الخطبة الأول
الحمدُ للّهِ العليِّ الأَعلَى الذي خَلَقَ فَسَوَّى، والذي قَدَّرَ فَهَدَى، وأشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللّهُ وحدَهُ لا شريكَ له، القائِلُ سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]؛ وأشهَدُ أنَّ سيِّدَنَا ونبِيَّنَا محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، قائِدُ المجاهدين، وإمَامُ المتّقين، وخاتمُ الأنبياءِ والمرسلين، صَلَوَاتُ ربّي وسَلَامُهُ عليه، وعلَى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسَانٍ إلَى يومِ الدِّينِ؛ أمّا بعد:
أيّها المؤمنون: إنّ الإيمَانَ ليس كلمَةً تقال، إنّما هو حقيقةٌ ذَاتُ تكاليفَ، وأمانَةٌ ذَاتُ أعبَاءَ، وجهَادٌ يحتاجُ إلى صَبْرٍ، وجُهْدٌ يحتَاجُ إلى تحمُّلٍ، فلا يكفي أن يقولَ النّاسُ: «آمَنَّا».
قال تعالى في مطلَعِ سورَةِ العنكبوتِ: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 1 ــ 3].
أيّها الأفاضلُ: إنّ الذي يقرَأُ هذه الآيَاتِ الكريمَاتِ من فَوَاتِحِ سُورَةِ العنكبوتِ وهي تَتَحَدَّثُ عن الفِتَنِ، يخطُرُ ببالِهِ سؤالٌ: ما السّبيلُ للخلَاصِ من هذه الفِتَنِ؟ فيأتي الجَوَابُ في آخر آيَةٍ من السّورَةِ نفسِهَا، وهذه الآيَةُ تُعْتَبَرُ قاعدَةً عظيمَةً للنّجَاةِ من المِحَنِ والشَّدَائِدِ والفِتَنِ، وكأنّ آخِرَ السّورَةِ جاء جَوَابًا عن أوّلِهَا، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].
قال ابنُ القَيِّمِ رحمَهُ اللّهُ: «علّق سُبْحَانَهُ الهِدَايَةَ بِالجِهَادِ، فأكملُ النَّاسِ هِدَايَةً أعظمهم جهادًا، وأفرضُ الجِهَادِ جِهَادُ النَّفسِ، وَجِهَادُ الهوى، وَجِهَادُ الشَّيْطَانِ، وَجِهَادُ الدُّنْيَا، فمن جاهد هذه الأَرْبَعَةَ فِي اللهِ، هداهُ اللهُ سُبُلَ رِضَاهُ الموصلة إِلَى جنّتِهِ، وَمن ترك الْجِهَادَ فَاتَهُ من الهدى بِحَسَبِ ما عَطَّلَ من الْجِهَادِ».
وعن الإمامِ الْجُنَيْدِ قَالَ: «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا أَهوَاءَهُمْ فِينَا بِالتَّوْبَةِ، لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَ الْإِخْلَاصِ، وَلَا يتَمَكَّنُ مِن جِهَادِ عَدُوِّهِ فِي الظَّاهِر، إِلَّا مَنْ جَاهَدَ هَذِهِ الْأَعْدَاءَ بَاطِنًا، فَمَنْ نُصِرَ عَلَيْهَا نُصِرَ عَلَى عَدُوِّهِ، وَمَنْ نُصِرَتْ عَلَيْهِ نُصِرَ عَلَيْهِ عَدُوُّهُ».
وقال أبو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: «لَيْسَ الجِهَادُ فِي الآيَةِ قِتَالَ الْكُفَّارِ فَقَطْ، بَلْ هُوَ نَصْرُ الدِّينِ، وَالرَّدُّ عَلَى الْمُبْطِلِينَ، وَقَمْعُ الظَّالِمِينَ، وَعِظَمُهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمِنْهُ مُجَاهَدَةُ النُّفُوسِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَهُوَ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ».
وفي مُسْنَدِ الإمامِ أحمدَ عن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ > قال: قال رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في حجَّةِ الوداعِ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ»؛ فجهادُ النّفسِ إِذًا من أفضَلِ أنوَاعِ الجهَادِ، وجهَادُ المَرْءِ نفسه هو من أكمَلِ الجهَادِ وأفضلِهِ، قال اللّهُ تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النّازعات: 41 ــ 40].
أيّها الثّابتون: إنّ السّبيلَ إلى اللّهِ تعالى ليس مُعبَّدًا سَهْلًا، وليس مفروشًا بالوُرُودِ والرَّيَاحِينِ مزيَّنًا بالزّهورِ، بل هو طريقٌ شَاقٌّ، يكون دائمًا محفوفًا بالأشوَاكِ والمَخَاطرِ، ليعلَمَ اللّهُ الصَّادِقَ من الكَاذِبِ، ويميزَ المُحِقَّ من المُبْطِلِ.
قال ابنُ القيّمِ رحمه الله: «أين أنت؟! والطّريقُ طريقٌ تَعِبَ فيه آدَمُ، ونَاحَ لأجلِهِ نوحٌ، وَرُمِيَ في النّارِ الخليلُ، وأُضْجِعَ للذّبحِ إسماعيلُ، وبِيعَ يوسفُ بثمنٍ بخْسٍ، ولَبِثَ في السِّجْنِ بِضْعَ سنينَ، ونُشِرَ بالمنشَارِ زكريَّا، وذُبِحَ السّيِّدُ الحصورُ يحيى، وقاسى الضرَّ أيّوبُ، وزاد على المقدَارِ بُكَاءُ داودَ، وسار مع الوحشِ عيسى، وعَالَجَ الفقرَ وأنواعَ الأذى محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم».
أيّها الصّابرون: إنّ المؤمِنَ وهو يجاهِدُ في اللهِّ، لا بدّ له من عُدَّةٍ يتسلّحُ بها، وأقوى الأسلحَةِ سلَاحُ الصّبرِ، فمن صَبَرَ على جهادِ نفسِهِ وهَوَاهُ وشيطَانِهِ غَلَبَهُمْ وانتَصَرَ، وصارَ مَلكًا عزيزًا، ومن جَزَعَ ولم يصبِرْ غُلِبَ وَقُهِرَ وَأُسِرَ، وصار عبدًا ذليلًا أسيرًا، كما قيل:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَغْلِبْ هَوَاهُ أَقَامَهُ مَنْزِلَةً فِيهَا الْعَزِيزُ ذَلِيلُ
وقد جاء في الحديثِ الصّحيحِ: «وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ».
وممّا يعينُ على مجاهدَةِ النّفسِ كذلك ــ أيّها المؤمنون ــ الاعتصَامُ بكتَابِ اللّهِ تعالى، قراءَةً وحِفْظًا وتَدَبُّرًا وعَمَلًا، والتّوبَةُ من الذّنوبِ والمَعَاصِي، وتطهيرُ القلبِ من الأحقَادِ والضَغَائِنِ، وإصلاحُهُ ليصلُحَ الجَسَدُ الإنسانيُّ بِرُمَّتِهِ، لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».
وممّا يعينُ على المجاهدَةِ أيضًا ــ أيّها المؤمنون ــ كثرةُ الدّعَاءِ والذّكرِ، واللُّجُوءُ إلى اللّهِ تعالى، والاستعانَةُ بالصّلاةِ، فعن ربيعةَ بنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ رضي اللّه عنه قَالَ: «كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: سَلْ، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ».
وكذلك ممّا يعينُ على المجاهدَةِ الإكثَارُ من ذِكْرِ هَادِم ِاللَّذَّاتِ (الموت) باستمرَارٍ، لأنّه قَامِعٌ قَاطِعٌ لِكُلِّ هوى.
ومن الأشيَاءِ الأساسيَّةِ التي تعينُ على المجاهدَةِ، الصُّحْبَةُ والرُّفْقَةُ الصّالحَةُ التي تَدُلُّ على الخيرِ وتعينُ عليه، وبما أنّ طريقَ المجاهدَةِ وَعْرُ المسالِكِ ومتعدِّدُ الجوانِبِ، لا بُدَّ من رفقَةٍ صالحَةٍ تسلُكُهُ معك، قال صلّى اللّه عليه وسلّم: «لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ».
بارَك اللّهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفَعَنِي وإيَّاكم بما فيه من الآيَاتِ والذِّكْرِ الحكيمِ، أقولُ قولِي هذا وأستَغفِرُ اللّهَ العظيمَ لي ولكم، فاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هو الغفورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للّهِ الّذي بنِعمتِهِ تَتِمُّ الصّالِحَاتُ، الحمدُ للّهِ حَقَّ حمدِهِ، حمدًا كما ينبغي لجلَالِ وجهِهِ وعظيمِ سلطانِهِ، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللّهُ وحدَهُ لا شَريكَ له، وأشهَدُ أن سيِّدَنَا محمّدًا عبدُ اللّهِ ورسولُهُ، نَشهدُ أنَّه بلَّغَ الرّسالَةَ، وأدَّى الأمانَةَ، ونَصحَ للأمّةِ، وكَشَفَ الغُمَّةَ، وجاهَدَ في اللّهِ حَقَّ جهادِهِ حتى أتاه اليقين، صلواتُ ربّي وسلامُهُ عليه، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين؛ أمّا بعد:
أيّها الإخوة المؤمنون: كما عَلَّقَ اللّهُ الهدايَةَ على المجاهَدَةِ، كذلك عَلَّقَ المعيَّةَ على الإحسَانِ، فختم الآيَةَ الكريمَةَ بقولِهِ: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]، والمحسنون الذين نالوا شَرَفَ معيَّةِ اللّهِ لهم بالتّأييدِ والعونِ والنّصرِ والهدايَةِ، هم المتّقنون لأعمالِهِمْ، المخلصون فيها لربِّهِمْ، وهؤلاء هم الذين يزِيدُهُمُ اللّهُ توفيقًا وتسدِيدًا جَزَاءً لإحسانِهِمْ، حيث قال سبحانَهُ: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُم هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد: 17].
ولَمَّا كانت العبرَةُ في كَلَامِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ بعمومِ اللّفظِ لا بخصوصِ السَّبَبِ، كما يقول علماؤُنَا، فإنّ حُكْمَ هذه الآيَةِ ينطبِق على ثورةِ الجزائرِ المباركَةِ، وقد حلّتْ بنا ذكرى يومِ المجاهِدِ، نتذكَّرُ فيها ما قدّمَهُ شهداؤُنَا الأبرارُ ومجاهدونا البواسِلُ من تضحيَاتٍ جسَامٍ، وَكيف حَمَوْا الوطنَ بالـمُهَجِ والأرواحِ في سبيلِ إعلاءِ رايتِهِ والحفاظِ على مَنَعَتِهِ وقوّتِهِ، نتذكَّرُ أولائك الرّجال الذين باعوا أنفُسَهُمْ للّهِ، وجاهدوا في سبيلِهِ، ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 23].
ولا يسعُنَا ونحن نُحْيِي الذِّكْرَى المزدوجَةَ لهجومَاتِ الشَّمَالِ القسنطينِيِّ ومؤتَمَرِ الصّومامِ، إلّا أن نترحَّمَ على أرواحِ شهدائِنَا الزّكيّةِ ونتوجَّهُ بالتّحيَّةِ والتّقديرِ إلى إخوانِهِمْ المجاهدين أطالَ اللهُ في أعمارِهِمْ، هؤلاء الذين اقتفى أَثَرَهُمْ وسار على نهجِهِمْ إخوانُنَا المرابطون في بيتِ المقدِسِ وفي أكنافِ بيتِ المقدِسِ وفي غَزَّةَ العِزَّةِ، أولئك الأبطَالُ الأشَاوِسُ الذين تحرّروا من حظوظِ أنفسِهِمْ وخالفوا أهواءَهُمْ وشهواتِهِمْ، فقدّموا أموالَهُمْ وأولادَهمْ وأنفسَهُمْ فِدَاءً للدّينِ والعقيدَةِ والوَطَنِ، أولئك الذين تُبشّرُهُمْ هذه الآيَةُ بأنّ اللّهَ سيهدِيهِمْ سُبُلَهُ وأنّهم في معيَّتِهِ، ومن كان اللّهُ معه فَمَنْ عليه، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].
الدّعاء.
للتصفح والتحميل: