُهُ أَلْفَ مَيْلٍ فَلَيْسَ يَحْقِــــــــرُ مَيْلَا
أيّها المؤمنون الصّادقون: اعمَلُوا على تغييرِ أنفسِكُمْ إلى الأحسَنِ شيئًا فشيئًا، وادْعُوا غيرَكُمْ لدِينِ اللّهِ تعالى والالتزَامِ به بالتّدرِيجِ، ولا تقفِزُوا إلى مرحلَةٍ على حسَابِ ما قبلَهَا، ورَاعُوا في حَيَاتِكُمْ كلِّهَا هذا المبْدَأَ العظيمَ، فهو طريقُ التّغييرِ الإيجابِيِّ في كُلِّ مَنَاحِي الحَيَاةِ.
عبادَ اللّهِ: إنّي داعٍ فأمِّنُوا
اللّهمّ لا تَدَعْ لنا في هذا المَقَامِ ذنبًا إلّا غفرتَهُ، ولا هَمًّا إلّا فرّجتَهُ، ولا دَيْنًا إلّا قضيتَهُ، ولا مبتلى إلّا عافيتَهُ، ولا مريضًا إلّا شفيتَهُ، ولا عدوًّا إلّا خذلتَهُ وقصمتَهُ.
اللّهمّ انْصُرْ من نَصَرَ الدّينَ، واخذُلْ من خَذَلَ المسلمين.
اللّهمّ انصُرْ إخوانَنَا في غَزَّةَ العزَّةِ وفي كُلِّ فلسطين، اللّهمّ أَطعِمْ جائِعهُمْ، واستُرْ عورتهُمْ، وأمِّنْ خائفَهُمْ، وتَقَبَّلْ شهيدَهُمْ.
اللّهمّ احفَظْ حَاكِمَ البِلَادِ بحِفْظِكَ، واكلَأْهُ بكَلَاءَتِكَ، وأَيِّدْهُ بتأييدِكَ.
اللّهمّ إنَّا نسألُكَ الإصلَاحَ في الوَلَدِ، والعافيَةَ في الجَسَدِ، والأمْنَ في البَلَدِ، رَبَّنَا آتنَا في الدّنيا حسنَةً، وفي الآخرَةِ حسنَةً، وقِنَا عذابَ النَّارِ.
وسبحانَكَ اللّهمّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إله إلّا أنت، أستغفرُكَ وأتُوبُ إليك، وأَقِمِ الصَّلَاةَ.
للتصفح والتحميل: