الخطبة الأولى
الحمدُ للّهِ رفيعِ الدّرجَاتِ، قَيُّومِ الأرضِ والسَّمَاوَاتِ، المتفضِّلِ على عبادِهِ بألوَانِ الرَّحَمَاتِ والبَرَكَاتِ، شَرَعَ الشَّرَائِعَ وبعث الرُّسُلَ بالرّسالَاتِ، فأمرَهُمْ فيما أمرَهُمْ بِحِفْظِ الأمانَاتِ، ونَهَاهُمْ عن الغَدْرِ وَشَتَّى أنوَاعِ الخيانَاتِ، أحمدُهُ سبحانه وتعالى حَمْدًا يليقُ بجلَالِ وجهِهِ وعظيمِ سلطانِهِ، وأشهَدُ أن لا إله إلّا اللّهُ وحده لا شريكَ له، تعظيمًا لشانِهِ، وأشهَدُ أنّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، وصَفِيُّهُ من خلقِهِ وخليلُهُ، بَلَّغَ الرّسالَةَ، وأَدَّى الأمانَةَ، ونَصَحَ الأمَّةَ، وكَشَفَ الغُمَّةَ، ومَحَا الظُّلْمَةَ، وجاهد في اللّهِ حَقَّ جهادِهِ، تركَنَا على الواضحَةِ، ليلها كنهارها، لا يزيغُ عنها إلّا هَالِكٌ، ألا واتّقوا اللّهَ عبادَ اللّهِ، وراقبوه في الجهرِ والخلواتِ، وعظِّمُوهُ بامتثالِ الأوامِرِ واجتنَابِ المنهيَاتِ، قال اللّهُ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، ألا وإنّ أصدق الحديثِ كتابُ اللّهِ تعالى، وأحسَنَ الهَدْيِ هديُ سيّدنَا محمَّدٍ عليه الصّلاةُ والسّلامُ، وشَرَّ الأمورِ محدثاتُهَا، وكلَّ بدعَةٍ ضلالَةٌ، أمّا بعد:
فقد قال اللّهُ تعالى في مُحْكَمِ التّنزِيلِ: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب: 72].
أمّةَ الإسلام: إنّ الأمانَةَ في منظورِ الشّرْعِ بالغَةُ الأهميَّةِ، فشأنُهَا عظيمٌ، وأمرُهَا خطيرٌ، وخطْبُهَا جسيمٌ، فهي من مهمَّاتِ الأمورِ، إذ تدخُلُ في أبوابٍ شَتَّى، وتتعلَّقُ بمتعلَّقَاتٍ كثيرَةٍ، وإنّ حَصْرَ الأمانَةِ وثِقَلَهَا في حِفْظِ الودائِعِ المادِّيَّةِ فقط، لهو تَجَنٍّ سَافِرٌ على كُلِّ المعانِي الجليلَةِ الّتي تنضَوِي تحت مفهومِهَا، وتضيِيقٌ لدائرتِهَا الفسيحَةِ، وحَطٌّ من قدرِهَا العظيمِ، إذ إنَّ حقيقَةَ الأمانَةِ في مفهومِ الشّرعِ الحنيفِ أثقَلُ وأوسَعُ من أن تُحْصَرَ في حفظِ الودائِعِ والمادِّيَّاتِ.
فالأمانةُ هي الفريضَةُ التي يتواصى المسلمون برعايَتِهَا، ويستعينون باللّهِ العظيمِ على حِفْظِهَا، ويتذاكرون بها في مجالِسِهِمْ وأحاديثِهِمْ، ألمْ يؤدِّبْنَا سيِّدُ الخَلْقِ حين الهَمِّ بالسَّفَرِ أن نتواصى بها؛ فَعلَّمَنَا أن نقول: «أَسْتَوْدِعُ اللّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ»؟ ألم يصف القرآنُ المؤمنين بأنّهم حافظون لأماناتِهِمْ راعون لعهودِهِمْ: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المعارج: 32]، ألم يجعل النبيُّ عليه الصّلاةُ والسّلامُ الأمانَةَ أَمَارَةً على كَمَالِ الإيمَانِ، كما في حديثِ أنسٍ رضي اللّه عنه أنّه قال: «مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ: لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ».
قال الإمامُ الشّافعيُّ رحمَهُ اللّهُ: «لَا يَكْمُلُ الرَّجُلُ إِلَّا بِأَرْبَعٍ: بِالدِّيَانَةِ، وَالأَمَانَةِ، وَالصَّيَاَنَةِ، والرَّزَانَةِ».
أمَّةَ الأمانةِ: إنّ الأمانَةَ في مفهومِهَا الشَّرعِيِّ ترجِعُ إلى «قيامِ المَرْءِ بجميعِ المسؤوليَاتِ الملقَاةِ على عاتقِهِ في أمورِ الدّينِ والدّنيَا»، لذا نجد عبارَاتِ أهْلِ العلمِ الذين عَرَّفُوا الأمانَةَ تَصُبُّ في هذا المعنى الجليلِ، ألا وهو «القيامُ بالمسؤوليَاتِ».
ولا بأس أن نعرِّجَ على أقَوالِ سَلَفِ هذه الأمَّةِ في تعريفِهِمْ للأمانَةِ:
قال مجاهدٌ وابنُ جُبيرٍ والحسنُ البصريُّ عليهم الرّضوانُ: «إنّ الأمانةَ هي الفرائِضُ»، ويقرُبُ منه قولُ قتادةَ رحمَهُ اللّهُ: «الأَمَانَةُ هِيَ الدِّينُ وَالفَرَائضُ وَالحُدُودُ».
وروى العوفِيُّ عن حِبْرِ الأمَّةِ ابنِ عبّاسٍ رضي اللّه عنهما أنّه قال: «الأَمَانَةُ هِيَ الطَّاعَةُ، عَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجبَالِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِضَهَا عَلَى آدَمَ، فَلَمْ يُطْقْنَهَا، فَقَالَ لِآدَمَ: إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَلَمْ يُطْقْنَهَا، فَهَلْ أَنْتَ آخِذٌ بِمَا فِيهَا؟ قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَا فِيهَا؟ قَالَ: إِنْ أَحْسَنْتَ جُوزِيتَ، وإِنْ أَسَأْتَ عوقِبْتَ، فَأَخَذَ بِهَا آدَم، فَتَحَمَّلَهَا، فَذَلِكَ قُولُهُ تَعَالَى: (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب: 72]».
ومن أجمعِ ما قيل في الأمانَةِ قولُ بعضِهِمْ: «الأمانَةُ هي تحقِيقُ المسؤوليَّةِ التي أُنِيطَتْ بها حواسُ الإنسَانِ التي خَلَقَهَا اللّهُ سبحانَهُ، ليستغِلَّهَا في مرضاةِ اللّهِ وفِعْلِ الخيرِ والعمَلِ الصَّالِح، يقول عزَّ من قَائِلٍ: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا) [الإسراء: 36].
أمّةَ العلمِ والفهمِ: إنّ المتمعِّنَ في حقيقَةِ الأمانَةِ يجدهَا تدور حولَ ثلاثَةِ مَحَاوِرَ كبرَى: أمانة العبدِ مع ربِّهِ، وأمانته مع نفسِهِ التي بين جَنْبَيْهِ، وأمانته مع غيرِهِ من الخَلْقِ.
أمّا المحورُ الأوّلُ، وهو أمانَةُ الإنسَانِ مع خالقِهِ، فترجِعُ في مُجْمَلِهَا إلى حِفْظِ الإنسَانِ ما عُهِدَ إليه حفظُهُ شرعًا من امتثَالِ أوامِرِ اللّهِ، واجتنَابِ نواهيه وزواجِرِهِ في كُلِّ حركاتِهِ وسكناتِهِ، وفي خلجَاتِ قلبِهِ وتقلُّباتِهِ، وحاصلُهُ أن ينقَادَ قلبُهُ أَوَّلًا ثمّ جوارحُهُ ثانيًا لما يُرْضِي اللّهَ سبحانَهُ، إذ الفؤَادُ هو المَلِكُ، والجوارِحُ جُنْدُهُ وخَدَمُهُ، قال عليه الصّلاةُ والسّلامُ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».
وأوّلُ أمانَةٍ يُسْأَلُ عنها العبدُ تُجَاهَ خالقِهِ، هي التّحقُّقُ بالإيمَانِ الصّحيحِ، وتوحيدُهُ سبحانَهُ حَقَّ التّوحيدِ، فقد نَطَقَ القرآنُ الكريمُ بأنَّ توحيدَ الخالِقِ هو الفطرَةُ السَّويَّةُ التي أخذ اللّهُ تعالى عليها العَهْدَ والميثَاقَ من بني آدَمَ وهم في أصلَابِ أبيهِمْ آدَمَ ــ في عَالَمِ الذَّرِّ ــ فقال تعالى مؤكِّدًا خطورَةَ هذه الأمانَةِ وعِظَمَهَا (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 172].
يا أهلَ أمانَةِ التّوحيدِ: إنّ حقيقَةَ أمانَةِ الإنسَانِ مع خالقِهِ الإذعَانُ المطلَقُ لشرعِ اللّهِ، والانقيَادُ التَّامُّ لأوامرِهِ، والاعتقَادُ الجازمُ بأنّ السَّعَادَةَ في الدّارين منوطَةٌ بتطبيقِ تعاليمِ الإسلَامِ ظاهِرًا وباطِنًا، وتتويجُ كلِّ ذلك بالرِّضَا المُطْلَقِ عن اللّهِ سبحانه.
وأمّا المحورُ الثّاني، وهو أمانَةُ الإنسَانِ مع نفسِهِ فَجِمَاعُهَا أن يختَارَ الإنسَانُ ما يصلُحُ له في دينِهِ ودُنْيَاهُ؛ وينفعُهُ في عاقبتِهِ وأُخْرَاهُ، وللتّحقُّقِ بهذا النّوعِ من الأمانَةِ، تجبُ مراقبَةُ الجوارحِ حَقَّ المراقبَةِ، إذ هي التّرجمَانُ العملِيُّ لإيمَانِ العبدِ الذي وَقَرَ في القلبِ.
وفي هذا الصَّددِ يقول الإمامُ محمّدُ بنُ الفضلِ قدَّس اللّهُ سِرَّهُ: «جوارحُكَ كُلُّهَا أمانَةٌ عندك، أُمِرْتَ بكُلِّ واحدَةٍ منها بأمْرٍ، فأمانَةُ العينِ الغَضُّ عن المحارِمِ، والنَّظَرُ بالاعتبَارِ، وأمانَةُ السّمعِ صيانتُهَا عن اللَّغْوِ وفضولِ الكَلَامِ، وإحضارُهَا مجالسَ الذِّكْرِ، وأمانَةُ اللِّسَانِ اجتنَابُ الغيبَةِ والبهتَانِ ومداومَةُ الذِّكْرِ، وأمانَةُ الرِّجْلِ المشيُ إلى الطَّاعَاتِ والتباعُدُ عن المعاصي، وأمانَةُ الفَمَ ألّا يتناول به إلّا حَلَالًا، وأمانَةُ اليَدِ ألّا يمدَّهَا إلى حرامٍ، ولا يمسِكَهَا عن معروفٍ، وأمانةُ القلبِ مراعَاةُ الحَقِّ على دوَامِ الأوقَاتِ حتى لا يطالِعَ سواه، ولا يشهَدَ غيرَهُ، ولا يسْكُنَ إلَّا إليه).
أيّها المؤمنون الصّادقون: لقد ورد في الشّرعِ الحنيفِ الأمْرُ بحفظِ الجوارحِ أمرًا آكِدًا، فعلى سبيلِ المثَالِ لا الحَصْرِ، قال اللّهُ تعالى في شأنِ العَيْنِ الباصرَةِ: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) [النور: 30]؛ وقال عليه الصّلاةُ والسّلامُ: «الْعَيْنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا النَّظَرُ».
وفي شأنِ السَّمْعِ جاء في الذِّكْرِ الحكيمِ: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [النساء: 140]، وقال عليه الصّلاةُ والسّلامُ: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ».
وفي حقِّ اللّسَانِ قال اللّهُ تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]، وقال عليه الصّلاةُ والسّلامُ: «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ».
وقُلْ مثلَ ذلك في اليَدِ والرّجلِ والفَرْجِ وكُلِّ الجوارِحِ.
وممّا ينبغي التنوِيهُ به في أمانَةِ العبدِ مع نفسِهِ، أن يحفظَهَا من التَّلَفِ والعَطَبِ والهَلَاكِ، لأنّ حَيَاةَ المَرْءِ مِلْكٌ للّهِ سبحانه، وليست مِلْكًا لصاحبِهَا، فهو مُؤْتَمَنٌ عليها، قال اللّهُ تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة: 195].
أقول ما تسمعون، وأستغفرُ اللّهَ الحليمَ العظيمَ لي ولكم، ويا فوزَ المستغفرين، أستغفِرُ اللّهَ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للّهِ وَكَفَى، والصّلاةُ والسّلامُ على النبيِّ المصْطَفَى، ومن بآثَارِهِ اقتَفَى، وبعهدِ اللّهِ وَفَّى، وسَلَامٌ على عبادِهِ الذين اصْطَفَى، وبعد:
فبعد وَقْفَتِنَا مع النّوعين الأوّلِ والثّانيِ للأمانَةِ، نَصِلُ إلى المحورِ الثّالثِ، وهو أمانةُ الإنسَانِ مع الخَلْقِ، وهي النّوعُ الذي يعرفُهُ النّاسُ، ويُولُونَهُ العنايَةَ الفائقَةَ، وكأنَّ الأمانَةَ محصورَةٌ فيها، وبَابُهَا واسِعٌ جِدًا، ابتدَاءً من الودائِعِ الحقيرَةِ التي يستأمِنُ النّاسُ عليها بعضَهُمْ بعضًا، مرورًا بالأسرَارِ التي يبوحون بها لأصفيائِهِمْ وخِلَّانِهِمْ، وانتهَاءً بالمسؤوليَاتِ العامَّةِ التي تتعلَّقُ بالأمَّةِ.
أيّها المؤمن: أنت في دارِ الامتحَانِ والتّمحيصِ، وقد ائْتُمِنْتَ على أمانَاتٍ كثيرَةٍ، فهل استشعَرْتَ حَقًّا أنّ اللّهَ شهيدٌ عليك، مُحْصٍ عليك أنفاسَكَ، محيطٌ بخبيئَةِ نفسِكَ، فإذا ما تقلَّدْتَ مسؤوليَّةً؛ أو وُلِّيتَ منصِبًا؛ أو شَغَلْتَ أيّ وظيفَةٍ، فهل تستشعِرُ عِظَمَ هذه المسؤوليَاتِ؟ وهل تراقِبُ اللّهَ تعالى في حقِّهَا؟ فتعتقد اعتقَادًا جازمًا بأنّ اللّهَ ناظرُكَ، وشاهدُكَ؛ ومطَّلِعٌ على سِرِّكَ وعلانيتِكَ، فَتُوفِي الأمانَةَ حَقَّهَا، وتؤدِيَّ عَمَلَكَ على أَتَمِّ وَجْهٍ وأحسنِهِ: دون غِشٍّ أو تدليسٍ أو محابَاةٍ أو تفريطٍ أو أَخْذِ ما ليس لك بحَقٍّ: كالرِّشَى وأَكْلِ أموالِ النّاسِ بالباطِلِ، هل تَتَذَكَّرُ قولَ النبيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا»، وقولَهُ أيضًا: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
يا أمّةَ حفظِ الأمانَةِ والقيَامِ بالمسؤوليَّةِ: بالأمسِ القريبِ، احتفلَتْ الجزائِرُ بالذّكرى الوطنيَّةِ المزدوجَةِ ليومِ المجاهِدِ، وهو يومٌ من أيّامِ اللّهِ المشهودَةِ، وتذكِّرُنَا هذه المناسبَةُ الجليلَةُ بتضحيَاتِ مجاهدِينَا الأبرَارِ وشهدائِنَا الأخيَارِ، الذين سَطَّرُوا لنا ببطولاتِهِمْ أجْمَلَ ملحمَةٍ، وتركوا لنا أَثْقَلَ أَمَانَةٍ، ألا وهي أمانَةُ هذا الوَطَنِ المُفَدَّى الجزائر، بثوابتِهِ الراسخَةِ؛ وتاريخِهِ العظيمِ، وبطولاتِهِ الفَذَّةِ، ومن الوَفَاءِ بعهدِ الشّهدَاءِ والمجاهدين، أن نعمَلَ جاهدين لأجلِ الحفَاظِ على هذا الوَطَنِ من الفرقَةِ والشِّقَاقِ والتّنازُعِ، وأن نُقْبِلَ صادقين على الاستحقَاقِ الوطنِيِّ الذي تنتظرُهُ أجيَالُ المستقبَلِ، استكمَالًا لمسيرَةِ البنَاءِ والإِعْمَارِ، وقطعًا لطريقِ التّشوِيشِ والفتنَةِ التي يسعى إليها الشّانِئُونَ والحاقدون، فاعملوا جاهدين على حِفْظِ الأمانَةِ، (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُلًا) [الإسراء: 34].
عبادَ اللّه: إنّي داع فأمّنوا.
اللّهمّ لا تدع لنا في هذا المَقَامِ ذنْبًا إلّا غفرتَهُ، ولا هَمًّا إلّا فرّجتَهُ، ولا دَيْنًا إلّا قضيتَهُ، ولا مريضًا إلّا شفيتَهُ، ولا عَدُوًا إلّا خذلتَهُ وقصمتَهُ، اللّهمّ انْصُرْ من نَصَرَ الدّينَ، واخْذُلْ من خَذَلَ المسلمين.
اللّهمّ خُذْ بيدِ إخوانِنَا الفلسطينيين إلى البِرِّ والتّقوى، اللّهمّ أطْعِمْ جائِعَهُمْ، واسْتُرْ عارِيَهُمْ، وأمِّنْ خائِفَهُمْ، وتقبَّلْ شهيدَهُمْ، وانصرْهُمْ على عَدُوِّكَ وعَدُوِّهِمْ نصْرًا مُؤَزَّرًا.
اللّهمّ إنا نسألُكَ الإصلَاحَ في الوَلَدِ، والعافيَةَ في الجَسَدِ، والأَمْنَ في البَلَدِ.
اللّهمّ احفَظْ حاكِمَ البلَادِ بحفظِكَ، واكْلَأْهُ بكلاءَتِكَ، وأيّده بتأيِيدِكَ، وارزقُهُ بطانَةَ الخيرِ التي تأخُذُ بناصيتِهِ للبِرِّ والتّقوى.
ربنا آتنا في الدّنيَا حَسَنَةً، وفي الآخرَةِ حَسَنَةً، وقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وأدْخِلْنَا الجَنَّةَ مع الأبرَارِ.
وسبحانك اللّهمّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إله إلّا أنت، أستغفرُكَ، وأتوبُ إليك.
للتصفح والتحميل: