Scroll Top

خطبة الجمعة: الذكرى السبعون لاندلاع الثّورة التّحريرية المجيدة

الخطبة الأولى

الحمدُ للّهِ الكريمِ المِفْضَالِ، وَاهِبِ النِّعَمِ ودَافِعِ النِّقَمِ، كريمِ الفِعَالِ، أحمدُهُ سبحانه وتعالى أن مَنَّ على أمَّتِنَا بنعمَةِ الحرّيَّةِ والاستقلَالِ، ورَفَعَ هَامَةَ المسلمين خَفَّاقَةً في سَمَاءِ الشُّمُوخِ بتضحيَاتِ الرّجَالِ، الذين دحروا أَعْتَى قوى الاحتلَالِ، وأشهَدُ أن لا إله إلّا اللّهُ وحده لا شريك له، الكَبِيرُ المُتَعالِ، وأشهَدُ أنّ محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، وصفيُّهُ من خلقِهِ وخليلُهُ، أفضَلُ من أنجبت رَبَّاتُ الحِجَالِ، عَلَّمَ أمَّتَهُ معنى التّضحيَّةِ من أجلِ الدِّينِ والوَطَنِ وحُبَّ الاستبسَالِ، صلّى اللّه عليه وسلّم وبارك ما دَوَّتْ بالتّكبيرِ حناجِرُ الأبطَالِ، في سَاحَاتِ الوَغَى والقتَالِ، يبيعون أَنْفُسَهُمْ رخيصَةً للّهِ ذي الجلَالِ، ألا واتّقوا اللّهَ عبادَ اللّهِ في السِّرِ والعَلَنِ، وفي المنشَطِ والمَكْرَهِ، وفي الغِنَى والإقلَالِ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18]، ألا وإنّ أصدَقَ الحديثِ كتابُ اللّهِ تعالى، وخيرَ الهُدَى هُدَى محمَّدٍ عليه الصّلاةُ والسّلامُ، وشَرَّ الأمورِ محدثَاتُهَا، وكُلَّ بدعَةٍ ضلالَةٌ، وبعد:

فقد قال اللّه تعالى في مُحْكَمِ التّبيانِ: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251].

أمّةَ الإسلام: لقد سَنَّ اللّهُ لعبادِهِ سنَّةَ التَّدَافُعِ، فأوجب على أمَّةِ الإسلَامِ أن تنصرَ الحَقَّ، وتبذُلَ في سبيلِهِ ما تستطيعُ، وتنهَجَ للوصولِ إليه كُلَّ سببٍ مشروعٍ، وقد ابتلى اللّهُ عزّ وجلّ أمّةَ الإسلَامِ بغزوِ الصّليبيين لديارِهِمْ دهرًا من الزّمنِ، فانتهكوا الأعراضَ؛ واستباحوا الحُرُمَاتِ؛ ومسخوا عقيدَةَ التّوحيدِ، وعَاثُوا بلغَةِ الأجدَادِ فَسَادًا، فكان لِزَامًا على أمَّةِ التّوحيدِ أن تَهُبَّ لتخليصِ دِيَارِ المسلمين من الكفرَةِ الغاصبين، وأن تنهضَ من سُبَاتِهَا، وتستيقِظَ من رُقَادِهَا، لتحطيمِ قيودِ المستدمِرِ الغاشِمِ، حاذيها في ذلك بطولات خالدِ بنِ الوليدِ وسعدِ بنِ أبي وقّاصٍ من الصّحبِ الكرامِ، وصلاحِ الدِّينِ الأيّوبيِّ والمظفَّرِ قطز والظّاهِرِ بيبرس ومحمَّدٍ الفاتِحِ، وغيرِهِمْ من أبطالِ هذه الأمَّةِ، فاستندت أمّةُ الخيريَّةِ إلى مَاضِيهَا، وتشبَّعَتْ منه بزادِهَا، وأخذت منه بُلْغَتَهَا، فأشعلت نارَ الجهَادِ المبارَكِ تحت رايَةِ الإسلَامِ في ربوعِ هذا البَلَدِ المسلِمِ الأَبِيِّ، فقامت ثورَاتٌ مجيدَةٌ هنا وهناك على يَدِ المخلصين من أبنَاءِ هذا الوطنِ العزيزِ، من أمثالِ الأميرِ عبدِ القادِرِ والشّيخِ المقرانِيِّ والشّيخِ الحدّادِ ولالا فاطمة نسومر رحمهم اللّهُ تعالى أجمعين، وغيرهم ممّن لا يتّسِعُ المجالُ لذِكْرِ بطولاتِهِمْ، وبقيت قُوَّةُ الحَقِّ تصارِعُ شوكَةَ الباطِلِ بين أَخْذٍ ورَدٍّ، وبين كَرٍّ وفَرٍّ، كلّما خَبَتْ ثورَةٌ اتَّقَدَتْ أخرى، وكلّما استشهدَ رجَالٌ خَلَفَهُمْ أبطَالٌ، سنَّةَ اللّهِ في خلقِهِ إلى أن حَانَتْ سَاعَةُ الحَقِّ، فَهَبَّ البواسِلُ في نوفمبر 1954 لتحريرِ البلَادِ من الاستبدَادِ، وتطهيرِهَا من رِجْسِ الأنْذَالِ والأوغَادِ، فأعلنوها مُدَوِّيَةً في سَمَاءِ العالمين: اللّهُ أكبَرُ على كُلِّ من طَغَى وتجبَّرَ، اللّهُ أكبَرُ على من خَرَّبَ البلادَ ودَمَّرَ، اللّهُ أكبَرُ على من انتهَكَ الأعرَاضَ وعَربَدَ، اللّهُ أكبَرُ على من أزهَقَ الأنفسَ وشَرَّدَ، اللّهُ أكبَرُ على من طَمَسَ عقيدَةَ التّوحيدِ، اللّهُ أكبَرُ على من مَسَخَ لغَةَ القرآنِ المجيدِ، فَسَخَّرَ اللّهُ لهذا البلدِ الأمينِ رِجالًا من المخلصين، تَسَلَّحوا بنورِ العلْمِ والهدَى، فَاتَّحَدوا في وجهِ المستدمِرِ، وصَبَروا على الأَذَى والتّنكيلِ، وأنكروا ذواتِهِمْ في سبيلِ المجموعِ، وامتزَجَ في دمائِهِمْ حُبُّ الدِّينِ والوطنِ، فَكَانَا في نظرِهِمْ وجهين لعملَةٍ واحدَةٍ، إنّهم فتيَةٌ آمنوا بربِّهِمْ، وصَدَقُوا ما عَاهَدُوا اللّهَ عليه، فمنهم من قَضَى نَحبَهُ ومنهم من ينتظِرُ، وصَدَقَ فيهم قولُ البَارِي جَلَّ وعَلَا، وهو يفاخِرُ بهم أهلَ الأرضِ والسَّمَاءِ: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 111]، فَنِعْمَ البَيْعُ بَيْعُ هؤلاءِ الرِّجَالِ، ونِعْمَ الجَزَاءُ الذي أَعَدَّهُ صَاحِبُ الجلَالِ لهم في جَنَّاتِ النّعِيمِ مع النّبيّين والصّدّيقين والشّهدَاءِ والصّالحين، قال اللّهُ عَزَّ وجَلَّ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 169 ــ 171].

أحفادَ المجاهدين والشّهداء: إنّ نوفمبرَ مصدَرُ عِزِّنَا، وفَخْرُ أمَّتِنَا، ومنبَعُ قُوَّتِنَا، ومَنَاطُ وَحْدَتِنَا، فكما كان فاتحَةَ خيرٍ على وَطَنِنَا الجزائرِ، وصَنَعَ ملحمَةَ ثورَةِ التّحريرِ المباركَةِ، ينبغي أن يبقى مَبعَثَ سعادَةٍ لنا، ومصدَرَ مَجْدٍ لأجيالِنَا، وصَدَقَ شَاعِرُ الثّورَةِ مفدي زكريا إذ يقولُ:

هَذَا «نُوفَمْبَرُ» قُمْ وَحَيِّي الْمِدْفَــــعَا   وَاذْكُرْ جِهَادَكَ وَالسِّنِينَ الْأَرْبَــــعَا

وَاقْرَأْ كِتَابَكَ لِلْأَنَامِ مُفَصَّـــــــــــــــــــلًا   تَقْرَأْ بِه الدُّنْيَا الْحَدِيثَ الْأَرْوعَـــــا

وَاصْدَعْ بِثَورَتِكَ الزَّمَانَ وَأَهْلَــــــــهُ   وَاقْرَعْ بِدَوْلَتِكَ الْوَرَى وَالْمَجْمَعَا

وَاعْقِدْ لِحَقِّكَ فِي الْمَلَاحِمِ نَدْوَةً   يَقِفُ الزَّمَانُ بِهَا خَطِيبًا مِصْقَـــــــعَا

أمّةَ الوفاء: إنَّنَا اليومَ بعد سبعين سنَةً مَضَتْ على الفاتِحِ من نوفمبر العام 1954، تعودُ بنا الذِّكْرَى إلى تاريخٍ مجيدٍ يَتَأَبَّى على النّسيَانِ، إنّه يومٌ من أيّامِ اللّهِ الخالدَةِ، وَجَبَ التّذكِيرُ بها، لتبقى منقوشَةً في الذّاكرَةِ لا تُنْسَى، ومرسومَةً في الوجدَانِ لا تُمحى، كما قال اللّهُ تعالى لنبيِّهِ موسى عليه السّلام: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) [الرعد: 5]، وحُقَّ للفاتِحِ من نوفمبر أن يكون يومًا من أيَّامِ اللّهِ، تجلّت فيه القدرَةُ الإلهيَّةُ، واندلعَتْ الثّورَةُ تزفُّ بشائِرَ النّصرِ، وتحقِّقُ الوَعْدَ بالتّمكينِ.

نُوفَمْبَرُ أَذْكَى مِنْ فُوَآدِي شُعُورَهُ   وَأَلْهَبَ إِحْسَاسِي وَأَلْهَمَنِي الشِّعْرَا

نُوفَمْبَرُ جَلَّى عَنْ بِلَادِي ظَلَامَهَا   نُوفَمْبَرُ في آفَاقِهَا أَطلَعَ الْفَجْـــــــــــرَا

فَفَاتِحُهُ قَدْ كَانَ أَعْظَمَ فَاتِـــــــــــــحٍ   لَنَا كَسَبَ التَّحْرِيرَ وَانْتَزَعَ النَّصْـــــــرَا

أقول ما تسمعون، وأستغفِرُ اللّهَ الحليمَ العظيمَ لي ولكم، ويا فوزَ المستغفرين، أستغفِرُ اللّهَ.

الخطبة الثانية

الحمدُ للّهِ وكَفَى، والصّلاةُ والسّلامُ على النّبيِّ المصطفى، ومن بآثارِهِ اقْتَفَى، وبِعَهْدِ اللّهِ وَفَّى، وسَلَامٌ على عبادِهِ الّذين اصْطَفَى، وبعد:

فإنّ سنّةَ اللّهِ في عبادِهِ لا تتخلَّفُ، ووعدَهُ لأوليائِهِ الصّابرين لا يُخْلَفُ، فبفَضْلِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ على هذه الأمَّةِ لم تذهب تضحيَاتُ آبائِنَا وأجدادِنَا سُدًى، بل تُوِّجَ صبْرُهمْ نَصْرًا، وخوفُهُمْ أَمْنًا، وبلاؤُهُمْ حُسْنًا، ووحدَةُ صفِّهِم حُبًّا وأُلْفَةً، وتمسُّكُهُمْ بتربَةِ وطنِهِمْ الطّاهرَةِ حرّيَّةً وعزَّةً وكرامَةً، ودُحِرَ المستدمِرُ الغاشِمُ، وأعزَّ اللّهُ جُنْدَ الإسلامِ، وأعلى رايَةَ التّوحيدِ في سَمَاءِ العالمين، ودَوَّتْ المَآذِنُ بكلمَاتِ الحَقِّ المبينِ، وصدقَ رَبُّ العالمين إذ يقول: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 55].

هذه مسيرَةُ أبطالِكُمْ من شهدائِكُمْ ومجاهدِيكُمْ؛ ممّن رَفَضُوا الذُّلَّ والخُضُوعَ لأعدَاءِ اللّهِ والوطنِ، ونَشَدُوا الحرّيَّةَ والعِزَّةَ التي نَنْعَمُ بها اليومَ، فقد أكرمَنَا اللّهُ عزَّ وجلَّ بها، لأنّ أمَّتَنَا أهلٌ للعروجِ إلى معارِجِ السُّؤْدَدِ، والرُّقِيِّ إلى ذُرَى المَجْدِ والرِّفعَةِ، قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون: 8].

أمَّةَ الإيمان: إنّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ كَتَبَ على الأُمَمِ والحَضَارَاتِ والمجتمعَاتِ قضاءً لا يَتَخَلَّفُ، فقال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء: 16].

إنّ دولَةَ الظُّلْمِ والجبروتِ مهما طغت وتجبّرت، فإنّه سيأتي عليها يومٌ ويكسِّرُ اللّهُ شوكَتَهَا، ويذيقُهَا عذابَ الهُونِ، أين الحضارَاتُ المتجبّرَةُ الغابرَةُ؟ أين حَضَارَةُ عَادٍ التي لم يُخْلَقْ مثلُهَا في البلَادِ، فأخذهُمْ اللّهُ حين طَغَوْا وتَجَبَّروا؟ أين حضارَةُ ثمودَ الذين جَابُوا الصَّخْرَ بالوَادِ، فَصَبَّ عليهم رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ حين ظَلَمُوا وبَغَوْا؟ أين الحضارَةُ الفرعونيَّةُ بِسُلَالَاتِهَا الحاكمَةِ، ألم يُذِقِ اللّهُ من تَجَبَّرَ منهم سوءَ العَذَابِ، وهذا فرعونُ موسى قد أغرقَهُ اللّهُ وجندَهُ في اليَمِّ؛ وجعلَّهُ عبرَةً للمتكبّرين؟ أين حضارَةُ روما، أين حضارَةُ فارس؟ أين دولَةُ الاستدمَارِ الغَاشِمِ التي جَثَمَتْ على أنفاسِنَا قَرْنًا وثلثًا، لقد غَدَتْ كأنّها أضغَاثُ أحلَامٍ، وبالمقابِلِ فإنَّ دولَةَ العدلِ والحقِّ والحُبِّ والتَّسامُحِ سيعلُو شأنُهَا في يومٍ من الأيَّامِ ولو خَبَا صوتُهَا، وانطفَأَ نُورُهَا دهرًا من الزَّمَانِ، (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 40].

أمّةَ البطولات: لقد ألهمَتْ ثورتُنَا المجيدَةُ مَشَاعِرَ كُلِّ الأحرَارِ في العَالَمِ، فكانت قدوَةً لكُلِّ من ينشُدُ الحرّيَّةَ، وأُسوَةً لكُلِّ من يرُومُ العزَّةَ والكرامَةَ، وذي فلسطينُ الأبيَّةُ تقتفي آثَارَ ثورَةِ نوفمبر، فتسطِّرُ ملحمَةً عَزَّ نظيرُهَا وقلَّ مثيلُهَا في هذا الزَّمَانِ، فللّهِ دَرُّكِ يا قُدْسُ، يا أُولَى القبلتين، وثَالِثَ الحرمين، ومَسْرَى سَيِّدِ الثّقلين، قِفِي شامخَةً شموخَ الجبَالِ، وسِيرِي نحوَ نَصْرٍ أَكِيدٍ، يُسَطَّرُ على أيدي الأبطَالِ، ولا تلتفتي للمخذِّلينَ من أشبَاهِ الرّجَالِ، ولْتَسمَعِ الإنسانيَّةُ بأجمعِهَا لشَاعِرِ الثّورَةِ في قصيدتِهِ المدوّيَةِ، وهو يَصِلُ قبلَةَ الثُّوَّارِ بِقُدْسِ الأَحْرَارِ:

نُوفَمْبَرُ جَلَّ جَلَالُكَ فِيـــــــــنَا   أَلَسْتَ الَّذِي بَثَّ فِينَا اليَقِينَا؟

سَبَحْنَا عَلَى لُجَجٍ مِنْ دِمَانَا   وَللنَّصْرِ رُحْنَا نَسُوقُ السَّفِينَا

وَثُرْنَا نُفَجِّرُ نَارًا وَنُـــــــــــــورًا   وَنَصْنَعُ مِنْ صُلْبِنَا الثَّائِرِيــــــنَا

وَنُلْهِمُ ثَورَتَنَا مُبتَغَـــــــــــــــــانَا   فَتُلْهِمُ ثَورَتُنَا الْعَالَمِيـــــــــــــــــــنَا

وَتَسْخَرُ جَبْهَتُنَا بِالْبَـــــــــلَايَا   فَنَسْخَرُ بِالظُّلْمِ وَالظَّالِمِيـــــــــنَا

وَتَعْنُو السِّيَاسَةُ طَوْعًا وَكَرْهًا   لِشَعْبٍ أَرَادَ فَأَعْلَى الجَبِــــــينَا

جَمَعْنَا لِحَرْبِ الْخَلَاصِ شَتَاتًا   سَلَكْنَا بِهِ الْمَنْهَجَ الْمَسْتَبِيــــنَا

وَلَوْلَا الْتحَامُ الصُّفُوفِ وَقَانَا   لَكُنَّا سَمَاسِرَةً مُجْرِمِيــــــــــــــنَا

فَلَيْتَ فِلِسْطِينَ تَقْفُو خُطَانَا   وَتَطْوِي كَمَا قَدْ طَوَيْنَا السِّنِينَا

وَبِالْقُدْسِ تَهْتَمُّ لَا بِالْكَرَاسِي   تَمِيلُ يَسَارًا بِهَا وَيَمِيــــــــــــــــنَا

شَغَلْنَا الْوَرَى وَمَلَأْنَا الدُّنَا   بِشِعْرٍ نُرَتِّلُهُ كَالصَّـــــــــــــــــــــلَاة

تَسَابِيحُهُ منْ حَنَايَا الْجَزَائِرْ

أمّةَ الأمانة: حِفَاظًا على أمانَةِ الشّهدَاءِ، كان لِزَامًا على كُلِّ فَرْدٍ من أَفْرَادِ هذه الأمَّةِ أن يسدِّدَ ويقارِبَ، ويتحمَّلَ مسؤولياتِهِ كاملَةً، ويستشعِرَ ثِقَلَهَا، ليتشبَّهَ بهؤلاءِ الشّهدَاءِ الأخيَارِ، وإن لم يصلْ إلى درجتِهِمْ، فحافِظْ أيّها المسلِمُ على أمانَةِ الشّهيدِ، وأنت العَامِلُ في مصنعِكَ، والطّبيبُ في عيادتِكَ، والمعلِّمُ في مدرستِكَ، ورَجَلُ الأمْنِ في مخفرِكَ، والجندِيُّ في ثكنتِكَ، والسّياسِيُّ في معترَكِ سياستِكَ، والقاضِي في محكمتِكَ، والتّاجِرُ في متجرِكَ، إنّك أنت المسلم الذي أسلمت وجهَكَ للّهِ ربِّ العالمين.

فَتَشَبَّهُوا إنْ لَمْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ   إِنَّ التَّشَبُّهَ بِالرِّجَالِ فَلَاحُ

أخي المسلمَ: في أيِّ شِبْرٍ من بلادِنَا العزيزَةِ، انبذ خلافاتِكَ وراء ظهرِكَ، ولا تُقِمْ لها وَزْنًا أمامَ أخوَّةِ الإسلَامِ ولُحمَةِ الوطنِ، إنّه لا قيمة لإيديولوجيَّةٍ، أو عنصريَّةٍ، أو جهويَّةٍ، أو فِكْرٍ، أو انتمَاءٍ، أو حَسَبٍ، أو نَسَبٍ، أو لونٍ، أو عَرَضٍ من أعرَاضِ الدّنيا، أَمَامَ نَسَبِ الإسلَامِ، ورَحِمِ الإيمَانِ، ووحدَةِ التّرَابِ، والوَفَاءِ لشهدَاءِ الوطنِ.

عباد اللّه: إنّي داع فَأَمِّنُوا،

اللّهمّ لا تَدَعْ لنا في هذا المَقَامِ ذَنْبًا إلّا غفرتَهُ.

اللّهمّ ارْحَمْ شهداءَنَا، واغْفِرْ لمجاهدِينَا، واشْفِ مبتلَانَا، واقْضِ الدَّيْنَ عن مَدِينِنَا، وألْهِمْنَا مَرَاشِدَ أمورِنَا، واغْفرْ لموتَانَا.

اللّهمّ اجْعَلْ بلدَنَا آمِنًا مطمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً، وسَائِرَ بِلَادِ المسلمين.

اللّهمّ إنّا نسألُكَ الإصلَاحَ في الوَلَدِ، والعافيَةَ في الجَسَدِ، والأَمْنَ في البَلَدِ.

اللّهمّ طهّر مقدّسَاتِ المسلمين من الصَّهَايِنَةِ المعتدين.

اللّهمّ ارحمْ شهدَاءَ الأَقْصَى، وتَقَبَّلهُمْ في زمرَةِ الشّهدَاءِ، اللّهمّ أطعِمْ جائِعَهُمْ، واشْفِ مريضَهُمْ، وعَافِ مبْتَلَاهُمْ، واسْتُرْ عَارِيَهُمْ، وأَمِّنْ خَائِفَهُمْ.

ربّنا آتِنا في الدّنيا حسنَةً، وفي الآخرَةِ حسنَةً، وقنَا عذابَ النَّارِ.

وسبحانَكَ اللّهمّ وبحمدِكَ، أشهَدُ أن لا إله إلّا أنت، أستغفِرُكَ وأتُوبُ إليكَ.

للتصفح والتحميل:

جَامعُ الجزائر مركزٌ دينيّ، عِلميّ، ثقافيّ وسياحِيّ، يقعُ على تراب بلديّة المُحمَّديَّة بولاية الجزائر، وسط خليجها البحريّ. تبلغُ مساحته 300.000 متر مربّع، يضمّ مسجِدا ضخما للصّلاة، يسع لـ 32000 مصلٍ، وتصلُ طاقة استيعابِه إلى 120 ألف مصلٍ عند احتساب صحنه وباحَاته الخارجيّة.
قاعة الصّلاةِ وصحنها الفسـيح، جاءت في النّصوص القانونيّة المُنشِأة للجامع، تحتَ تسميةِ “الفضاء المسجدِيّ”.
ويضُمّ المجمّعُ هياكلَ أخرى ومرافقَ سُمّيت بالهَيئات المدمجة، ووجدت هـذه المرافق لتُساهم في ترسـيخِ قِيم الدّين الإسلاميّ من: قرآن منزّلٍ وسنّةِ مطهّرة على صاحبها أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم، وكذا للحِفاظ على المرجعيّة الدّينيّة الوطنيّة، بما يخدُم مكتسبات الأمّة ويحقّق التّواصل مع الغير.
وجامع الجزائر هـو معلم حضاريّ، بِهندسته الفَريدة، التي زَاوجـت بين عراقة العِمارة الإسلاميّة بطَابعها المغَاربيّ الأندلسيّ، وآخِر ابْتكارات الهندسة والبِناء في العالم، حيث حقّق عدّةَ أرقامٍ قيَاسيةٍ عالميةٍ في البناء.
فمن حيث الأبْعادُ الهنْدسيةُ، يُعدّ الجامع بين المساجد الأكبر والأضْخَم عبر العالم، بل هو ثالث أكبرِ مسجدٍ في العالم بعد الحرَمين الشريفَين بمكة المُكرّمَة والمدينَةِ المنوّرَة، وهو أكبر مساجد أفْريقيا على الإطلاق، فمساحة قاعة صلاته تبلغ 22 ألف متر مربع، وقُطر قبته 50 مترا، وفُرِش بـ 27 ألف متر مربع من السجّاد الفاخر المصنوعِ محليّا، وتزيَّنت الحوافّ العلويّة لجدرانه بـ 6 آلاف متر من الزّخرفة بمختلف خطوط الكتابة العربيّة.