الخطبة الأولى
الحمدُ للّهِ ذي الجلَالِ والكبريَاءِ، المتفرِّدِ بالبَقَاءِ، وأشهَدُ أن لا إله إلّا اللّهُ وحده لا شريك له، صَدَقَ وَعْدَهُ، وأَعَزَّ جندَهُ، وهَزَمَ الأحْزَابَ وحدَهُ، وأشهَدُ أنّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اصطفَاهُ ربُّهُ لتبليغِ رسالَةِ السَّمَاءِ، فصبر على الأَذَى لأجْلِ الأَدَاءِ، وعُودِيَ في سبيلِ اللّهِ من العشيرَةِ والأقربَاءِ، وأُخْرِجَ من بيتِ اللّهِ مَكَّةَ الطّاهرَةِ قَسْرًا وظلمًا، فَاسْتَخْفَى عن أعينِ الأعدَاءِ بالظّلمَاءِ، فَسَلِمَ من كيدِهِمْ بمعجزَةٍ عظيمَةٍ، حيث شَاهَتْ وُجُوهُهُمْ بحفنَةٍ من الحصبَاءِ، فجعل اللّهُ من بين أيديهِمْ سدًّا ومن خلفِهِمْ سدًّا، فأغشى أعيُنَهُمْ، فَصَارَتْ عُمْيًا لا تُبصرُ الأشيَاءَ، فسبحان من قطع بنبيِّهِ صلّى اللّه عليه وسلّم وصاحبِهِ المفاوِزَ والبيدَاءَ، إلى أن وَصَلَا إلى طيبَةَ، طَيَّبَ اللّهُ ذِكْرُهَا في الأرضِ وفي السَّمَاءِ، اللّهمّ إنّا نشهَدُ أنّه اقتفى سنَنَ مَنْ قبلَهُ من الأنبيَاءِ، صَلَّى اللّهُ وسَلَّمَ وبَارَكَ عليه، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن اقتفى أثرَهُ إلى يوم اللّقَاءِ، ألا واتّقوا اللّهَ عبادَ اللّهِ وراقبُوهُ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، واخشَوهُ حَقَّ الخشيَةِ في المكرَهِ وعند النّعمَاءِ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، ألا وإنّ أصدَقَ الحديثِ كتابُ اللّهِ تعالى، وخيرَ الهُدَى هُدَى محمَّدٍ عليه الصّلاةُ والسّلامُ، وشَرَّ الأمورِ محدثَاتُهَا، وكُلَّ بدعَةٍ ضَلَالَةٌ، أمّا بعد:
أمَة الإسلام: إنّ شهرَ اللّهِ المحرَّمِ الذي نَتَنَسَّمُ عِطْرَ نفحَاتِهِ، ونعيشُ بركَاتِ أوقاتِهِ، لهو شهرٌ يذكِّرُنَا بِعِبَرٍ جليلَةٍ ودروسٍ كثيرَةٍ، ومن بين أهمِّ ما نتذكَّرُهُ في هذا الشّهرِ الحرامِ: سُنَّةَ الصِّرَاعِ المستمِرِّ بين الخيرِ والشَّرِّ، والحربِ الضّروسِ بين الحَقِّ والباطِلِ، إلى أن يَرثَ اللّهُ الأرضَ ومَنْ عليها، فهذه قِصَّةُ الهجرَةِ النّبويَّةِ التي نَتَذَاكَرُ أحْدَاثَهَا كُلَّمَا حَلَّ علينا شهرُ محرَّمٍ، لهي عنوَانٌ صريحٌ للصّرَاعِ بين جندِ الرّحمنِ وحزبِ الشّيطَانِ، كما كانت عنوَانًا ظاهِرًا للفرَارِ إلى أرضِ اللّهِ الواسعَةِ، ليسلَمَ للمسلِمِ دينُهُ؛ ويَأمَنَ على عرضِهِ ومالِهِ ونفسِهِ، وأنَّ حِفظَ الأديَانِ مقصَدٌ عظيمٌ من مقاصِدِ الإسلَامِ، وقد تَجَلَّتْ في تفاصيلِ هذه الهجرَةِ المباركَةِ أَرْوَعُ مظاهِرِ صَبْرِ النّبيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم ومعاناتِهِ وبَذْلِهِ من أجلِ إعلَاءِ كلمَةِ اللّهِ، ثمّ تُوِّجَتْ هجرتُهُ العظيمَةُ بإقامَةِ صرحِ دولَةٍ متينَةِ البنيَانِ؛ عنوانُهَا عدالَةٌ شامِلَةٌ؛ ومسؤوليَّةٌ عظيمَةٌ؛ ورِفْعَةٌ بين الأمَمِ، وإتمَامٌ للنّعمَةِ السّابغَةِ، مصدَاقًا لقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3].
أمّةَ العلم والعرفان: إنّ من الإشكالَاتِ الّتي يذكُرُهَا المؤرّخون: أنّ هجرَةَ المصطَفَى عليه الصّلاةُ السّلامُ لم تكن في شهرِ اللّهِ المحرَّمِ، وإنّما وقعت فِي رَبِيعٍ الأَوّلِ، فما السَّبَبُ في اختيَارِ الهجرَةِ مَرْجِعًا للتّأريخِ أَوَّلًا؟ ثمّ ما سببُ تغييرِ مُبْتَدَأِ السَّنَةِ الهجريَّةِ من ربيعٍ الأَوَّلِ إلى المحرَّمِ ثانيًا؟
والجَوَابُ الشَّافِي من بابِ الأمانَةِ العلميَّةِ، الوقوف عند ثَلَاثِ مسائِلَ:
الأولى: إنّ أميرَ المؤمنين عمرَ بنَ الخَطَّابِ رضي اللّه عنه هو أَوَّلُ من أَرَّخَ بالهجرَةِ النبويَّةِ، فقد روى الحاكِمُ في مُسْتَدْرَكِهِ عن سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ رضي اللّه عنه قال: «جَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ فَسَأَلَهُمْ مِنْ أَيِّ يَوْمٍ يُكْتَبُ التَّارِيخُ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: مِنْ يَوْمِ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَ أَرْضَ الشِّرْكِ، فَفَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ».
وقال ابنُ كثيرٍ في البدايَةِ والنّهايَةِ: «اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، فِي الدَّوْلَةِ الْعُمَرِيَّةِ عَلَى جَعْلِ ابْتِدَاءِ التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ سَنَةِ الْهِجْرَةِ».
الثّانيَةُ: إنّ سَبَبَ اختيارِهِمْ لحدثِ الهجرَةِ دون المولِدِ والمبعثِ والوفاةِ، هو أنّ في الهجرةِ معنًى عظيمًا لا يوجد في غيرِهِ، حيثُ قال الحافِظ ابن حجر رحمه اللّه في فتحِ البَارِي: « وَذَكَرُوا فِي سَبَبِ عَمَلِ عُمَرَ التَّارِيخَ أَشْيَاءَ، مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ الفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ فِي تَارِيخِهِ وَمِنْ طَرِيقِهِ الحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ أَبَا مُوسَى كَتَبَ إِلَى عُمَرَ: إِنَّهُ يَأْتِينَا مِنْكَ كُتُبٌ لَيْسَ لَهَا تَارِيخٌ، فَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرِّخْ بِالمَبْعَثِ، وَبَعْضُهُمْ: أَرِّخْ بِالهِجْرَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: الهِجْرَةُ فَرَّقَتْ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، فَأَرِّخُوا بِهَا، وَذَلِكَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، فَلَمَّا اتَّفَقُوا قَالَ بَعْضُهُمْ: ابْدَءُوا بِرَمَضَانَ، فَقَالَ عُمَرُ بَلْ بِالمُحَرَّمِ، فَإِنَّهُ مُنْصَرَفُ النَّاسِ مِنْ حَجِّهِمْ، فَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ».
الثّالثةُ: وأما ابتداؤُهُمْ السّنة بالمحرَّمِ دون ربيعٍ، فمنْ أحسِنِ ما ذُكِرَ في تعليلِ ذلك، ما نصَّ عليه ابنُ الجَوْزِيِّ رحمَهُ اللّهُ بقولِهِ: «ولم يُؤَرِّخُوا بالبعثِ لأنّ في وقتِهِ خِلَافًا، ولا من وفاتِهِ لما في تَذَكُّرِهِ من التَّأَلُّمِ لِفِرَاقِهِ، ولا من وقتِ قدومِهِ المدينة، وإنّما جعلوه من أوّلِ المحرَّمِ لأن ابتدَاءَ العَزمِ على الهجرَةِ كان فيه، إذِ البيعَةُ ــ أي بيعَةُ العَقَبَةِ مع الأنصَارِ ــ كانت في ذي الحِجَّةِ؛ وهي مقدِّمَةٌ لها، وأوّلُ هلالٍ هلَّ بعدها المحرَّمُ، ولأنّه منصرَفُ النّاسِ من حَجِّهِمْ فَنَاسَبَ جعلُهُ مبتدَأً»، وقد عَلَّقَ ابنُ حَجَرٍ على كَلَامِ ابنِ الجَوْزِيِّ بقولِهِ: «وهذا أقوى ما وَقَفْتُ عليه من مناسبَةِ الابتدَاءِ بالمحرَّمِ».
أمّةَ الإيمان: ومن أيَّامِ اللَّهِ المشهودَةِ في المحرَّمِ العاشِرُ منه، وفيه قِصَّةٌ أخرى للصِّرَاعِ المريرِ بين أوليَاءِ الرّحمنِ وجُنْدِ الشّيطانِ، وشخصياتُهَا معلومَةٌ بدِقَّةٍ متناهِيَةٍ، نَطَقَ بها القرآنُ الكريمُ، حيث خَرَجَ كليمُ اللّهِ موسى عليه السّلامُ مهاجِرًا بقوِمهِ بني إسرائيلَ من أرضِ الظُّلْمِ والجَوْرِ حيث مملكَةُ الفرعون إلى أرضِ اللّهِ الواسعَةِ، وتُوِّجَتْ هذه الهجرَةُ الموسويَّةُ بإغرَاقِ القومِ الظّالمين، ونَجَاةِ المؤمنين، ونصرِهِمْ المؤزَّرِ بِيَدِ رَبِّ العالمين، في يومِ عاشورَاءَ، قال تعالى وَاصِفًا هذه الملحمَةَ العظيمَةَ والآيَةَ الباهرَةَ: (فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الشعراء: 61 ــ 68].
أمّةَ التّدبّر والتّفكّر: ما أشبَهَ هجرَةَ الحبيبِ بهجرَةِ الكليمِ، وما أشبَهَ نَجَاةَ المصطفى بنجَاةِ موسى عليهما السّلامُ، وشُكْرًا لنِعَمِ اللّهِ الكثيرَةِ، وعلى رأسِهَا نَجَاةُ المؤمنين من يَدِ المجرمين، صَامَ الكليمُ يومَ النَّجَاةِ يومَ عاشورَاءَ، وأَمَرَ بني إسرائيلَ بصيامِهِ، وبعد عِدَّةِ قرونٍ يهاجِرُ المصطفى عليه السّلامُ إلى المدينَةِ حيث اليهود، فَوَجَدَهُم يصومُون عاشورَاءَ، فَسُئِلُوا عن ذلك، فقالوا: هذا اليومُ الذي أظهَرَ اللّهُ فيه موسى وبني إسرائيلَ على فرعونَ، ونحن نصومُهُ تعظيمًا له، فقال رسولُ اللّهِ صلّى اللّه عليه وسلّم: «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ»، ثم أَمَرَ بصيامِهِ، واحتسبَهُ تكفيرًا لذنوبِ سنَةٍ ماضيَةٍ، ثمّ أَمَرَ بمخالفَةِ أهلِ الكتَابِ، فاستحَبَّ صيَامَ التَّاسِعِ، وقال «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ»، وقد استجابَتْ أُمَّتُنَا عبرَ العصورِ إلى يومِ النّاسِ هذا لأمرِ النّبيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فَدَأَبَ أكثَر المسلمين على صيامِهِ أخذًا بسُنَّةِ النّبيِّ الكريمِ، واقتدَاءً بهديِهِ القويمِ، وتَذَكُّرًا لأَيَادِي اللّهِ المبسوطَةِ بالعَطَاءِ على أوليائِهِ، فاللّهمّ تَقَبَّلْ منَّا الطَّاعَاتِ والقُرُبَاتِ.
أمّةَ الحقّ والنّصر: إنّ يومَ عاشورَاءَ هو يومُ إحقَاقِ الحَقِّ وإزهَاقِ البَاطِلِ، يومٌ نَصَرَ اللّهُ فيه المؤمنين، وأَذَلَّ الكافرين المجرمين، وإنّ نَجَاةَ موسى عليه السّلامُ وهَلَاكَ فرعونَ، لدليلٌ واضِحٌ على قدرةِ اللّهِ المطلَقَةِ، وتصرُّفِهِ الكَامِلِ في هذا الكونِ إحيَاءً وإمَاتَةً، وإغْنَاءً وإفْقَارًا، وإعلَاءً وَوَضْعًا، وأنّه لا يعجِزُهُ شيءٌ في الأرضِ ولا في السَّمَاءِ، فاستمسِكِي أمَّةَ الإسلَامِ بعزّتِكِ وتَوَكَّلِي على خَالِقِكِ، ولا تحزَنِي ولا تَبْتَئِسِي، وقُولِي كما قال النّبيُّ الحبيبُ: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40]، وكما قال الكليمُ (كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62]، وهي رسالَةُ أَمَلٍ لكُلِّ مظلومٍ تَكَالَبَ عليه أهلُ البَغيِ والطّغيَانِ: أنّ وَعْدَ اللّهِ لأوليائِهِ بالنَّصْرِ والتّمكينِ حَقٌّ لا مِرْيَةَ فيه، ولإخوانِنَا في أرضِ الرِّبَاطِ فلسطينَ النّصيبُ الأوفَرُ إن شاء اللّهُ تعالى، وسَيَشْفِ اللّهُ صدورَ قومٍ مؤمنين.
كَتَبَ الْمَوْتَ عَلَى الخَلْقِ فَكَمْ فَلَّ مِنْ جَمْعٍ وَأَفْنَى مِنْ دُوَلْ
أَيْنَ نَمْرُودُ وَكَنْعَـــــــــانُ وَمَــــــنْ مَلَكَ الْأَمْرَ وَوَلَّى وَعَـــــــــــــــزَلْ
أَينَ عَادٌ أَيْنَ فِرْعَـــونُ وَمَــــــنْ رَفَعَ الْأَهْرَامَ مَنْ يَسمَعْ يَخَــــــلْ
أَيْنَ مَنْ سَادُوا وَشَادُوا وَبَنَوْا هَلَكَ الْكُلُّ وَلَمْ تُغْــــــــنِ القُــلَلْ
أَيْنَ أَرْبَابُ الْحِجَا أَهْلُ النُّهَى أَيْنَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْقَوْمُ الأُوَلْ
سَيُعِيدُ اللَّهُ كُلًّا مِنْهُــــــــــــــــــــــمُ وَسَيَجْزِي فَاعِلًا مَا قَدْ فَعَــــــــــلْ
أقولُ ما تسمعون، وأستغفرُ اللّهَ الحليمَ العظيمَ لي ولكم، ويا فوزَ المستغفرين أستغفرُ اللّهَ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للّهِ وَكَفَى، والصّلاةُ والسّلامُ على النّبيِّ المصطفى، ومن بآثارِهِ اقْتَفَى، وبعهْدِ اللّهِ وَفَّى، وسَلَامٌ على عبادِهِ الذين اصطفى، وبعد: فممّا يُذَكَّرُ به في شهْرِ اللّهِ المحرَّمِ، حَثُّ النّاسِ على إخراجِ زَكَاةِ أموالِهِم، اقتداءً بعملِ الخليفَةِ الرَّاشِدِ الثّالثِ عثمانَ بنِ عَفَّانَ رضي اللّهُ عنه، الذي كان يُذَكِّرُ النّاسَ مستَهَلَّ المحرَّمِ بفريضَةِ اللّهِ في المَالِ.
أمّةَ الخير والإحسان: إنّ من أَوكَدِ الصَّدَقَاتِ وأَوْجَبِهَا: ما يتكرَّرُ بحَوَلَانِ الأحوَالِ وتَعَاقُبِ الأعوَامِ، إنّها الصَّدَقَةُ الواجبَةُ ــ الرّكنُ الثّالثُ من أركَانِ الإسلَامِ ــ، إذ تُعَدَّ رُكْنًا رَكِينًا وأَسَاسًا للدِّينِ متينًا، فَرَضَهَا اللّهُ تعالى من فوقِ سبعِ سَمَاوَاتٍ فرضًا مُؤَكَّدًا، وزَجَرَ عن مَنْعِهَا زَجْرًا مشدَّدًا، ولِعِظَمِ شأنِهَا ورفْعَةِ منـزلتِهَا وعُلُوِّ مرتبتِهَا قُرِنَتْ بعِمَادِ الدِّينِ-الصَّلَاةِ ــ في كثيرٍ من الآياتِ القرآنيَّةِ، قال اللّهُ تعالى مُؤَكِّدًا فرضِيّتِهَا: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) [التوبة: 103]، والأمْرُ مُوَجَّهٌ للرّسولِ صلّى اللّه عليه وسلّم ولمَنْ وَلِيَ أَمْرَ المسلمين من بعدِهِ، حَقًّا مفروضًا للسّائِلِ والمحرومِ.
أيّها المؤمنون: لقد أوجَبَ الشّرعُ أَدَاءَ الزَّكَاةِ في المَالِ الذي بَلَغَ النّصَابَ الشّرعِيَّ، وحَالَ عليه الحولُ القمرِيُّ، فيَتَوَجَّبُ على مالكِ النّصَابِ أن يَتَحَرَّى مرورَ عَامٍ هجرِيٍّ ــ وقد قُدِّرَ هذا العَامَ بعشرَةٍ ومِائَةِ مليونٍ، ونصفِ المليونِ سنتيمًا جزائريًّا ــ، فيُقوِّمُ ما مَلَكَتْ يَدَاهُ من المَالِ الذي وَجَبَتْ فيه الزَّكَاةُ، فيُؤَدِّي حَقَّ اللّهِ وحَقَّ الفقرَاءِ طيّبَةً بها نفسُهُ، فَرِحًا بها فؤَادُهُ، لأنّه ممتثِلٌ أمْرَ ربِّهِ، منقَادٌ لشرعِهِ، يبتغي بزكَاتِهِ وَجهَ اللّهِ تعالى، قَاصِدًا سَدَّ خَلَّةِ المحتاجين والمعوزين، يصرِفُهَا في وُجُوهِهَا المحدَّدَةِ في كتَابِ اللّهِ وسنَّةِ رسولِهِ صلّى اللّه عليه وسلّم وليحرِصْ المُزَكِّي أن تُوضَعَ صدقَاتُهُ في موضعِهَا، وأن تصلَ إلى أصحابِهَا، وليتحَرَّ ما استطَاعَ إلى ذلك سبيلًا أن يُغْنِيَ الفقرَاءَ بصدقتِهِ، ولتحصيلِ هذا المقصِدِ النّبيلِ أَمَرَ اللّهُ تعالى وَلِيَّ الأمْرِ أو من ينوبُهُ بِجَمْعِ أموَالِ الصَّدَقَاتِ، فقال: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة: 103]، لأنّ في ذلك تنظيمًا لأمرِهَا، وترشيدًا في توزيعِهَا، وعَدَالَةً في قسمتِهَا، وكَفَاءَةً في استثمارِهَا، فالعَمَلُ المؤسَّسِيُّ المنظَّمُ من مَقَاصِدِ الإسلَامِ السَّامِيَةِ، ومَرَامِيهِ العَاليَةِ، التي جاء الدِّينُ لترسيخِهَا في مجتمَعِ المسلمين، فاعملوا ــ رحمَكُمْ اللّهُ ــ على الرّقَيِّ بمشروعِ فريضَةِ الزَّكَاةِ في بلدِكُمْ ــ صندوق الزّكاةِ ــ، حتّى يكونَ بإذنِ اللّهِ نظَامًا قائمًا على أسسٍ متينَةٍ، يُؤْتِي أكلَهُ كُلَّ حينٍ بإذنِ ربِّهِ، ونكونَ مِنَ الرُّوَّادِ فيه، بإذنِ اللّهِ تعالى، واللّهُ لا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.
عبادَ اللّه: إنّي داعٍ فأمِّنُوا: اللّهمّ لا تَدَعْ لنا في مقامِنَا هذا ذَنْبًا إلّا غفرتَهُ، ولا هَمًّا إلّا فَرَّجْتَهُ، ولا دَيْنًا إلّا قَضَيْتَهُ، ولا مريضًا إلّا شَفَيْتَهُ، ولا ضَالًّا إلا هَدَيْتَهُ، ولا عَدُوًّا إلّا قصمْتَهُ.
اللّهمّ انْصُرْ مَنْ نَصَرَ الدِّينَ، واخْذُلْ مَن خَذَلَ المسلمين.
للتصفح والتحميل: