Scroll Top

خطبة عيد الفطر الّتي ألقاها العميد الشيخ محمّد المأمون القاسمي الحسني

خطبة عيد الفطر الّتي ألقاها العميد الشيخ محمّد المأمون القاسمي الحسني

بسم الله الرحمن الرحيم
الله أكبر (سبعا). الله أكبر ما أهلّ هلال العيد يسبّح بحمد الله، وهو الحميد المجيد. الله أكبر ما أشرقت بأنوار الطاعة القلوب والجباه. الله أكبر ما تعطّرت بنشر الذكر المجالس والأفواه. الله أكبر ما توجّه مؤمن إلى مولاه، بقلب مخلص وضمير أوّاه، وكرّر في سرّه ونجواه: الله أكبر.
الله أكبر (خمسا). الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا.سبحان ذي الملك والملكوت. سبحان ذي العزّة والجبروت. سبحان الحيّ الذي لا يموت. سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلاّ الله والله أكبر.
الحمد لله الذي جعل خاتمة الطاعة عيدا؛ وفضّل الأمّة المحمّدية على سائر الأمم كرما منه وفضلا وتأييدا. نحمده حمدا خالصا موصولا. ونسأله أن يكون لديه رضيّا مقبولا. ونشكره سبحانه على نعمة التوفيق في كلّ لحظة ويوم، وعلى ما تنزّل من موائد كرمه في شهر الصوم. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شهادة من أخلص لله القول والعمل؛ ورزق التوفيق في العبادة، فطرح دواعي التخاذل والكسل. اللهمّ ثبّتنا على كلمة التوحيد دوما. واجزنا عمّا قمنا به من صالح الأعمال، صلاة وذكرا وصدقة وصوما. اللهمّ اجعل الشهادة خاتمة قولنا في الدنيا الفانية؛ وعمدتنا للفوز بالحياة الخالدة الباقية.
أمّا بعد؛ فيا أيّها الإخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ. فإنّها العماد، وإنّها نعم الزاد. فاتّقوا الله واشكروه على ما منّ به عليكم من بلوغ شهر رمضان وإكمال صيامه. وادعوه أن يتقبّل منكم ما قدّمتموه من الطاعات والقربات في أيامه. اسألوه أن يتقبّل منكم ما قدّمتم فيه من الصيام والقيام، وادعوه أن يغفر لكم ما حصل منكم فيه من تقصير أو تفريط أو إحجام. لقد كانت أوقاته ميدانا للتنافس في الخيرات، والتزوّد من الباقيات الصالحات. اجتهد فيه عباد لله، جعلوا رضاء ربّهم فوق أهوائهم، وطاعته فوق ميولهم ورغباتهم. اغتنموا موسم الخير فعظُم في الله رجاؤهم، وتعلّقت برحمته وفضله آمالهم. وقصّر أقوام آخرون فأضاعوا أوقاتهم، وخسروا أعمالهم. ماحجبهم إلاّ الإهمال والكسل، وما أقعدهم إلاّ التسويف وطول الأمل؛ فكانوا من رحمة الله محرومين، وعن جنابه مبعدين؛ كما أخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنّ جبريل، عليه السلام، قال له: “ومن أدركه شهر رمضان فلم يغفر له، فمات، فدخل النّار، فأبعده الله. قل آمين. فقلت آمين”
الله أكبر (ثلاثا) عباد الله.
إنّ هذا اليوم يوم الجائزة. والسعيد فيه من فاز بقبول صيامه وقيامه، ورجع من مصلاه بجائزة ربّه وإكرامه. إنّه يوم عيد مشهود، يفرح فيه المؤمنون، ويتبادلون فيه التهاني والتحايا، وتعمّ الفرحة البيوت، ويعطى الأطفال فرصتهم كي يظهروا فرحهم، إيناسا لهم بالجوّ الإيماني في يوم العيد.
لقد سميّ هذا اليوم عيدا لأنّه يعود ويتكرّر بالفرح والسرور بما يسّر الله قبله من عبادة الصيام؛ ولأنّ الله يعود فيه على عباده بالإحسان، والعتق من النيران. يعود في كلّ عام، والثقة بالعودة المتكرّرة تجدّد في الإنسان الأمل، وتوحي إليه بتكرار المعاودة لتحقيق ما يؤمن به من مبادئ، وبلوغ ما ينشده من أهداف في الحياة. فكلّما عاود الإنسان عملا ونجح فيه، جاء إليه عيد يستريح عنده ويسعد فيه؛ ثم يعاود القيام بواجبه، ويعود إلى المسعى في مسالك الحياة. وهكذا دواليك.. عيد يقبل بالفرحة والسرور، بعد طاعة واجتهاد؛ ثم عودة من الإنسان إلى عمل موفّق يعقبه عيد بهيج. وهذه المعاودة في حياة الفرد والجماعة هي التي تكوّن العادة. والعادة تقارب الطبيعة؛ كما يقول أحدهم في معناه:
تعوّد صالح الأعمال إنّي رأيت المرء يألف ما استعاد
إنّ هذا ما نريد لأمّتنا أن تكون عليه في أعيادها؛ تفرح فيها، وتسعد بعودتها؛ ولكنّها بعدها تعود إلى السعي وحسن العمل، مع عمق الرجاء وقوّة الأمل. نريد لأمّتنا أن تكون عاملة مجتهدة منتجة؛ يتعاون أبناؤها على البرّ والتقوى، ولا يتعاونون على الإثم والعدوان. يتساوون في مجال الحقوق والواجبات؛ كلّ يبذل طاقته؛ وكلّ يأخذ حقّه وحاجته؛ وأساس التقدير والتقديم فيهم: الاستقامة في السلوك، والاجتهاد في السعي والإخلاص في العمل. “إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم”…
إخوة الإيمان
إنّ عيدنا اليوم يأتي، وقد حقّقت الجزائر، بفضل الله، إنجازا حضاريّا عظيما، بعمارتها جامع الجزائر، الصرح الدينيّ الشامخ، الّذي تزدان به الحواضر العلمية في بلادنا وفي أقطار العالم، ليكون، بحول الله، الجامع لأبناء الجزائر، والحصن المنيع لمرجعية دينية أصيلة، تتميّز بالشمولية والوسطية والاعتدال، وكانت لشعبنا، عبر العصور والأجيال، الحصانة الذاتية من الغلوّ في الدين، ومن كلّ زيغ أو ضلال. وقد منّ الله علينا، بعد افتتاح “الجامع” من قِبَل السيّد رئيس الجمهورية، أن صلّينا فيه أوّل جمعة، وأقمنا صلاة التراويح، في الشهر الكريم؛ ونشهد فيه اليوم، بفضل الله، أوّل صلاة للعيد. وفي هذه المناسبات، حضر إلى رحابه الآلاف من المؤمنين والمؤمنات، والحمد لله. له المنّة ومنه الفضل والمكرمات.
الله أكبر (ثلاثا) الله أكبر ولله الحمد،
يأتي العيد اليوم، بعد شهر الصيام والقيام، وبعد أن امتدّت الأيدي المؤمنة الطاهرة بنفحة الزكاة الخيّرة الطاهرة، لتكون تعبيرا عن التضامن والتكافل الاجتماعي، الذي أراده الله لأمّة، هي خير أمّة أخرجت للناس، كما جاء في كلام ربّنا، في وحي يتلى وخبر لا يتخلّف. وهي خيرية محفوظة للأمّة، ما استقامت على الطريقة، واستكملت شروط المهمّة. إنّها خيرية ووسطية في أمّة مقصدها وغايتها إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. وخيرية الأمّة ووسطيتها تتأكّد في دينها الكامل الخاتم؛ فليس لها رصيد غيره؛ وليس لها قيام بدونه. وفي الإسلام تلازم وثيق بين العقائد والعبادات، وبين السلوك والمعاملات، وهو يتناول حياة الفرد والأسرة والمجتمع، ويحيط بها من جميع جوانبها:{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}الأنعام162. إنّه تلازم يوجب على المسلمين أن يأخذوا بالدّين كلّه. فهو كلّ لا يتجزّأ.{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }البقرة85.
إنّ الأمّة لم تؤت إلاّ من أناس ظنّوا أنّ الدين مقصور على علاقة العبد بربّه؛ ولا صلة له بالمجتمع ولا بالحياة.. ومن ظنّ أنّ غير الإسلام أقرب إلى الحقّ، أو أدنى إلى العدل، أو أحفظ للمصلحة، فقد ضلّ سواء السبيل.
إنّ ما يعوق الأمّة المحمّدية، وما يحيق بها من بلاء: مردّه إلى أنّها، في كثير من مواطنها وأوضاعها، اختارت غير ما اختار الله؛ واصطبغت بغير صبغة الله؛ ودانت بمذاهب على غير نهج الله، فاختلطت عليها السبل، وتفرّقت شيعا وأحزابا. وما أحوج الأمّة، في أيام محنتها، وأوقات شدائدها، إلى وقفات عند مناسباتها، وفي أيام أعيادها؛ تستلهم الدروس والعبر؛ ويتجدّد فيها العزم على المجاهدة الحقّة، بالتصدّي لكلّ انحراف وضلال، ومحاربة كلّ بغي وطغيان وفساد.
إنّ على المسلمين اليوم، وبين أيديهم كتاب ربّهم وسنّة نبيّهم، صلّى الله عليه وسلم، أن يراجعوا أوضاعهم، وينظروا في سنن الله وفي أحوال من كان قبلهم، وأحوال الناس من حولهم. إنّ ما حصل في الماضي، ويتكرّر اليوم في العالم من أزمات وآفات سببه اختلال الميزان، والتعاون على الإثم والعدوان. سببه مخالفة شرع الله والإعراض عن ذكر الله. وقد جرّب المسلمون، في كثير من الأقطار، مناهج ومذاهب استوردوها؛ فلم يصحّ لهم منها شيء؛ ولم تغنهم، لا قليلا ولا فتيلا؛ بل كانت كلها طريقا إلى التمزّق والهوان والدمار. وحريّ بالأمّة، وهي تعيش خضمّ الأحداث ومتغيّرات الأيام، أن تتحسّس موقعها، وتتلمس دربها، وتختار طريقها؛ وأن تبدأ خطواتها الأولى، بالعودة إلى الله، والتمسّك بدينه الحنيف. فلا منقذ لها غيره، ولا عاصم لها سواه. وإذا رامت إصلاحا ينبغي أن تتصالح أوّلا مع الذات، فتبدأ من الداخل، بالعمل لإيقاف التمزيق الفكري، والقضاء على الانهزام النفسي، ومقاومة الاستلاب والاغتراب الثقافي. ينبغي للإصلاحات في بلاد المسلمين أن تكون غايتها الكبرى أن تزول مظالم، وتعتدل موازين، وأن يحيا معدمون، ويرتدع مفسدون. وأن يتعاون أقوياء وضعفاء، ويتشارك عباد الله في خيرات الله، مع تقوية حوافز الكسب الذاتية، وتزكية الصبغة الجماعية، في ظلال الإخاء والمحبّة والعدالة الاجتماعية. ولن يحدث ذلك إلّا بالاستمساك بكتاب الله وسنّة رسول الله، عليه الصلاة والسلام، القائل: “تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: كتاب الله وسنّتي”.
إنّ على الذين يؤمنون بالإسلام وعدالته اللّجوء إلى حصنه المنيع، والاعتصام بحبله المتين؛ والعمل لتثبيت أركان دولة العدل والحقّ، العدل في القضاء، والعدل الاجتماعيّ، الّذي ينال في ظلاله كلّ فرد حقّه، ويجد فرصته وحظّه؛ ويكون فيه القويّ الباغي ضعيفا حتى يؤخذ منه الحقّ؛ والضعيف المظلوم قويّا حتّى يؤخذ له الحقّ؛ كما قال سيّدنا أبو بكر الصديق، رضي الله عنه. واسمعوا إلى قول أمير المؤمنين سيّدنا عمر بن الخطاب، عليه من الله الرضوان، الذي قال قولا سديدا:﴿لو عثرت دابّة بشط الفرات، لخشيت أن أسأل عنها يوم القيامة: لماذا لم أمهّد لها الطريق﴾. وسار على نهجه سيّدنا عمر بن عبد العزيز، الّذي بكى ذات يوم، فسألته زوجته عن سبب بكائه، فقال:﴿إنّي نظرت إلى نفسي، فوجدتني قد ولّيت أمر هذه الأمّة، صغيرها وكبيرها، وأسودها وأحمرها؛ ثم ذكرت الغريب الضائع، والفقير المحتاج، وأشباههم في أقاصي البلاد وأطراف الأرض؛ فعلمت أنّ الله تعالى سائلي عنهم، وأنّ محمّدا، صلّى الله عليه وسلّم، حجيجي فيهم؛ فخفت ألاّ يثبت لي عند الله تعالى عذر؛ وأن لا تقوم لي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حجّة؛ فخفت على نفسي خوفا دمعت له عيني.﴾. رضي الله عن خامس الخلفاء الراشدين.
الله أكبر (ثلاثا) عباد الله
إنّ مجتمعاتنا اليوم تعيش أزمات جمّة، لأنّها تركت اتباع الحقّ، وتحقيق العدل. وهذه سنة الله في خلقه. لأنّ من ترك الحقّ ابتلي بالباطل. والله تعالى يقول:”فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ”[يونس.32].
إنّ الدعوة إلى دين الله، وردّ الأمّة إلى جادة الحقّ مسؤولية كبرى يتحمّلها العلماء والدعاة والمربون، وأولياء الأمور. فليكن كتاب الله خير مابه نعتصم، وخير ما إليه نعود. كتاب الله الّذي نستمدّ منه، نحن المسلمين، مراجعنا في جميع مجالات الحياة، فنستلهم منه حلول مشكلاتنا، ونلتزم نهجه عندما تختلط السبل، وتُفتقد الرؤية الصحيحة. إنّ أمّتنا اليوم أحوج ما تكون إلى الممارسة الواعية لمنهج التلقّي من كتاب الله، وسنّة رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وحسن تمثّل المنهاج القرآني في الإصلاح التربوي والاجتماعي، وفي مشروع الإقلاع الحضاري.
إنّ أمّة الإسلام تتبوّأ مكانتها المستحقّة في الحياة، حين تعتني ببناء الفرد المسلم، الّذي يحسن فهم دينه ويحسن العمل به. بناء الإنسان السويّ المتوازن، الّذي يؤمن بانتمائه الإسلامي الواحد، ينبذ الغلوّ والتطرّف، ويكره العصبية، ويرفض كلّ دعوة للتجزئة والطائفية. الإنسان الذي يعكس في أخلاقه ورؤيته في الحياة هدي القرآن، ويتمثّله في سلوكه وعمله؛ فيكون احترام الوقت وإتقان العمل من عاداته، وجزءا لا يتجزّأ من يومياته. ويكون القانون والنظام عنده بمثابة عقد اجتماعيّ، يحرص عليه كما يحرص على أبنائه؛ يقدّم مصلحة الأمّة، وتكون لديه فوق أيّ اعتبار. ولا يتسنّى ذلك إلّا حين تتمسّك الأمّة بمبادئها وثوابتها وتأخذ بأسباب التغيير، وتعتني بالتربية قبل التعليم، وتلتمس العلم النافع، وتجتهد في العمل الصالح، وتوجّه أكبر عنايتها لإقامة ميزان الحقّ الّذي لا يشوبه باطل، ميزان الهدى الّذي لا يغشّيه ضلال. وإنّما يكون لها ذلك، بحفظ حقوق شعوبها، والدفاع عن قضاياها المصيرية، وتعزيز عوامل الوحدة، ونبذ الفرقة والنزاع، والعمل لتثبيت أركان السلم وتحقيق الازدهار.
فهل من عودة إلى منهج الله؛ يا عباد الله. وهل من أوبة إلى صراطه المستقيم! ألا فليحاسب كلّ منّا نفسه عمّا قدّم، وعن مقدار وفائه لمقتضى إيمانه. ليحاول كلّ منا أن يصلح نفسه، ومن حوله. عسى الله أن يحوّل حالنا إلى ما هو خير وأزكى، ويأخذ بنواصينا للبرّ والتقوى. سدّد الله الخطا، وبارك في الجهود والعطا؛ وتقبّل من الجميع صالح الأقوال والأعمال؛ وغفر الذنوب، وستر العيوب. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم.

الخطبة الثانية.
الله أكبر (سبعا) الله أكبر خلق الخلق وأحصاهم عددا وكلّهم آتيه يوم القيامة فردا. الله أكبر عزّ سلطان ربّنا وعمّ إحسان مولانا، خلق الجنّ والإنس لعبادته، وعنت الوجوه لعظمته، وخضعت الخلائق لقدرته. الله أكبر ما ذكره الذاكرون الله أكبر ما هلّل المهلّلون وكبّر المكبّرون. الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا.
الحمد لله الذي يسّر لعباده طريق العبادة وجعل لهم عيدا يعود عليهم بعد إكمال صيامهم ويتكرّر. أحمده وهو أحقّ أن يحمد ويشكر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يأمن من قالها وعمل بمقتضاها يوم الفزع الأكبر. وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدا صاحب المقام المحمود والكوثر، صلى الله عليه وسلم، تسليما كثيرا إلى يوم البعث والمحشر.
عباد الله: إنّ من مظاهر الإحسان، بعد رمضان، الإحسان في العيد. ومن أراد أن ينظر إلى أخلاق الأمّة فليراقبها في أعيادها، حيث تنطلق السجايا على فطرتها، وتظهر العادات على حقيقتها. والمجتمع السعيد الصالح من تسمو أخلاقه في العيد؛ وتبرز فيه مشاعر الإخاء؛ فيبدو المجتمع في العيد متماسكا متعاونا متراحما؛ تخفق فيه القلوب بالحب والصفاء؛ ويكون العيد مناسبة لتوثيق أواصر الرحم في الأقرباء، وتعزيز روابط المحبّة مع الإخوان والأصدقاء؛ حيث تعلو البسمة الشفاه، وتغمر الفرحة النفوس؛ فتتقارب القلوب على التسامح والمودّة، وتألف بروح الأخوّة، أخوّة الإسلام التي تقتضي أن يغفر المسلم لأخيه، ويصفح عمّا بدر منه من زلاّت. ألا تحبون أن يغفر الله لكم. فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ﴿تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا؛ إلاّ رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا﴾.
الله أكبر (ثلاثا) عباد الله
إنّه لحقّ على كلّ ذي نعمة ممّن صام وقام أن يتذكّر إخوانه المسلمين المستضعفين. فكم هو جميل أن تظهر أعياد الأمّة بمظهر الواعي لأحوال الأمّة وقضاياها الكبرى. والفرح بالعيد لا ينبغي أن يحول دون الشعور بالمصائب والمآسي الّتي تعانيها كثير من مجتمعاتها. فمن كان آمنا في سربه، قد طاب عيشه واجتمع شمله، حقّ عليه أن يحمد الله ويشكره، ويعرف لربّه فضله ونعمته. عليه أن يستشعر هموم إخوانه المسلمين، ويتأمل أحوالهم، وينظر في سوء أوضاعهم. فكم فيهم من فقراء يعيشون تحت وطأة البؤس والشقاء، وهموم الفاقة والحاجة، وقساوة التهجير والتشريد. فيهم ذوو الحاجات لا مورد لهم. فيهم أرامل لا عائل لهنّ، وأيتام لا آباء لهم، وفيهم مهجّرون ومشرّدون لا وطن لهم. إنهم إخوان لنا في الدين يعيشون أوضاعا قاسية، ويذوقون مرارات في أراضٍ منكوبة بشهدائها وأسراها، وأراملها ويتاماها، ثقلت عليهم الحياة، وتوالت عليهم النكبات، واشتدّت عليهم نوائب الدهر من قوى الشرّ الجائرة، في عالم اختلّت فيه الموازين، وانحسرت القيم واضطربت المعايير. عالم يموج بمبادئ وشعارات، ونظم وقوانين زعموا في بلدان الغرب أنّهم يحفظون بها حقوق الإنسان، ويقيمون العدل بين النّاس! والحال أنّ واقع العالم مظالم ومغارم، ومحن وشقاء، وحروب وبأساء. فلا ميزانهم في قضايا الشعوب واحد. ولا مواقفهم وقراراتهم بشأنها عادلة. ألا ساء ما يحكمون! إنّها شريعة المصالح والمغانم، والغايات الّتي تبرّرها الوسائل، مغلّفة بأغلفة رقيقة من مبادئ العدل والحرية، ودعاوى التحضّر والمدنية. هكذا هي الحال حين تكون الموازين أرضية بشرية. ميزان الحقّ والباطل، والخير والشرّ، والصلاح والفساد، يتأرجح عندهم مع المصالح الآنية والأهواء الذاتية، والمنافع المادّية.

إنّ أكبر شاهد على هذه الأوضاع المختلّة ما يعيشه أهلنا في فلسطين، في غزّة الصمود والرباط، منذ أكثر من نصف عام، حيث يشاهد العالم على المباشر مناظر تتفطّر منها القلوب، وتدمع العيون، ويندى لها الجبين، يرى صور الشهداء والجرحى، صور الثكالى واليتامى. يرى آلاف البيوت وقد سُويت بالأرض على أصحابها، والمستشفيات والمساجد، وقد هُدمت على من فيها. يرى الدمار والخراب، يرى ألوانا فظيعة من الجرائم الإنسانية، لم يُعرف لها مثيل في تاريخ البشرية. فكم من يتيم في أرض فلسطين ينشد عطف الأبوّة الحانية؛ ويتلمّس حنان الأمّ الرؤوم. كم من أرملة توالت عليها المحن، فقدت العشير، وتذكّرت بالعيد عزاً قد مضى تحت كنف زوج عطوف. كلّ أولئك وأمثالهم قد استبدلوا بعد العزّ ذلّا، وبعد الرخاء والهناء فاقة وفقرا. وعلى امتداد الحرب المدمّرة، رأى العالم صمود شعب، أعطى أروع الأمثلة في الصبر والتضحية والاستبسال، والتمسّك بالحقوق والدفاع عن الأرض والمقدّسات. إنّنا لفخورون بهذا الشعب الأبيّ الّذي يخوض معارك الكرامة، ويسطّر ملحمة من أعظم الملاحم في التاريخ. ونحن فخورون بمواقف بلادنا المبدئية التاريخية، نصرة للقضية الفلسطينية، وسعيها الحثيث للمّ الشمل وتوحيد الصفّ الفلسطيني، وبذلها غاية الجهد في الهيئة الأممية، من أجل وقف العدوان، ووضع حدّ لحرب الإبادة الجماعية. نحن المسلمين نملك سهام الليل، نملك الدّعاء لربّ الأرض والسماء، نسأل الله تعالى، وهو القاهر فوق عباده، أن يكون لأشقّائنا في فلسطين عونا وظهيرا، ويكون لهم وليّا ونصيرا. ندعوه، جلّت قدرته، أن يربط على قلوبهم، ويثبّت أقدامهم، وينصرهم على عدوّه وعدوّهم، كما نصر الشعب الجزائري، الّذي استمرّ كفاحه قرنا وثلث قرن، وكلّل جهاده بالنصر المبين. إنّه وليّ ذلك والقادر عليه. يمهل الظالم ولا يهمله، ولا يردّ بأسه عن القوم المجرمين.

الله أكبر. عباد الله.

اتقوا الله وراقبوه، واستحضروا عظمة هذا العيد، وتذكّروا بمروره عليكم انقضاء أعماركم، وختم أعمالكم، وانتهاء آثاركم، فتزوّدوا بالتقوى للسفر البعيد؛ وتذكّروا باجتماعكم هذا الاجتماع الأكبر على أرض المحشر:{ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ{103} وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ{104} يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ{105} فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ{106} خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ{107} وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ{108}.

واعلموا، رحمكم الله أنّ رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فرض زكاة الفطر، وأمر بإخراجها قبل صلاة العيد. فمن لم يخرجها فإنّ عليه أن يؤدّيها إلى ما قبل الزوال؛ وتكون بعده قضاء. ولا تسقط بحال. فهي دين لله واجب في رقبة العبد؛ وقد فرضت طُهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين. ألا فليتّجه كلّ واحد منكم لأخيه، يهنّئه ويسلّم عليه. وليكن رباط الأخوّة، يزداد متانة وقوّة. فاغتنموا العيد لتظهروا بمظهر أهل الإيمان والله نسأل أن يجعلنا وإياكم من أهل الفضل والإحسان.

هذا وإنّ خير ما يكون للكلام مسكا وختاما، كلام ربنا نتّخذه قائدا وإماما. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ. بلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} [الأعلى.17]

 

جَامعُ الجزائر مركزٌ دينيّ، عِلميّ، ثقافيّ وسياحِيّ، يقعُ على تراب بلديّة المُحمَّديَّة بولاية الجزائر، وسط خليجها البحريّ. تبلغُ مساحته 300.000 متر مربّع، يضمّ مسجِدا ضخما للصّلاة، يسع لـ 32000 مصلٍ، وتصلُ طاقة استيعابِه إلى 120 ألف مصلٍ عند احتساب صحنه وباحَاته الخارجيّة.
قاعة الصّلاةِ وصحنها الفسـيح، جاءت في النّصوص القانونيّة المُنشِأة للجامع، تحتَ تسميةِ “الفضاء المسجدِيّ”.
ويضُمّ المجمّعُ هياكلَ أخرى ومرافقَ سُمّيت بالهَيئات المدمجة، ووجدت هـذه المرافق لتُساهم في ترسـيخِ قِيم الدّين الإسلاميّ من: قرآن منزّلٍ وسنّةِ مطهّرة على صاحبها أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم، وكذا للحِفاظ على المرجعيّة الدّينيّة الوطنيّة، بما يخدُم مكتسبات الأمّة ويحقّق التّواصل مع الغير.
وجامع الجزائر هـو معلم حضاريّ، بِهندسته الفَريدة، التي زَاوجـت بين عراقة العِمارة الإسلاميّة بطَابعها المغَاربيّ الأندلسيّ، وآخِر ابْتكارات الهندسة والبِناء في العالم، حيث حقّق عدّةَ أرقامٍ قيَاسيةٍ عالميةٍ في البناء.
فمن حيث الأبْعادُ الهنْدسيةُ، يُعدّ الجامع بين المساجد الأكبر والأضْخَم عبر العالم، بل هو ثالث أكبرِ مسجدٍ في العالم بعد الحرَمين الشريفَين بمكة المُكرّمَة والمدينَةِ المنوّرَة، وهو أكبر مساجد أفْريقيا على الإطلاق، فمساحة قاعة صلاته تبلغ 22 ألف متر مربع، وقُطر قبته 50 مترا، وفُرِش بـ 27 ألف متر مربع من السجّاد الفاخر المصنوعِ محليّا، وتزيَّنت الحوافّ العلويّة لجدرانه بـ 6 آلاف متر من الزّخرفة بمختلف خطوط الكتابة العربيّة.