Scroll Top

اليوم الوطني للذاكرة: كلمة السّيد عميد جامع الجزائر في افتتاح ندوة علمية

بسم الله الرحمن الرحيم

بمناسبة اليوم الوطني للذاكرة،

كلمة السيّد عميد جامع الجزائر، محمّد المأمون القاسمي الحسني،

في الندوة العلمية، بعنوان:

“الإسلام في الجزائر: القوّة الرّوحية المحرّرة للوطن، والموحّدة للأمّة”

يوم الثلاثاء 28 شوّال 1445ه، الموافق 06 ماي 2024م

 

حضرات السّادة والسيّدات. أيّها الحضور الكريم، كلّ باسمه ومقامه.

السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. احيّيكم وأرحّب بكم في جامع الجزائر. وباسمكم جميعا أتوجّه بالشكر الجزيل للأخ الفاضل المجاهد السيّد صالح قوجيل، رئيس مجلس الأمّة على تكرّمه بتلبية الدعوة إلى إلقاء محاضرة في هذه الندوة بعنوان: “الإسلام في الجزائر: القوّة الرّوحية المحرّرة للوطن، والموحّدة للأمّة”

إنّنا في هذا اللقاء نحيي اليوم الوطني للذاكرة، ونقف فيه وقفة إجلال وعرفان لشهدائنا الأبرار، ولتضحيات شعبنا الذي ابتلي بشرّ استدمار؛ فتحصّن بركن الإسلام، ولاذ بقلاعه الحصينة؛ وظلّ صامدا مرابطا لم تفتر فيه روح المقاومة والجهاد. لقد عرف من دينه أنّ الجهاد شرع في الإسلام دفعا للعدوان، وتأمينا لعقيدة الإيمان، وحماية لحرية الأوطان، وصيانة لكرامة الإنسان؛ فبذل ما بذل من طاقاته؛ وضحّى بما ضحّى من خيرة أبنائه؛ مضى قدما في ساحات الجهاد، لا يضرّه أن يلقى ما يلقى من الشّدائد والمصاعب؛ وقد أدرك أنّ الشهادة في سبيل الله ليست موتا، ولكنّها حياة.  فالشهداء لا يموتون؛ بل هم أحياء عند ربّهم يرزقون.

فطوبى للشهداء الأبرار، طوبى للمجاهدين الصادقين. هنيئا لهم ما أعدّه الله للمحسنين. وحسبهم شرفا أنّهم باعوا أنفسهم وأموالهم لله، وأنّه سبحانه اشتراها منهم بنعيم مقيم، خير من الدنيا الفانية وما فيها. اشتراها منهم بجنّة عرضها السّموات والأرض أعدّت للمتقين. قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} التوبة111.

أيّها الحضور الكريم

نحسب أنّ هذه الحاضنة، التي نلتقي فيها اليوم قلعة حصينة أخرى، من قلاع الوطنية، وإنجاز كبير من إنجازات الوطن، على طريق الوفاء بعهد الشهداء، وجواب من شهداء المحمّدية لمن دنّس أرضنا الطاهرة بأقدامه ما يزيد على قرن وثلث من الاحتلال. إنّ جامع الجزائر، الّذي هو حصن مرجعيتنا الدينية، هو كذلك رمز للذاكرة الوطنية، بمعماريته المتميّزة التي تقرأ فيها الأجيال الماضي والحاضر والمستقبل. ومن خلال متحف الحضارة الإسلامية، في منارة الجامع، نقرأ الذاكرة الإسلامية والوطنية. لقد تحقّق هذا بفضل الله، ثمّ بحرص السيّد رئيس الجمهورية على إنجاز هذا الصرح الحضاريّ وافتتاحه، وعمارة مؤسّساته.

نلتقي اليوم، في هذه النّدوة، نتحدّث عن الإسلام باعتباره القوّة الروحية المحرّرة للوطن والموحّدة للأمّة. نتحدّث عن الوفاء لرسالة الشهداء وتبليغها إلى الأجيال، ومضمون هذه الرسالة ليس سوى المبادئ والقيم الّتي كافح من أجلها المجاهدون الأحرار، وضحّى في سبيلها الشهداء الأبرار، من عهد الأمير إلى ثورة التحرير.

لقد جاء مشروع نوفمبر متضمّنا لهذه القيم؛ وعبّر عن مبادئ وأهداف، كان أهمّها توضيح هوّية الدولة الجزائرية، بعد استعادة الاستقلال، واعتبار الإسلام الإطار الحضاري والمقوّم الأساسي للهوّية الوطنية؛ حيث نصّ على: “إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية، ذات السيادة، ضمن إطار المبادئ الإسلامية”؛ وتحقيق وحدة شمال إفريقيا، في إطارها الطبيعي العربيّ الإسلامي. فكان ذلك إعلانا صريحا أكّد الانتماء الحضاري للشعب الجزائري الذي اختار هويّته، منذ أربعة عشر قرنا، فلم يبغ عنها حولا، ولن يرضى بغيرها بديلا.

إنّ الجزائر بالإسلام اهتدت، وبه جاهدت وانتصرت. وأمّتنا روحها الإسلام، وقوام حياتها الإسلام، ولا يضمن وحدتها وتلاحمها إلّا الإسلام. لقد تمسّك شعبنا بالإسلام، منذ أن هداه الله إليه. وكما عرف في الإسلام السماحة والكرامة والمساواة والإنسانية؛ وجد فيه العدالة الاجتماعية؛ وهي عدالة إنسانية، تمتزج فيها القيم المادية بالقيم الروحية؛ وليست مجرّد عدالة اقتصادية محدودة؛ بل هي فكر وسلوك وحضارة، تشمل جميع مظاهر الحياة ومقوّماتها، وجوانب النّشاط فيها. فكما يهدف الإسلام إلى العدل في القضاء، يهدف إلى تحقيق العدل الاجتماعي، فيقيم مجتمعا متعاونا متكافلا، تصان فيه حريته وحقوقه، ويضمن له فيه عيشه الكريم.

تلكم بعض القيم الّتي جعلت شعبنا يلوذ بالإسلام، ويعتصم بحبله، ويبقى على الدوام محصّنا بركنه، متماسكا بقوته. وفي ضوء هذه القيم السامية كانت مبادئ المقاومة والجهاد؛ ومن قبس هذه الأنوار استلهم شعبنا عهد الشهداء، الّذي بقي، بمشيئة الله، أمانة يحملها الخلف عن السّلف، على مرّ الزمان، وتعاقب الأجيال.

حضرات السّادة والسيّدات

وما دمنا في هذه الندوة نستعرض صفحات من تاريخ المقاومة، في هذه الأرض المجاهدة، ونحيي ذكرى الشهداء الأبرار، في مظاهرات الثامن مايو عام خمسة وأربعين 1945م، رأيت من المفيد أن أعرض عليكم عناوين لبعض المقالات الّتي كنّا نقرأها في عهد الفتوّة وطلب العلم، وتبعث في نفوسنا الحماسة، وتعزّز فيها حبّ الوطن. كتبها شباب من جيل المجاهد صالح قوجيل، الّذين كانوا يتلقّون العلم في معاقل العلم والتربية والجهاد. ومقالاتهم تنمّ عن روح إسلامية، وحسّ وطنيّ، وقلوب مفعمة بحبّ الوطن، تهفو إلى الجهاد والشهادة في سبيل الله؛ وقد نال بعضهم غايته ومبتغاه.

هي عناوين مقالات نُشرت في أعداد مجلّة “الروح”، خلال شهور: مايو وجوان وجويلية سنة ثمان وأربعين (1948م)؛ ومنها على سبيل المثال:

“.. في الثامن مايو خرجت فرنسا في ثوبها الرسميّ الأسود، وكشفت في هذا اليوم عن حقيقتها، وعرّفت العالم بشنيع جرائمها. فيا ويلك أيّها المستعمر، ولا بدّ من صيدك يوما فاصبر”

” ما كان يوم الثامن مايو يوم حزن وأنين، إنّما كان فاتحة الاستشهاد وبداية التحرير. “

هذا ما كان يحمله شباب الجزائر من جيل المجاهد صالح قوجيل من همّ الوطن السليب. فقد كان يقضّ مضاجعهم أن يروا وطنهم يرزح تحت وطأة الاستدمار البغيض، وكان همّهم شحذ الهمم وتهيئة النفوس لتستعدّ لجهاد كانوا يرونه قريبا. وقد كان هذا الجيل هم الذين فجّروا ثورة التحرير، وانتشروا طلائع أولى للجهاد، من شرق الجزائر من الأوراس الأشمّ، إلى وسطها بجرجرة، وغربها بالونشريس، إلى تلمسان، إلى صحرائنا الشاسعة. والتحق بهم أبناء الوطن الأحرار في ديار المهجر.

حضرات السّادة والسيّدات

إنّ الجزائر التي كانت مثلا يحتذى في الصمود والمقاومة والجهاد، لهي قادرة، بإذن الله، على أن تكون مثلا في تثبيت دعائم استقلالها، وتحقيق ذاتها، والتخلّص من كلّ أنواع التبعيّة لغيرها. وكلّ ذلك من مبادئ نوفمبر، وأهداف الاستقلال؛ ولا سيما ما يتعلّق منها بمقوّمات أمّتنا وثوابتها: عقيدة، ولغة، وثقافة وطنية، وقيما روحية وأخلاقية.

إنّها أمانة الشهداء في اللّاحقين، وإنّها لعهد في رقابنا متين. وكما ينبغي لنا أن نحسن تلقّي الرسالة، ينبغي أن نحسن تبليغ الرسالة. نريد أن يتحقّق التواصل بين جيل الجهاد وجيل الاستقلال، وربط الجيل الجديد بماضيه المجيد،  وتأهيله لحفظ أمانة الاستقلال، وتجنيده نحو أهداف سامية لخدمة دينه ووطنه. وإذكاء الحسّ الوطني في نفسه، وتعزيز الشعور بالانتماء لديه؛ حتى لا يتنكّر لهوّيته وثوابت أمّته، وينقلب خصما لدينه ووطنه.

إنّ أمانة الاستقلال هي الجزائر، بوحدة شعبها ووحدة أرضها. هي الجزائر التي يشعر كلّ مواطن فيها أنّها وطن لجميع أبنائها، يعيشون في أيّ بقعة من أرضها، تتكافأ فيها فرصهم، وتتساوى حقوقهم، على اختلاف جهاتهم وانتماءاتهم، وتعدّد ألسنتهم وتنوّع اختياراتهم، لغة القرآن توحّد فكرهم وخطابهم، ورابطة الإسلام تجمعهم وتؤلّف بينهم. هي الجزائر، بماضيها الحافل بالأمجاد وحاضرها المتطلّع إلى التجديد، وإلى بناء المستقبل على أسس متينة وقواعد صحيحة ترتكز على القيم الروحية والوطنية الّتي كان التحامها سرّ تماسك شعبنا، عبر الأجيال، ولاسيما في أوقات المحن والشدائد في عهد الاحتلال.

تلكم هي رسالة الشهداء إلى الأجيال، وقد كنّا وسنظلّ أوفياء لها، نبلّغها ونذكّر بها؛ لتبقى حيّة في ذاكرة الأمّة، على مدى الأيام، تتفاعل معها، وتعمل لتجسيد أهدافها وبلوغ غاياتها.

هذا، وفي الختام، نرفع أكفّ الضراعة بالدّعاء للبارئ جلّ وعلا، نسأله تعالى أن يحفظ للجزائر وحدتها وأمنها واستقرارها، وأن يجعل يومها خيرا من أمسها، وغدها خيرا من يومها، ويجمع قلوب أبنائها على التقى، ونفوسهم على الهدى، وعزائمهم على الرشد وعلى حبّ الخير وخير العمل. إنّه وليّ ذلك القادر عليه.

والله وليّ الإعانة والتوفيق

والحمد لله ربّ العالمين.

جَامعُ الجزائر مركزٌ دينيّ، عِلميّ، ثقافيّ وسياحِيّ، يقعُ على تراب بلديّة المُحمَّديَّة بولاية الجزائر، وسط خليجها البحريّ. تبلغُ مساحته 300.000 متر مربّع، يضمّ مسجِدا ضخما للصّلاة، يسع لـ 32000 مصلٍ، وتصلُ طاقة استيعابِه إلى 120 ألف مصلٍ عند احتساب صحنه وباحَاته الخارجيّة.
قاعة الصّلاةِ وصحنها الفسـيح، جاءت في النّصوص القانونيّة المُنشِأة للجامع، تحتَ تسميةِ “الفضاء المسجدِيّ”.
ويضُمّ المجمّعُ هياكلَ أخرى ومرافقَ سُمّيت بالهَيئات المدمجة، ووجدت هـذه المرافق لتُساهم في ترسـيخِ قِيم الدّين الإسلاميّ من: قرآن منزّلٍ وسنّةِ مطهّرة على صاحبها أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم، وكذا للحِفاظ على المرجعيّة الدّينيّة الوطنيّة، بما يخدُم مكتسبات الأمّة ويحقّق التّواصل مع الغير.
وجامع الجزائر هـو معلم حضاريّ، بِهندسته الفَريدة، التي زَاوجـت بين عراقة العِمارة الإسلاميّة بطَابعها المغَاربيّ الأندلسيّ، وآخِر ابْتكارات الهندسة والبِناء في العالم، حيث حقّق عدّةَ أرقامٍ قيَاسيةٍ عالميةٍ في البناء.
فمن حيث الأبْعادُ الهنْدسيةُ، يُعدّ الجامع بين المساجد الأكبر والأضْخَم عبر العالم، بل هو ثالث أكبرِ مسجدٍ في العالم بعد الحرَمين الشريفَين بمكة المُكرّمَة والمدينَةِ المنوّرَة، وهو أكبر مساجد أفْريقيا على الإطلاق، فمساحة قاعة صلاته تبلغ 22 ألف متر مربع، وقُطر قبته 50 مترا، وفُرِش بـ 27 ألف متر مربع من السجّاد الفاخر المصنوعِ محليّا، وتزيَّنت الحوافّ العلويّة لجدرانه بـ 6 آلاف متر من الزّخرفة بمختلف خطوط الكتابة العربيّة.