الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ الذي أَقَامَ دينَهُ الحَنِيفَ على الشّعَائِرِ، دَعَا عبادَهُ لحَجِّ بيتِهِ فَلَبَّوْهُ رجَالًا وعلى كُلِّ ضَامِرٍ، وأنالَهُمْ يومَ الموقِفِ ما رَجَوْهُ بمغفرَةِ الكَبَائِرِ والصَّغَائِرِ، أحمدُهُ سبحانَهُ على فضلِهِ الغَامِرِ، وخيرِهِ المتَكَاثِرِ، وأشهَدُ أن لا إله إلّا اللهُ وحده لا شريكَ له، المكرِمُ من عبادِهِ ذوِي الأبصَارِ والبَصَائِرِ، وأشهَدُ أنّ سيِّدنَا محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ المبعُوثُ بالبَشَائِرِ، صلّى الله وسلّم عليه وعلى آلِهِ وصحبِهِ إلى يومِ تُبْلَى السّرائِرُ، أما بعد: معاشِرَ المؤمنين، أوصيكُمْ بتقوى الله تعالى في السِّرِ والظَّاهِرِ، فقد قال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197].
عبادَ الله: إنّ من أَحَبِّ ما يتقرَّبُ به العبدُ إلى مولَاهُ في هذه الأيَّامِ؛ أن ينتَظِمَ في عِقْدِ مَنْ يرحَلُ لأدَاءِ فريضَةِ الحَجِّ إن استطَاعَ إلى ذلك سبيلًا، فقد روى البخارِيُّ ومسلِمٌ عن أبي هريرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ».
وقد رَتَّبَ الشَّرْعُ الحَنِيفُ على هذا الرُّكْنِ الرَّكِينِ أجرًا عظِيمًا، فقال النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ».
وهو سبَبٌ لتكفِيرِ السّيِّئَاتِ ومحوِ الذُّنُوبِ ومغفرَةِ الخَطَايَا، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».
ولا عَجَبَ أيّها المؤمنون، فالحجَّاجُ ضيوفُ الرّحمَنِ، وهو الكرِيمُ سبحانَهُ، يُفِيضُ على من أَجَابَ دعوتَهُ، ويُكرِمُ مَن زَارَ بيتَهُ، فعن ابن عمرَ رضي الله عنه عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْحَاجُّ، وَالْمُعْتَمِرُ، وَفْدُ اللَّهِ، دَعَاهُمْ، فَأَجَابُوهُ، وَسَأَلُوهُ، فَأَعْطَاهُمْ»؛ وفي رواية: «الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ، وَفْدُ اللَّهِ إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ، وَإِنِ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ».
وإنّ المَرْءَ حين يرى الحُجَّاجَ يسيرون بالملايين إلى صَعِيدِ عَرَفَاتٍ، ثمّ مُزْدَلِفَةَ؛ وصولًا إلى مِنًى لِرَمْيِ الجَمَرَاتِ، أو يرى الطّوافَ حولَ البيتِ الحَرَامِ في جَمِيعِ سَاعَاتِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ؛ ويبصِرُهُمْ وهم يُلَبُّونَ ويَتَضَرَّعُونَ ويَبْكُونَ ويَدْعُونَ، قد اختلَفَتْ ألسنتُهُمْ، وتَوَحَّدَتْ قُلُوبُهُمْ، فإنّ هذا المشهَدَ المهيبَ يزيدُ من تعظِيمِ اللهِ تعالى في القُلُوبِ، بل ويعظِّمُ شَعَائِرَ الله في النُّفُوسِ، واللهُ تعالى يقول: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [سورة الحج: 32].
والحَجُّ سَبَبٌ لتقوِيَةِ رَوَابِطِ الأُخُوَّةِ والوحدَةِ بين المسلمين، فاجتمَاعُ الحُجَّاجِ الميامين على اختلَافِ ألسِنَتِهِمْ وألوانِهِمْ وأوطانِهِمْ في صعِيدٍ واحِدٍ، يَدْعُونَ رَبًّا وَاحِدًا، وهم يلبسونَ الإِزَارَ والرِّدَاءَ الأبيضَ، قد تَجَرَّدُوا لطاعَةِ اللهِ ورضوانِهِ؛ كما تَجَرَّدُوا من ثيابِهِمْ وما يملكون، يتوجَّهُونَ لبيتٍ واحِدٍ، تَوَحَّدَتْ بفضلِ اللهِ أهدافُهُمْ، واتَفَقَت غَايَاتُهُمْ، وتَوَثَقَتْ في أَقْدَسِ مَكَانٍ رَابِطَتُهُمْ، وليستَشْعِرَ كُلُّ مَن حَضَرَ هذا الموْقِفَ مَعْنَى الانْتِمَاءِ إلى أُمَّةِ حبِيبِنَا وسيِّدِنَا محمَّدٍ ‘، فقد قال رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»؛ وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ».
لَكَ الدِّينُ يَا رَبَّ الْحَجيجِ جَمَعتَهُمْ لِبَيْتٍ طَهورِ السَّاحِ وَالْعَرَصَاتِ
أَرَى النَّاسَ أَصْنَافًا وَمِنْ كُلِّ بُقْعَةٍ إِلَيْكَ اِنْتَهَوْا مِنْ غُرْبَةٍ وَشَتَاتِ
تَسَاوَوْا فَلَا الْأَنْسَابُ فِيهَا تَفَاوُتٌ لَدَيْكَ وَلَا الْأَقدَارُ مُخْتَلِفَاتِ
إنّها مَحَطَّاتٌ تستوجِبُ مِنّا أن نَقِفَ عندهَا مَلِيًّا، وكَانَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يقول للنَّاسِ في حَجَّةِ الوَدَاعِ: «قِفُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ، فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ».
اللّهمّ وَفِّقْ حُجَّاجَنَا الميامينَ لإتمَامِ مَنَاسِكِهِمْ، وتَقَبَّلْ منهم حَجَّتَهُمْ، واغْسِلْ حَوْبَتَهُمْ، وأَعِدْهُمْ إلى أهلِيهِمْ سَالِمِينَ غَانِمِينَ، إِنَّكَ جَوَادٌ كَرِيمٌ، أقولُ ما تسمعون، وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم فاستغفرُوهُ، إنّ ربِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إحسانِهِ، والشُّكْرُ له على توفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهَدُ أن لا إله إلّا اللهُ وحده لا شريك له تعظيمًا لشانِهِ، وأشهَدُ أنّ سيِّدنا محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ، صلّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأزواجِهِ وذريَّتِهِ وإخوانِهِ، ألا واتّقُوا اللهَ عبَادَ اللهِ حَقَّ التَّقْوَى، وراقبُوهُ في السِّرِ والنَّجْوَى.
أيّها المؤمنون: قد انطلقَتْ في بحْرِ هذا الأسبُوعِ بفضْلِ اللهِ قوافِلُ الحجِيجِ من بِلادِنَا، وقد وفَّرَتْ الدّولَةُ كَافَّةَ الإمكانَاتِ لإنْجَاحِ هذه الرِّحلَةِ المباركَةِ، فالحَاجُّ مُحَاطٌ بأنوَاعِ الرّعايَةِ الدّينيَّةِ والصّحيَّةِ، ليؤَدِّي مناسِكَهُ في أفضَلِ الظُّرُوفِ وأيسرِهَا، فكونوا مَعَاشِرَ الحُجَّاجِ خَيْرَ سفرَاءَ لبلدِكُمْ، ولِينُوا في أيْدِي إخوانِكُمْ من مختلفِ الجنسيَاتِ، واصْبِرُوا وتَصَبَّروا، وأَرُوا اللهَ من أنفسِكٌمْ خيرًا، وتَزَيَّنُوا بالأخلَاقِ الحسنَةِ الكريمَةِ، ولا تفسِدُوا حَجَّكُمْ بما يهدِمُ أركانَهُ؛ وينقضُ بنيانَهُ، فقد قال ربُّنَا جَلَّ وعَلَا: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [سورة البقرة:196].
واعلموا رحمِكُمْ اللهُ أنّ اللهَ قد اصطفَاكُمْ لهذه الرّحلَةِ وأَخَّرَ غيرَكُمْ، فاعرِفُوا نعمَةَ اللهِ عليكم، فإنّ أُنَاسًا قد حِيلَ بينهم وبين الوُصُولِ إلى تلك البِقَاعِ الطّاهرَةِ؛ يَوَدُّونَ لو أنّهم يَفْتَدُونَ بكُلِّ ما يملكون ذَهَابَهُمْ، لِسَانُ حالِهِمْ:
يَا رَاحِلِينَ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ لَقَدْ سِرْتُمْ جُسُومًا وَسِرْنَا نَحْنُ أَرْوَاحَا
إِنَّا أَقَمْـــنَا عَلَى عُــــــــذْرٍ نُكَابِـــــــدُهُ وَمَنْ أَقَامَ عَلَى عُــــذْرٍ كَمَــنْ رَاحَــا
فلا تَنْسَوْا بَلَدَكُمْ وأهلَكُمْ وأرحامَكُمْ من صالح دعواتكُمْ، وخُصُّوا إخوانَكُمْ المظلومين في فلسطينَ بالدُّعَاءِ لَعَلَّ اللهَ يفرّجُ عنهم بنصرٍ قريبٍ، وأَمَّا مَنْ لم يَقدِرْ على الحَجّ فإنّنا نبشِّرُهُ بحديثِ النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ».
اللّهمّ وفِّقْ حُجَّاجَنَا الميامين، واجعل حَجَّهُمْ مبرُورًا، وسعيَهُمْ مشكُورًا، ورُدَّهُمْ سالمين غانمين برحمتِكَ يا أَرحَمَ الرّاحمين.
اللّهمّ احفَظْ بلدَنَا الجزائِرَ من كُلِّ سُوءٍ، وسَائِرَ بلَادِ المسلمين، اللّهمّ إنَّا نسأَلُكَ الأمْنَ في البَلَدِ، والعَافيَةَ في الجَسَدِ، والإصلَاحَ في الوَلَدِ، ربّنا آتِنَا في الدّنيَا حَسَنَةٌ، وفي الآخرَةِ حَسَنَةٌ، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، برحمتِكَ يا عَزِيزُ يا غَفَّارُ.
اللّهمّ انصر إخوانَنَا المرابطين في أَكنَافِ بيتِ المقدِسِ نصرًا مُؤزَّرًا، يا أرحَمَ الرّاحمين.
ثمّ صلُّوا رحمَكُمْ اللهُ على سيّدِنَا محمَّدٍ الذي أَمَرَكُمْ اللهُ بالصَّلَاةِ والسَّلَامِ عليه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [سورة الأحزاب: 56].
اللّهمّ صَلِّ على سيِّدِنَا محمَّدٍ وعلى آل سيِّدِنَا محمَّدٍ، كما صَلَّيت على سيِّدِنَا إبراهيمَ وعلى آل سيِّدِنَا إبراهيمَ، وبارِكْ على سيِّدِنَا محمَّدٍ وعلى آل سيِّدِنَا محمَّدٍ، كما بَارَكْتَ على سيِّدِنَا إبراهيمَ وعلى آل سيِّدِنَا إبراهيمَ، في العالمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
عبادَ الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90]، فاذكُرُوا اللهَ يذكُركُمْ واشكُرُوهُ يزدْكُمْ، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45].
يغفرُ اللهُ لي ولكم وهو الغُفُورُ الرَّحِيمُ.
للتصفح والتحميل:
خطبة الجمعة: فضائل الحج