الخطبة الأولى
الحمدُ للّهِ حَمْدَ الشّاكرين، كما يُحِبُّ ربُّنَا ويرضى، والصّلاةُ والسّلامُ الأتَمَّانِ الأكملَانِ على سَيِّدِ الخَلْقِ وإمَامِ المرسلين، سيِّدِنَا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحابتِهِ أجمعين، ومن تبعهم بإحسَانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
وأوصيكم يا إخوَةَ الإيمَانِ ونفسي المذنِبَةَ بتقوى اللّهِ عَزَّ وجَلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [سورة آل عمران: 102].
أمّا بعد؛ أيّها الإخوة المؤمنون: شَرَعَ اللّهُ تعالى العبادَاتِ والأحكَامَ ليمتحِنَ صَدْقَ عبوديَّةِ المؤمنين، ومَدَى خضوعِهِمْ لأمرِهِ، قال تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [سورة العنكبوت: 3].
لقد فرضَ اللّهُ الزّكَاةَ، وهي ركنٌ من أركَانِ الإسلَامِ رَكينٌ، وفريضَةُ الزَّكَاةِ امتحَانٌ في أَشَدِّ ما يحبُّهُ الإنسَانُ، ألا وهو المال، قال تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [سورة الفجر: 20].
وكلّما كان الامتحَانُ صعبًا، كان الجَزَاءُ عليه جزيلًا، قال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة البقرة: 262].
ولِعِظَمِ شَأْنِ الزَّكَاةِ، ارْتَبَطَتْ بالصَّلَاةِ ــ الّتي هي عمودُ الدِّينِ ــ في ثمانيَةٍ وعشرين موضِعًا في القرآنِ الكريمِ، حتّى إنّ أُخُوَّةَ الدِّينِ لا تنعقِدُ إلّا بالصَّلَاةِ والزَّكَاةِ، قال تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [سورة التوبة:11].
وعلى هذا عَزَمَ سيِّدُنَا أبو بكرٍ رضي اللّه عنه على قِتَالِ مَانِعِي الزّكَاةِ وقال: «وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ».
أيّها الأخوة المؤمنون: سُمِّيَتْ الزّكَاةُ زَكَاةً، لإنّها تربيَةٌ وتهذيبٌ للنّفسِ، تخلِّصُ الإنسَانَ من شَرَهِهِ وشُحِّهِ وحُبِّهِ الطّاغِي للمالِ الذي يُؤدِّي غالِبًا إلى الطُّغيَانِ، قال تعالى: (كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [سورة العلق: 6 ــ 7]؛ وسَبَبُ الطُّغيَانِ في العَالَمِ غالِبًا هو الثّرَاءُ الفاحشُ والرّغبَةُ الجامحَةُ في التّحكُّمِ في المَوَارِدِ على حسَابِ الضّعفَاءِ، ومنع الحقوقِ وانتهابِهَا؛ وهو ما يشيعُ الطبقيَّةَ والحِقْدَ الاجتماعِيَّ؛ ويكون سَبَبًا في النّزاعَاتِ والاضطرَابَاتِ.
والمشكِلَةُ ليست في الغِنَى، بل هي مشكلَةُ الشَّرَهِ والطَّمَعِ في المزيدِ؛ والشُّحِّ الّذي يُحَوِّلُ المَالَ إلى أَدَاةٍ للظّلمِ والعدوَانِ، ومَنْعًا لهذا الطّغيَانِ قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [سورة التوبة: 103].
إنّ الزّكَاةَ كسائِرِ العبادَاتِ لا تَخْلُو من المَقَاصِدِ التّربويَّةِ، بل إنّها تُنَمِّي في الإنسَانِ قِيَمَ العطَاءِ والبَذْلِ والسَّمَاحَةِ وحُبِّ الخيرِ وإيصالِهِ للغيرِ.
عبادَ اللّه: من أهمِّ آثَارِ الزَّكَاةِ في المجتمَعِ المسلمِ: التَّكَافُلُ والتَّعَاوُنُ، الذي هو قيمَةٌ إسلاميَّةٌ أصيلَةٌ، ومقصدٌ من مَقَاصِدِ الشّريعَةِ، كرَّسَتْهَا في ركنِ الزَّكَاةِ.
ومن عدالَةِ التشريعِ الإسلَامِيِّ، أنّ الشّارِعَ الحكيمَ جعلها حَقًّا للفقيرِ والمحتَاجِ وواجبًا على الغنِيِّ، حتّى لا تكون مِنَّةً منه؛ ولا يكون فيها إغضَاءٌ من شأنِ آخِذِهَا، قال تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [سورة الذاريات: 19].
ومن جِهَةٍ أخرى، جَرَّمَ منعَهَا وحَبْسَهَا أو تأخيرَهَا، ورَتَّبَ على ذلك العِقَابَ الدّنيوِيَّ، فقال النّبيُّ عليه الصّلاةُ والسّلامُ تعزِيرًا لمانعِيهَا: «وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ، لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ».
وقال تعالى في حَقِّ مَانِعِيهَا: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [سورة التوبة: 34].
والتَّكَافُلُ في الإسلَامِ ــ يا عبَادَ اللّهِ ــ ليسَ مجرَّدَ شِعَارٍ أخلاقِيٍّ معنوِيٍّ متروكٍ للأفرَادِ على قدرِ إيمانِهِمْ وقناعاتِهِمْ، بل هو رُكْنٌ أساسِيٌّ من أركَانِ استقرَارِ المجتمَعِ وتوازنِهِ، وكَفِيلٌ بأن يُزِيلَ الفوارِقَ الطّبقيَّةَ أو يُقَلِّصَ من حجمِهَا ــ على الاقَلِ ــ، ركنٌ تفرِضُهُ أحكَامُ الشّريعَةِ وتحمِيهِ بسلطَةِ الدّولَةِ؛ وهذا ولا ريب من أَهَمِّ وسائِلِ تحقيقِ الأمْنِ الاجتماعِيِّ.
ومن آثارِ الزّكاةِ في المجتمَعِ أيضًا، إشاعَةُ المودّةِ والتّراحُمِ في المجتمَعِ، وَهُوَ مَعْنًى عظيمٌ في الإسلَامِ لطالما دعت إليه الشّريعَةُ من خلَالِ الأمْرِ برعايَةِ الضّعفَاءِ والتَّقَرُّبِ منهم ومحبّتِهِمْ وسَدِّ خُلَّتِهِمْ، قال عليه الصّلاةُ والسّلامُ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».
فليست الزّكاةُ في الإسلَامِ مجرَّدَ ضريبَةٍ ماليَّةٍ جافَّةٍ كَحَالِ الضَّرَائِبِ والمكوسِ، بل هي فوق كونِهَا عبادَةً، معاملَةٌ أخلاقيَّةٌ إيمانيَّةٌ ذاتُ آثَارٍ اجتماعيَّةٍ، يَتَرَتَّبُ عليها نزولُ الرّحمَةِ على المُزَكِّي، حيث قال سبحانَهُ وتعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) [سورة الأعراف: 156]؛ ومن ناحيَةِ تحقُّقِ المودَّةِ بين الغنِيِّ والفقيرِ الذي يدعو بدورِهِ لصاحبِهِ الغَنِيِّ بالنَّمَاءِ والبَرَكَةِ، بَدَلَ أن يحسدَهُ ويحقِدَ عليه حَالَ المَنْعِ والشُّحِّ، وهكذا يمكن بالنَّظَرِ في مَصَارِفِ الزَّكَاةِ، اكتشَافُ الأبعَادِ الاجتماعيَّةِ والاقتصاديَّةِ التي رَعَتْهَا الشّريعَةُ في شعيرَةِ الزَّكَاةِ على سبيلِ الاختصَارِ؛ وكُلُّ مصرِفٍ هو عنوَانٌ لسَدِّ ثغرَةٍ في مَجَالٍ من مَجَالَاتِ الحيَاةِ، في قولِهِ تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [سورة التوبة: 60].
فالأوّلُ: وهو مصرفُ الفقرَاءِ، يظهَر فيه معالجَة الشّريعَةِ لمشكلَةِ الفقرِ التي هي من أخطَرِ مشاكِلِ الدّوَلِ والمجتمعَاتِ؛ الأمنيَّةِ والاقتصاديَّةِ بالنَّظَرِ إلى تعريفِ الفقرِ في الشّريعَةِ وتقديمهم على اعتبَارِ أنّهم الشريحَةُ الأكثَرُ اتّسَاعًا.
والثّاني: وهو مصرفُ المساكين، باعتبارِ المتسولين الطبقة الأكثر هَشَاشَةً في المجتمَعِ، ترعَاهُمْ الزَكَاةُ وتسعى إلى تقليصِ دائرتِهِمْ.
والثّالث: وهو مصرفُ العاملين عليها، وفيه تأسيسٌ وحمايَةٌ لمؤسّسَةِ الزَّكَاةِ التي تقوم عليها عمليَةُ جمعِ الزَّكَاةِ وتوزيعِهَا.
والرّابع: وهو مصرفُ المؤلّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وهم الطّبقَةُ الأضعَفُ في نسيجِ المجتمَعِ، وهم الوافدون الجُدُدُ، من حيث إنّهم حديثو عهدٍ بالإسلَامِ، ويسهُلُ اخترَاقُ المجتمَعِ من خلالِهِمْ، لكونِهِمْ أعيانًا في أقوامِهِمْ، ففي المصرفِ حمايَةٌ ــ من التّصدُّعِ ــ للنّسيجِ الاجتماعِيِّ وللأمْنِ القومِيِّ.
والخامسُ: مصرفُ في الرِّقَابِ، وبه يتمُّ القَضَاءُ على الرِّقِّ، وهو أصلٌ إسلاميٌّ أسّست الشّريعة لتقليصِهِ والقضاءِ عليه، وهو ما حصل بحمدِ اللّهِ وتوفيقِهِ.
والسّادسُ: مصرفُ الغارمين، وفيه حَلٌّ لمشكلَةِ الدَّيْنِ الذي تستغلِّهُ مؤسَّسَةُ الرِّبَا، لإغرَاقِ المجتمعَاتِ وإذلَالِهَا والتَّحَكّمِ في قَرَارِهَا.
والسّابعُ: مصرفُ في سبيلِ اللّهِ، وفيه تقويَة للعَمَلِ الخيرِيِّ العَامِّ الذي يَسُدُّ ثغرَةً مهمَّةً في كيَانِ الأُمَّةِ، ويُحَدَّدُ حَسَبَ تقديرِ أوليَاءِ الأمورِ.
والثّامنُ: مصرفُ ابنِ السّبيلِ، وفيه توفيرُ مَأْمَنٍ للّاجئين والمهاجرين وحمايتُهُم من الاستغلَالِ والتّجنيدِ لتغذيَةِ الحُرُوبِ والنّزاعَاتِ.
إخوةَ الايمان: أمّا عن مَقَاصِدِ الزَّكَاةِ الاقتصاديَّةِ، فلعلّ من أوضحِهَا القَضَاءُ على مشكلَةِ الفقرِ، التي هي معضلَةُ الدُّوَلِ في كُلِّ زَمَانٍ، وما تخلّفُهُ هذه المشكلَةُ من آثارٍ سيّئَةٍ اجتماعِيًّا واقتصاديًّا وأمنِيًّا، فمن مقاصِدِ الزّكاةِ حمايَةُ الطّبقَاتِ الهَشَّةِ؛ على اعتبَارِ أنّ الفقيرَ في الفقهِ، هو من لا يتوفَّرُ على ما يَسُدُّ حاجياتِهِ الأصليَّةَ في يومِهِ أو سَنَتِهِ؛ وهو الحلقَةُ الأضعَفُ في المجتمَعِ اقتصادَيًّا، والفقرَاءُ هم الطّبقَةُ الأوسَعُ حتّى في المجتمعَاتِ المتقدّمَةِ، فالقَضَاءُ على الفقرِ يحتاجُ إلى ميزانيَاتٍ ضخمَةٍ لا تُوَفِّيهَا مَوَارِدُ الدُّوَلِ ولا حتّى الضّرائب؛ فتأتي الزَّكَاةُ التي هي وِعَاءٌ مَالِيٌّ واقتصادِيٌّ معتبَرٌ، يَسُدُّ خَلَّةَ الفقرِ الّتي هي في اتّسَاعٍ دَائمٍ، ويقلِّلُ من دائرتِهِ وآثارِهِ الجانبيَّةِ؛ ومشكلَةُ الفقرِ مرتبطَةٌ أَسَاسًا بمشكلَةِ الدَّيْنِ الذي هو معضلَةٌ اقتصاديَّةٌ تُسَبِّبُ إفلَاسَ الدُّوَلِ فَضْلًا عن الأفرَادِ الذين يشكّلون في الأخيرِ عِبْئًا على الدّولَةِ والمجتمَعِ، ولذلك كان في الزَّكَاةِ مصرفُ الغارمين، وهذا من إعجَازِ التّشريعِ الإسلَامِيِّ وتقدُّمِهِ في تأمينِ الحلولِ الاقتصاديَّةِ واستشراف المشكلَاتِ؛ قبل أن تَتَفَاقَمَ مشكلَةُ الفقرِ والدَّينِ في عَالَمِ اليومِ؛ وما تعانِيهِ اقتصادَاتُ الدُّوَلِ جَرَّاءَ ذلك من ضعفٍ للقدرَةِ الشّرائيَّةِ وتَضَخُّمٍ بسببِ تَرَاكُمِ الدّيونِ والقروضِ وأعبَاءِ القروضِ.
فلو أنّ الزَّكَاةَ تنتظِمُ ضمن مؤسَّسَةٍ رسميَّةٍ وتؤدِّي دورَهَا الذي شُرِعَتْ لأجلِهِ على النّحوِ الصّحيحِ، لحُلَّتْ كثيرٌ من مشكلَاتِ الفقرِ والمديونيَّةِ وتبعاتِهَا الاقتصاديَّةِ السيّئَةِ، سواءٌ بالنّسبَةِ للأفرادِ أو الدُّوَلِ، فشعيرَةُ الزَّكَاةِ هي رحمَةٌ من اللّهِ سبحانه وتعالى للمعوزين من الفقرِ، وهي رحمَةٌ أيضًا لدُوَلٍ يشكِّلُ الفقرُ عِبْئًا على كواهِلِهِمْ تنُوءُ بحملِهِ.
فنسألُ اللّهَ سبحانه وتعالى أن يوفِّقَنَا جميعًا لأدَاءِ الحُقُوقِ ونعوذُ به سبحانه من الشُّحِّ والبخلِ وغلبَةِ الدَّينِ وقَهْرِ الرِّجَالِ.
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللّهَ العظيمَ لي ولكم من كُلِّ ذنبٍ، فاستغفروه تجدوه غفورًا رحيمًا.
الخطبة الثانية
الحمدُ للّهِ الذي يقبَلُ التّوبَةَ عن عبادِهِ، ويَعفُو عن السّيئَاتِ، ويَعلَمُ ما تفعلون، ويستجيبُ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحَاتِ ويزيدهُمُ من فضلِهِ، والكافرون لهم عَذَابٌ شديدٌ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلّا اللّهُ وحدهُ لا شريك لهُ، وأشهدُ أنّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللّهمّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على سيِّدِنَا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحابتِهِ أجمعين؛ أمّا بعد:
أيّها الأخوة الأفاضل: إنّ من مَقَاصِدِ الزَّكَاةِ الاقتصاديَّةِ، توزيعُ الثّروَةِ بين النَّاسِ، قال تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [سورة الحشر: 7]، وذلك من خلَالِ ضَمَانِ سُيُولَةِ رأسِ المَالِ ووفرتِهِ وعَدَمِ حبسِهِ ومنعِ احتكارِهِ،ِ ومع ذلك فليست الزَّكَاةُ للعاطلين والمتبطّلين من القادرين على الكَسْبِ والعَمَلِ، قال عليه الصّلاةُ والسّلامُ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ»، ولهذا حَذَّرَتْ الشّريعَةُ من لا يستحِقُّ الزَّكَاةَ مِنْ أخذِهِا بالتَّظَاهُرِ بالمسكنَةِ أو التّحايُلِ، فقد بيّن الاسلَامُ أن آخِذَ الزَّكَاةِ وهو ليس بمستحِقٍّ لها، أنّها له سُحْتٌ يأخذُهُ، ففي صحيحِ مسلِمٍ أنّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ــ أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ ــ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ــ أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ ــ، فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا».
ولهذا شَجَّعَتْ الشّريعَةُ على الكَسْبِ الحَلَالِ، والإنْفَاقِ والعَطَاءِ، قال صلّى اللّه عليه وسلّم: «لَأَنْ يَحْمِلَ الرَّجُلُ حَبْلًا فَيَحْتَطِبَ، ثُمَّ يَجِيءَ فَيَضَعَهُ فِي السُّوقِ فَيَبِيعَهُ، ثُمَّ يَسْتَغْنِيَ بِهِ فَيُنْفِقَهُ عَلَى نَفْسِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ»، ورَتَّبَتْ على البَذْلِ والعَطَاءِ الأُجُورَ الكبيرَةَ، حتّى قال الفقرَاءُ للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ».
وقال أيضًا: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى»، كُلُّ ذلك تشجِيعٌ على التَّعَفُّفِ عن السُّؤَالِ، وتحفِيزٌ للقادرين على العَمَلِ، حتّى يكُونُوا مُنْفِقِينَ مُزَكِّينَ مُدِرِّين للثّروَةِ، ما يعودُ بالخيرِ والنّفعِ على البلادِ والعبادِ، وقد قال صلّى اللّه عليه وسلّم مبشِّرًا المنفقين: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا».
الدّعاء.
للتصفح والتحميل: