الإحسان في رمضان
الخطبة الأولى
إنّ الحمدَ لله تبارك وتعالى، نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيّئاتِ أعمالِنَا، وأشهدُ أن لا اله إلّا الله وحده لا شريك له، كتب الإحسَانَ على كلِّ شيءٍ فَأَحْسَنَ كلَّ شيءٍ خَلَقَهُ، وأمرنا بالإحسَانِ فقال: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) [النحل: 90].
وأشهدُ أنّ سيّدنا محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، خيرُ من علّمنا الإحسَانَ في الأقوَالِ والأفعَالِ والأحوَالِ، صلّى الله عليه وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ المآلِ.
أمّا بعد، فأيّها الإخوةُ المؤمنون: لا نزالُ في مدرسَةِ الصّيامِ، ننهَلُ من معارفِهَا الرّبّانيّةِ ونتزوَّدُ من ينابِيعِ الرّحمَةِ الثَرَّةِ النَّازلَةِ فيها، ومع درسٍ جديدٍ وعمليٍّ من دروسِ رمضانَ، ألا وهو: الإحسان في شهرِ الإحسانِ.
فما الإحسَانُ؟ وما مجالاتُهُ؟ وما حظُّنَا منه في هذا الشّهرِ؟
أيّها الإخوةُ الصائمون: للإحسَانِ معنيان في القرآنِ الكريمِ والسُّنَّةِ المطهَّرَةِ.
فأمّا الأوّلُ فهو بمعنى البرِّ والجودِ والعَطَاءِ، ومنه قولُهُ تعالى: (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [القصص: 77]، ومعناه: أَحْسِنْ بالعَطَاءِ إلى المساكين وذوي الحَاجَاتِ والصِّلَةِ.
والمعنى الثّاني: الإتقانُ وتجويدُ الأعمالِ، كما قال عليه الصّلاةُ والسّلامُ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُم فَأَحْسِنُوا الذِّبحَةً، ولْيُحدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ولْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»، والمقصودُ بإحسَانِ القِتْلَةِ والذِّبْحَةِ إتقانُهَا.
ومنه قولُهُ تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السجدة: 7].
قال الإمامُ الطَبَرِيُّ رحمه الله: «أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ وَأَحْسَنَهُ».
والإحسَانُ بهذا المعنى ــ أيّها الاخوةُ المؤمنون ــ مرتَبَةٌ من مراتِبِ الدِّينِ لَا بُدَّ أن يحصِّلَهَا المسلِمُ؛ وهو جوهَرُ الإسلام كما جاء في حديثِ جبريلَ في الصّحيحِ الّذي بَيَّنَ فيه النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم مراتِبَ الدّينِ الثّلاث: الايمان والاسلام والاحسان، بيد أنّه ــ أي الإحسانَ ــ مرتبَةٌ مطلوبَةٌ في كلا المرتبتين، فالإحسَانُ مطلوبٌ في الإيمَانِ، ويكون بحُسْنِ الاعتقادِ في اللهِ تعالى، ثم التّرقِّي في مدارجِهِ إلى درجَةِ اليقينِ والمعرفَةِ.
والإحسَانُ مطلوبٌ في مرتبةِ الإسلامِ، ويكون بمباشرَةِ التّكاليفِ الشّرعيَّةِ وإيقاعِهَا على الهيئَةِ المسنونَةِ، مع مواطأة القلب للجوارحِ بتحقيقِ مقاصِدِهَا.
وهو ــ أي الإحسَان ــ مطلوبٌ في سائِرِ الأعمالِ الدّينيّةِ منها والدّنيويّةِ، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ»، وفي الحديثِ السّابقِ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ»، هذا في معنى الإحسان إجمالا، وأمّا في رمضان فيشتدُّ تأكيد الشّرع على هذا المعنى، بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، والمقصود بقوله: «إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا»، باب الإحسان، أي الإخلاص والتّجرّد في هذه الأعمالِ.
وقوله عليه الصّلاة والسّلام: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»، والمعنى أيضا هو الإحسانُ، وذلك بتحقيقِ مقاصِدِ الصّيامِ التّربويّةِ والسّلوكيّةِ بتركِ الآثامِ والفواحشِ في الأقوالِ والأفعالِ، ويجمع هذا المعنى قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك: 2].
قال القرطبي رحمه الله تعالى: «قال السُّدِّيُّ: أي أكثرُكُمْ للموتِ ذِكْرًا، وأحسنُ استعدادًا، ومنه أشدُّ خَوْفًا وَحَذَرًا».
وهذا درسٌ بليغٌ وعميقٌ لا بدّ أن نتعلّمه ــ إخوة الإيمان ــ في رمضانَ، ونستصحِبَهُ في سائِرِ الأحوالِ.
وأمّا الإحسَانُ الذي هو بمعنى البِرِّ والعَطَاءِ والجُودِ، فهو مطلُوبٌ من المسلمين في سَائِرِ أشهرِ السَّنَةِ، بل أَمَرَ به تعالى فقال: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [النحل: 90].
وجعلَهُ سَبَبًا لرحمتِهِ فقال: ( إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56].
وَوَعَدَ المحسنين بِعَدَمِ تضييعِ أعمالِهِمْ وأجورِهِمْ فقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [التوبة: 120].
وجعلهم أهلًا لمحبَّتِهِ فقال: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة: 195].
ويكافئُهُمْ من جنسِ أعمالِهِمْ بالإحسَانِ إحسَانًا يليقُ بفضلِهِ، قال تعالى: (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ) [الرحمن: 60].
وغير ذلك كثيرٌ من فضائِلِ الإحسَانِ التي تَرْبُو على الحَصْرِ.
ولمّا كان الإحسَانُ مرتبَةً جليلَةً وفضلُهُ عظيمًا في الشّرعِ الحنيفِ، كان رَمَضَانُ شهرَ الإحسَانِ، منه وفيه يَتَدَرَّبُ المسلمُ على هذه الخصلَةِ الحميدَةِ من خصَالِ الإسلامِ وخصَالِ سيِّدِ الأَنَامِ صلّى الله عليه وسلّم، كما وصفَهُ سيّدُنَا عبدُ اللهِ بنُ عبّاسٍ رضي الله عنهما كما في الصّحيحين قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ».
فهو القُدْوَةُ والأُسْوَةُ صلّى الله عليه وسلّم في هذا؛ فقد أرشدَنَا عليه الصّلاةُ والسّلامُ إلى المسارعَةِ في الخيرَاتِ والمَبَرَّاتِ في هذا الشّهرِ، كما في حديثِ سلمانَ الفارسيِّ رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في آخرِ ليلةٍ من شعبانَ فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، جَعَلَ اللَّهُ صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعًا، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ، كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ، وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ، وَشَهْرٌ يَزْدَادُ فِيهِ رِزْقُ الْمُؤْمِنِ، مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا كَانَ مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِ وَعِتْقَ رَقَبَتِهِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ، قَالُوا: لَيْسَ كُلُّنَا نَجِدُ مَا يُفَطِّرُ الصَّائِمَ، فَقَالَ: يُعْطِي اللَّهُ هَذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى تَمْرَةٍ، أَوْ شَرْبَةِ مَاءٍ، أَوْ مَذْقَةِ لَبَنٍ، وَهُوَ شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ، وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ، مَنْ خَفَّفَ عَنْ مَمْلُوكِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَأَعْتَقَهُ مِنَ النَّارِ، وَاسْتَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: خَصْلَتَيْنِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ، وَخَصْلَتَيْنِ لَا غِنًى بِكُمْ عَنْهُمَا، فَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ: فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَتَسْتَغْفِرُونَهُ، وَأَمَّا اللَّتَانِ لَا غِنًى بِكُمْ عَنْهمَا: فَتُسْأَلُونَ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَتَعُوذُونَ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ أَشْبَعَ فِيهِ صَائِمًا سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ حَوْضِي شَرْبَةً لَا يَظْمَأُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ».
فكم هي الفرصَةُ سانحة ــ أيّها الإخوة الصّائمون ــ وأنتم تستمعون إلى هذا الحديثِ، يبشّرنا بهذا الخيرِ كي نَتَعَلَّمَ المسارعَةَ إلى الخيرَاتِ، وما أكثر مجالاتِهَا، ورسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم إمامُنَا وقدوتُنَا يعدّدُ مجالاتِ الإحسَانِ بقوله: «مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ، كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ»، فَمَجَالَاتُ الإحسَانِ عندئذ واسعَةٌ ومتنوّعَةٌ، على رأسها الإحسَانُ إلى الوالدين، قال تعالى: (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا) [النساء: 36].
ومن مجالاتِهِ الإحسَانُ إلى الزّوجِ بإحسَانِ عِشْرَةِ كليهما للآخرِ، قال تعالى: (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء: 19].
وقال عليه الصّلاة والسّلام: «مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ، إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ».
ومن مجالاتِهِ، الإحسَانُ إلى الأولادِ بالنّفقَةِ والتّربيَةِ الصّالحَةِ، قال عليه الصّلاةُ والسّلامُ: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
ومن مجالاتِهِ، الإحسَانُ إلى الجيرَانِ، قال عليه الصّلاة والسّلام: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ».
ومن مجالاتِهِ، الإحسَانُ إلى سَائِرِ النّاسِ، قال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة: 83].
وقال عليه الصّلاة والسّلام: «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
ومن مجالاتِهِ، الإحسَانُ الى الحيوَانِ، فقد ورد في الحِدِيثُ «أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الجَنَّةَ فِي كَلبٍ سَقَاهُ»؛ و«أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتِ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ».
ومن مجالاتِهِ، الإحسَانُ إلى البيئةِ، قال صلّى الله عليه وسلّم: «وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ»، ونهى الإسلَامُ عن الفَسَادِ في الأرضِ، فقال تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) [الأعراف: 56].
وأقلُّ درجَاتِ الإحسَانِ كفُّ الأذى، كما في حديثِ أبي ذَرٍّ في الصّحيح، بعد أن عدّد له مجالاتِ الإحسَانِ، قال عليه الصّلاةُ والسّلامُ: «تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ»، فضلًا عن السّعي في قضاءِ حوائجِ النّاسِ، وإغاثَةِ الملهوفِ، وإطعَامِ الطَّعَامِ، والصّدقِ في التّجارَةِ، وعيادَةِ المريضِ…، فما منا من أَحَدٍ إلّا وهو في بَابٍ من أبوابِ الإحسَانِ، مطلوبٌ منه أن يُرِيَ اللهَ من نفسه خيرًا فيه.
ومجالَاتُ الإحسَانِ في النّوعِ الثّانِي تحتاج كذلك إلى تعلُّمٍ ورعايَةٍ، وهي كالآتي:
أوّلًا: إحسَانُ العلاقَةِ باللهِ، بحُسْنِ الصّلَةِ به، وحُسْنِ الاعتقادِ في أسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ وقَضَائِهِ وقَدَرِهِ.
وثانيًا: إحسَانُ العبادَةِ، وهي من حقوقِ الله على العبدِ، وذلك بإيقاعِها على الهيئَةِ الشّرعيَّةِ التي فرضَهَا اللهُ، مع الإخلاصِ والتّجرُّدِ.
وثالثًا: حُسْنُ الخُلُقِ، كما قال عليه الصّلاة والسّلام: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا، أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا».
ورابعًا: الاحسَانُ في العملِ بالإتقانِ، كما قال عليه الصّلاةُ والسّلامُ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ».
جعلني اللهُ وإيّاكم ممّن يحسنُ القولَ والعملَ، ومن الذين يستمعون القولَ فيتّبعون أحسنَهُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فيه، وأشهَدُ أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهَدُ أنّ محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللّهمّ صلّ وسلّم على هذا النبيِّ الأمينِ، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعين.
أيّها الإخوة المؤمنون: أكثرُ ما يُبتلى النّاسُ في رَمَضَانَ، غشيانُ الأسوَاقِ وما يتخلَّلُهَا من صَخَبٍ وخصومَاتٍ ومَفَاسَدَ، أو الرُّكُونُ إلى مَجَالِسِ اللَّغْوِ والتّفاهَةِ التي توفِّرُهَا وسائطُ التّواصُلِ الاجتماعي، فتضيعُ بذلك أفضَلُ الأوقَاتِ والسَّاعَاتِ، وما يترتَّبُ على ذلك من غفلَةٍ وتقصيرٍ في المسَارَعَةِ إلى الخيرَاتِ وأعمَالِ البِرِّ، وكلّ هذا وذلك غيرُ لائِقٍ بالمسلِمِ الحريصِ على دِينِهِ وخُلُقِهِ وصيامِهِ، أن يضيِّعَ فرصَةَ هذا الشّهرِ الكريمِ، فلا ينتفع منه بشيءٍ ــ لا سمح الله ــ سوى بالجوعِ والعَطَشِ نَهَارًا، والأكلِ والشّربِ آخره.
الإحسَانُ هو حَجَرُ الزّاويةِ في تعاليمِ الإسلَامِ، فمهما عملتَ من الأعمَالِ ما لم تكن محسِنًا بِإِصَابَةِ مَقْصَدِ الشّارِع، فقد تضيع عنك حقيقَةُ العبادَةِ وثوابُهَا ــ والعياذُ بالله ــ، ثم ما لم تبادِرْ إلى اعمَالِ البِرِّ، وهي كثيرَةٌ بحمدِ اللهِ، وهي مضاعفة الأجرِ بفضلِ اللهِ، فسينقضي هذا الشّهرُ وقد يُعُودُ ولا يجدُكَ مع الأحياءِ، وقد تُعُودُ إلى اللهِ ببضاعَةٍ مُزْجَاةٍ غيرِ مرضيَّةٍ، أو عَمَلٍ مردودٍ يُضرَبُ به وَجْهُ صاحبِهِ، ولا حول ولا قوّة إلّا باللهِ، فلنسارع إلى رحمَةِ اللهِ وفضلِهِ ــ قبل فواتِ الأوانِ ــ في هذا الشّهرِ، ولنتعلّم فيه فضيلَةَ الإحسَانِ في صيامِنَا وصلاتِنَا وعلاقاتِنَا وسَائِرِ أحوالِنَا، فهي خصلَةُ نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، وسِمَةُ هذه الأمّةِ، زادها الله عِزًّا وشرفًا.
اللّهمّ أصلح لنا دينَنَا الذي هو عصمَةُ أمرنا، وأصلح اللّهمّ دنيانا التي فيها معاشُنَا، وأصلح اللّهمّ آخرتنا التي إليها معادُنَا، واجعل الحيَاةَ زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ، واجعل الموتَ رَاحَةً لنا من كلِّ شَرٍّ.
للتصفح والتحميل:
خطبة الجمعة الثالثة: الإحسان في رمضان