Scroll Top

خطبة الجمعة: اغتنام الوقت

الخطبة الأولى

الحمدُ للّهِ الواحِدِ القَهَّارِ، العزيزِ الغَفَّارِ، مُكَوِّرِ اللّيلِ على النّهارِ، لا الشّمسُ ينبغي لها أن تدرِكَ القمرَ ولا اللّيلُ سابقُ النّهارِ، وأشهَدُ أن لا إله إلّا اللّهُ المتفرّدُ بالبقَاءِ، قَضَى على كُلِّ شيءٍ بالفَنَاءِ، كلُّ مَنْ عليها فَانٍ، ويبقى وجهُ ربِّك ذُو الجَلَالِ والإكرَامِ، سبحانَهُ له العِزُّ والكبريَاءُ، وأشهَدُ أنّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، وصفيُّهُ من خلقِهِ وخليلُهُ، اصطفَاهُ ربُّهُ لتبيلِغ رسالَةِ السَّمَاءِ، فَأَدَّى الأمانَةَ حَقَّ الأَدَاءِ، وبلّغَ أُمّتَهُ ما أوحى به ربُّهُ إليه من إقامَةِ الشَّعَائرِ وعمارَةِ الأرضِ بالخيرِ، فَحَثَّهَا على اغتنَامِ الأوقَاتِ قبل انقضَاءِ الآجَالِ، وفَوَاتِ الآمَالِ، والحسرَةِ الكُبْرَى يومَ اللِّقَاءِ.

صلّ اللّهمّ وسلّم وبارك على المبعوثِ رحمَةً للعالمين، ما دَامَت الأرضُ والسّمَاءُ، ألا واتّقوا اللّهَ عبادَ اللّهِ، وراقبوه في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر: 18]، ألا وإنّ أَصدَقَ الحديثِ كتَابُ اللّهِ تعالى، وخيرَ الهُدَى هُدَى محمَّدٍ عليه الصّلاةُ والسّلامُ، وشَرَّ الأمُورِ محدثَاتُهَا، وكُلَّ بدعَةٍ ضلالَةٌ.

أمّا بعد: فقد قال اللّه تعالى في محكَمِ البَيَانِ: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان: 62].

عبادَ اللّه: إنّ سنَّةَ اللّهِ الجاريَةَ في كونِهِ اقتضت مرورَ الأعوَامِ، وتعاقُبَ اللّيالِي والأيَّامِ، تَبَعًا لحركَةِ الأفلَاكِ والأقمَارِ، سُنَّةُ اللّهِ في خلقِهِ، وحكمتُهُ في أمرِهِ، وتدبيرُهُ في كونِهِ، فإذا تَأَمَّلتَ كرورَ الأدهَارِ، وتَعَاقُبَ اللّيلِ والنَّهَارِ، ورأيتَ الثّواني تَجرُّ الأَيَّامَ، والأَيَّامَ تَجرُّ الأعوَامَ، والنَّاسُ يذهبون بين ذلك أفوَاجًا ويمرُّونَ فُرَادَى وأزوَاجًا، ورأيتَ حركَةَ طلوعِ الشّمسِ من المشرِقِ، وغيبتها في المغرِبِ، وما يتخلَّلُهَا من حركَاتِ دَقَائِقِ الكونِ ما يمثِّلُ دبيبَ عَوَامِلِ الفَنَاءِ التي تَرُدُّ كُلَّ منظورٍ إلى عَالَمِ الهبَاءِ، أيقنتَ بأنّ لكُلِّ أَجَلٍ كتَابًا، ولكُلِّ بدايَةٍ نهايَةً.

أيّها المؤمنون: لقد وَدَّعنَا بالأمسِ القريبِ عَامًا هجرِيًّا، واستقبَلْنَا حَوْلًا قمرِيًّا جديدًا، وإن انقضَاءَ السَّاعَاتِ والأيَّامِ والشّهورِ والأعوامِ، لمؤشِّرٌ إلى حقيقَةٍ دينيَّةٍ ينبغي الوقوف عليها مَلِيًّا، وهي قيمَةُ الزَّمَنِ وقدرُهُ من المنظُورِ الشّرعيِّ، ووجوبُ اغتنامِهِ فيما يرضِي الله سبحانه وتعالى، لأنّ الوقتَ نعمَةٌ ربّانيَّةٌ سنحاسَبُ عليها يومَ القيامَةِ حسابًا عسيرًا، كما ورد في الأثَرِ الصّحيحِ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ:» ومنها: «عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ»، فاغتنم ــ أيّها المسلم ــ وَقْتَكَ في الأصْلَحِ والأنْفَعِ.

أمّةَ الإسلام: إنّ الحديثَ عن قيمَةِ الزَّمَنِ إنّما هو حديثٌ عن مسألَةٍ أصيلَةٍ في الدِّينِ؛ لا تحتَاجُ إلى إقامَةِ برهَانٍ على صِحَّتِهَا، لوضوحِ معناها، ولا بأسَ أن نُذَكِّرَ بنزرٍ يسيرٍ ممّا ورد به الكتَابُ الحكيمُ، والهَدْيُ النّبويِّ القويمِ، وأقوالِ العارفينِ.

لقد جاء القَسَمُ في القرآن بأجزاء اليوم صريحًا، فأقسم الله تعالى بالعصر والفجر والضّحى واللّيل والنّهار، بل وأنزل الله سورة سمّاها سورة العصر، حيث صدّرت بقوله تعالى: ﴿وَالعَصْرِ﴾، وهو الدّهر والزّمن على أشهر الأقوال، ومعلومٌ أنّ العظيم لا يُقسم إلّا بعظيم، قال الإمام الشّافعي توكيدًا لعظمتها: «لَو مَا أَنْزَلَ اللَّهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إِلَّا هَذِهِ السُّورَة لَكَفَتْهُمْ»، ووجه الدّلالة من السّورة أنّ الزّمن هو وعاء أعمال بني آدم من خيرٍ أو شرٍّ، فجاء القسم به ــ أي الزّمن ــ على أنّ كلَّ النّاس في خسرٍ ووبالٍ؛ إلّا من شغل وقته بالطّاعة فاتّصف بأربعِ صفاتٍ: آمَنَ؛ وعَمِلَ صَالحًا؛ وتَوَاصَى بالحَقِّ؛ وتواصى بالصّبرِ.

وأمّا ما وَرَدَ في سُنَّةِ المصطفى عليه الصّلاةُ والسّلامُ فأكثَرُ من أن يُحْصَى، من ذلك ما رواه أبو هريرةَ رضي اللّه عنه أنّ رسولَ اللّهِ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ رَبَّهُمْ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا كَانَ تِرَةً عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُمُ اللَّهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُمْ»، ووجهُ الدّلالَةِ من الحديثِ أنّ الزَّمَنَ الذي لم يُشْغَلْ بالطّاعَةِ؛ سيكون حسرَةً وترَةً على أصحابِهِ يومَ القيامَةِ.

وأمّا ما وَرَدَ عن سَلَفِ هذه الأمَّةِ في شأنِ تعظيمِ الأوقَاتِ، فلا تسعُهُ أسفَارٌ ولا مجلَّدَاتٌ، من ذلك ما رواه حكيمُ هذه الأمَّةِ سيِّدُنَا الحَسَنُ البصريُّ قَدَّسَ اللّهُ سرَّهُ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يَنشَقُّ فَجْرُهُ إِلَّا وَيُنَادِى: يَا ابْنَ آدَمَ، أَنَا خَلْقٌ جَدِيدٌ، وَعَلَى عَمَلِكَ شَهِيدٌ، فَتَزَوَّدْ مِنِّي، فَإِنِّي إِذَا مَضَيْتُ، لَا أَعُودُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»، وقال عبدُ اللّهِ بنُ مسعودٍ رضي اللّه عنه: «مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ نَدَمِي عَلَى يَوْمٍ، غَرَبتْ شَمْسُهُ، نَقُصَ فِيهِ أَجَلِي، وَلَمْ يَزِدْ فِيهِ عَمَلِي».

أمّةَ الإيمان: إنّ اللّهَ تعالى قد أَنْعَمَ على المغبُونِ في وقتِهِ بنعمَةِ الوقتِ؛ ليغتنمَهُ في مرضَاةِ اللّهِ، فضيَّعَهُ في مَسَاخِطِ اللّهِ، فكان مغبُونًا محسُورًا، كما قال عليه الصّلاةُ والسّلامُ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ»، شَغَلَ أوقاتَهُ بالذّنوبِ، وأَمْعَنَ في عصيَانِ عَلَّامِ الغُيُّوبِ، أَكْثَرَ الكَلَامَ فيما لا يعنِيهِ، وجَمَعَ المالَ الّذي يُطْغِيهِ، أَطلَقَ العنانَ للسانِهِ للوقوعِ في أعراضِ النّاسِ ــ نميمة وغيبة ــ، فما أبعده عن الأكيَاسِ، ضَيَّعَ الصّلاةَ والصّيامَ، ومنع حقوقَ الفقرَاءِ والأيتَامِ، أَسرَفَ على نفسِهِ بالعصيَانِ، وهَجَرَ الذّكرَ والقرآنَ، أَكَلَ أموالَ النَّاسِ بالبَاطِلِ، ويرجو أن يوفيه اللّهُ الأجْرَ الكَامِلَ، أَحَلَّ لنفسِهِ الرّشوَةَ والرِّبَا، ثمّ يطمَع في عفوِ اللّهِ والرَّجَا.

أخَا الإيمان: ها قد وَقَفتَ على قيمَةِ الوقتِ وشرفِهِ، وعلمتَ يقينًا أنّ اللّهَ تعالى سائِلُكَ عنه يومَ القيامَةِ سؤَالًا عسيرًا، فهل عزمتَ أمرَكَ على أن تغتَنِمَ هذه النّعمَةَ فيما يقرّبُكَ من رَبِّكَ، وينفعُكَ في دنياكَ ودِينِكَ.

اشْغَلْ ــ أيّها المسلم ــ وقتَكَ في عَمَل صَالحٍ، من إقامَةِ صَلَاةٍ، أو تَلَاوَةِ قرآنٍ، أو زيارَةِ مريضٍ، أو اتباعِ جنازَةٍ، أو تدريسِ علمٍ، أو مدارسةِ كتابٍ، أو إعانةِ ملهوفٍ، أو إرشادِ ضالٍ، أو أمرٍ بمعروفٍ، أو نهيٍ عن منكَرٍ، أو كَفْكَفَةِ دمعَةِ محزونٍ، أو كفالَةِ يتيمٍ، أو رفعِ ظلمٍ، أو صِلةِ رحِمٍ، وقائمَةُ أعمَالِ البرِّ غير منتهيَةٍ، ومن أبرَزِ ما يُحْرَصُ عليه في هذه الإجازَةِ الصّيفيَّةِ الإقبَالُ على حلقَاتِ تحفيظِ القرآنِ في المَسَاجِدِ والمَدَارِسِ والنَّوَادِي والمخيّماتِ، واحذر أن تكونَ في زمرَةِ البَطَّالِينَ، وهم الذين ضَيَّعوا أوقاتهم، وأنفقُوهَا في غيرِ نَفْعٍ.

ولنتذاكَرْ في هذا السّيَاقِ سيرَةَ عظمائِنَا الكرَامِ، الذين ضربوا أروعَ الأمثلَةِ في شُغْلِ أوقاتِهِمْ بالأعمَالِ الصالحَةِ، فقد روى مسلمٌ عن سيِّدِنَا أبي هريرةَ رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ».

وإنّ ممّا ينغي التّنْبِيهُ إليه في هذا المقَامِ العظيمِ تنبيهًا كبيرًا، هو وَاجِبُ الوقتِ، والمرَادُ به: «إيقَاع العَمَلِ الصّالِحِ في وقتِهِ المناسِبِ له، وعَدَمُ إرجائِهِ»، وفي هذا السّيَاقِ تأتي وصيَّةُ أبي بكرٍ رضي اللّه عنه لعمرَ بنِ الخطّابِ رضي اللّه عنه لمّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، حيث قال له: “اتِّقِ اللَّهَ يَا عُمَر، وَاعلَمْ أَنَّ للّهِ عَمَلًا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ، وَعَمَلًا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ».

ويقول ابنُ القّيّمِ ــ رحمَهُ اللّهُ ــ في هذا الصَّدَدِ: «إنّ أفضَلَ العبادَةِ العمَلُ على مرضَاةِ الرَّبِّ في كُلِّ وقتٍ بما هو مُقْتَضَى ذلك الوقت ووظيفَتُهُ، فأفضَلُ العبادَاتِ في وقتِ الجِهَادِ الجِهَادُ، وإن آلَ إلى تَرْكِ الأورَادِ من صَلَاةِ اللّيلِ وصيامِ النّهارِ، بل ومن تَرْكِ إتمَامِ صَلَاةِ الفرضِ كما في حالَةِ الأَمْنِ، والأفضَلُ في وقتِ حُضُورِ الضّيفِ مثلًا القيَامُ بحقِّهِ، والاشتغَالُ به عنِ الوِرْدِ المستحَبِّ، وكذلك في أَدَاءِ حَقِّ الزّوجَةِ والأهْلِ، والأفضَلُ في أوقَاتِ السَّحَرِ الاشتغَالُ بالصّلَاةِ والقرآنِ والدّعَاءِ والذّكرِ والاستغفَارِ، والأفضَلُ في وقتِ استرشَادِ الطّالِبِ وتعليمِ الجَاهِلِ الإقبَالُ على تعليمِهِ والاشتغَالُ به… والأفضَلُ في أوقَاتِ ضرورَةِ المحتَاجِ إلى المساعَدَةِ بالجَاهِ أو البَدَنِ أو المَالِ، الاشتغَالُ بمساعَدَتِهِ، وإغاثَةُ لَهْفَتِهِ، وإيثَارُ ذلك على أورادِكَ وخَلْوَتِكَ…، والأفضَلُ في وقتِ نزولِ النّوازِلِ وأَذَاةِ النّاسِ لك، أَدَاءُ واجِبِ الصّبرِ مع خلطتِكَ بهم، دون الهَرَبِ منهم، فإنّ المؤمِنَ الذي يخالِطُ النّاسَ ليصبِرَ على أذاهم أفضَلُ من الذي لا يخالِطُهُمْ ولا يؤذونَهُ،.. فالأفضَلُ في كُلِّ وقتٍ وَحَالٍ إيثَارُ مرضَاةِ اللّهِ في ذلك الوقتِ والحَالِ، بواجِبِ ذلك الوقتِ ووظيفتِهِ ومقتضَاهُ».

أيّها المؤمنون الصّادقون: إنّ من عظيمِ تأديبِ القرآنِ الكريمِ لأهلِهِ، أن يأمرَهم بمتابعَةِ الأعمَالِ، وعَدَمِ قطعِهَا بالشَّوَاغِلِ والعَوَائِقِ، فقال عَزَّ من قَائِل: ﴿فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ [الشرح: 7 ــ 8].

قال المفسّرون: «أي إذا فرغتَ من أمورِ الدّنيَا وأشغالِهَا، وقطعتَ علائِقَهَا فانصَب إلى العبادَةِ».

ثمّ تَذَكَّروا ــ عبادَ اللّه ــ وصيَّةَ رسولِ اللّهِ عليه الصّلاةُ والسّلامُ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ».

واحرصُوا ــ رحمكُمْ اللّهُ ــ على أوقاتِكُمْ، واعمرُوهَا بما فيه نفعُكُمْ، ولا تضيّعُوهَا سُدًى، فتكونَ حسرَةً عليكم، وللّهِ دَرُّ القَائِلِ:

دَقَّاتُ قَلْبِ المَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ … إنَّ الحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوَانِي

فَارْفَعْ لِنَفْسِكَ بَعدْ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا … فَالذِّكْرُ لِلإِنْسَانِ عُمْرٌ ثَانِي

أقول ما تسمعون، وأستغفِرُ اللّهَ الحليمَ العظيمَ لي ولكم، ويا فوزَ المستغفرين، أستغفِرُ اللّهَ.

الخطبة الثانية

الحمدُ للّهِ وكَفَى، والصّلاةُ والسّلامُ على النّبيِّ المُصْطَفَى، ومن بآثَارِهِ اقْتَفَى، وبعهْدِ اللّهِ وَفَّى، وسَلَامٌ على عبادِهِ الّذين اصْطَفَى.

وبعد:

لقد تَابَعَ العَالَمُ بأسرِهِ ما جرى في حفلِ افتتاحِ الألعَابِ الأولمبيَّةِ من إساءَة إلى السَّيِّدِ المسيحِ عليه السّلامُ، وحواريّـيه عليهم الرّضوَانُ؛ ولعمري إنّ هذا الفعلَ الآثِمَ قد مَسَّ بمشاعِرِ الملايين من المسلمين في شَتَّى بقاعِ المعمورَةِ، ويُعَدّ تعدِّيًا صَارِخًا على كُلِّ القِيَمِ الإنسانيَّةِ، ودعوَةً صريحَةً إلى الكراهِيَّةِ، وتقويضًا للسِّلْمِ العالمِيِّ.

فنحن المسلمين نؤمِنُ بالسّيِّدِ المسيحِ، عليه السّلَامُ، عبدًا للّهِ، ونبيًّا ورسولًا من أولي العزْمِ، وبجميعِ الأنبيَاءِ والمرسلين عليهم السّلامُ؛ ولا نُفَرِّقُ بين أَحَدٍ منهم؛ كما نؤمِنُ بخاتمِ النبوَّاتِ والرّسالَاتِ، سيِّدِنَا محمَّدٍ، عليه أفضَلُ الصّلاةِ والتّسليمِ، وكُلُّهُم بُعثُوا لهدايَةِ البَشَرِ بدينِ الفطرَةِ السّليمَةِ، والقِيَمِ الأخلاقيَّةِ النّبيلَةِ.

نحن نُوَقِّرُ الحواريّـيـن الّذين كانوا أنصَارًا للسَيِّدِ المسيحِ، كما ورد ذِكْرُهُمْ في القرآنِ الكريمِ، في قولِهِ تعالى: ﴿كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ [: ]؛ ونعتبرُهُمْ كصحابَةِ رسولِ اللّهِ، الّذين آوَوْهُ ونصرُوهُ واتَّبَعُوا النُّورَ الّذي جاء به، عليه الصّلاةُ والسّلامُ.

وكما نستنكِرُ الإساءَةَ لمقدّسَاتِ المسلمين، مثلما حَدَثَ في حَفْلِ افتتاحِ الألعَابِ الأولمبيَّةِ الأخيرَةِ، فإنّنا نستنكِرُ بشدَّةٍ مع كُلِّ العَالَمِ الحُرِّ الجَرَائِمَ الشّنيعَةَ التي يرتكبُهَا الكيانُ الصّهيونِيُّ الغَاشِمُ في أرضِ غَزَّةَ العِزَّةِ، وفي كُلِّ ربوعِ فلسطينَ، من إبادَةٍ جماعيَّةٍ، وتقتيلٍ وحشيٍّ؛ وحصَارٍ ظالمٍ، وتجويعٍ لأمَّةٍ بأسرِهَا، قد فَاقَتْ مُدَّتُهُ الثلاثمائة يومٍ، وممارسَةِ أبشَعِ صوَرِ التّنكيلِ والتّعذيبِ على أزيد من عشرَةِ آلَافِ أسيرٍ فلسطينِيٍّ، ولم يقف الحَدُّ عند هذا الإجرَامِ، وإذ بآلَةِ القتلِ الهمجيَّةِ تعتدي على حَرَمِ بعضِ البلدَانِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ، اعتدَاءً مفضوحًا صَارخًا؛ متحدّيَةً بذلك كُلَّ العَالَمِ، لتزهِقَ أرواحَ ضيوفٍ آمنين بغيرِ وجهِ حَقٍّ، ويرتقي ضَحَايَاهَا شهَدَاء بإذنِ اللّهِ تعالى، عند مليكٍ مقتدرٍ، فهل من إفاقَة لأمَّةِ الإسلَامِ من غفوتِهَا؟ وهل من انتفاضَة للعَالَمِ الحرِّ؟ وهل تَعَيَّنَ الآن على أمَّتِنَا واجِب الوقتِ الذي يحرّرنَا من خوفِنَا، ويطلقنَا من قيودِنَا، ويعيد لنا مجدَنَا؟

أمّةَ العمل والمراقبة: لنحاسِبْ أنفسَنَا قبل أن نُحَاسَبَ، ولنَزِنْ أعمالَنَا قبل أن تُوزَنَ علينا، ولنجدِّدْ العَهدَ الصّادقَ والوَعْدَ الآكدَ مع اللّهِ لبَدءِ صفحَةٍ جديدَةٍ بيضَاءَ ناصعَةٍ، ولنستعِدَّ للقَاءِ اللّهِ بصالِحِ الأعمَالِ قبل أن نُفَاجَأَ بانقضَاءِ الآجالِ، إذ الأعمالُ سَتُعْرَضُ على بَارِئِنَا في صَحَائِفَ لا تَدَع كبيرَة ولا صغيرَة إلا أحصتهَا في صَحَائِفَ اليمينِ أو في صَحَائِفَ الشِّمَالِ، قال تعالى: ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا مَالِ هذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: 49].

عبادَ اللّه، إنّي داع فَأَمِّنُوا

اللّهمّ لا تَدَعْ لنا في هذا المَقَامِ ذنبًا إلّا غفرتَهُ، ولا هَمًّا إلّا فرّجتَهُ، ولا دَيْنًا إلّا قضيتَهُ، ولا مريضًا إلّا شفيتَهُ، ولا عَدَوًّا إلّا خذلتَهُ وقصمتَهُ.

اللّهمّ انصر من نَصَرَ الدّينَ، واخْذُلْ من خَذَلَ المسلمين.

اللّهمّ خُذْ بيدِ إخوانِنَا الفلسطينيين إلى البِرِّ والتّقوى، اللّهمّ أطعِمْ جائعَهُمْ، واسْتُرْ عارِيَهُمْ، وأَمِّنْ خائِفَهُمْ، وتقبَّلْ شهِيدَهُمْ، وانصرْهُمْ على عدوِّكَ وعدوِّهِمْ نَصْرًا مؤزَّرًا.

اللّهمّ تقبَّلْ شهداءَ العدوَانِ الصّهيونِيِّ، كما تتقبَّلُ عبادَكَ الصّالحين، اللّهمّ احشرهم في زمرةِ النّبيّين والصّدّيقين، وأنزِل السّكينة على قلوبِ أهلِيهِم، وأقرَّ أعيننا بتحريرِ المسجِدِ الأقصى عاجِلا غير آجِل يا ربّ العالمين.

اللّهمّ إنّا نسألُكَ الإصلَاحَ في الوَلَدِ، والعَافِيَةَ في الجَسَدِ، والأَمْنَ في البَلَدِ.

اللّهمّ احفَظْ حَاكِمَ البِلَادِ بحفظِكَ، واكْلَأْهُ بكلَاءَتِكَ، وأيِّدْهُ بتأييدِكَ، وارزقُهُ بِطَانَةَ الخيرِ الّتي تأخُذُ بناصيتِهِ للبِرِّ والتّقوى.

ربّنا آتنَا في الدّنيا حَسَنَةً، وفي الآخرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عذابَ النَّارِ، وأدخلنَا الجَنَّةَ مع الأبرَارِ.

وسبحانَكَ اللّهمّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إلهَ إلّا أنت، أستغفِرُكَ، وأتوبُ إليك.

وأقم الصّلاة.

للتصفح والتحميل:

جَامعُ الجزائر مركزٌ دينيّ، عِلميّ، ثقافيّ وسياحِيّ، يقعُ على تراب بلديّة المُحمَّديَّة بولاية الجزائر، وسط خليجها البحريّ. تبلغُ مساحته 300.000 متر مربّع، يضمّ مسجِدا ضخما للصّلاة، يسع لـ 32000 مصلٍ، وتصلُ طاقة استيعابِه إلى 120 ألف مصلٍ عند احتساب صحنه وباحَاته الخارجيّة.
قاعة الصّلاةِ وصحنها الفسـيح، جاءت في النّصوص القانونيّة المُنشِأة للجامع، تحتَ تسميةِ “الفضاء المسجدِيّ”.
ويضُمّ المجمّعُ هياكلَ أخرى ومرافقَ سُمّيت بالهَيئات المدمجة، ووجدت هـذه المرافق لتُساهم في ترسـيخِ قِيم الدّين الإسلاميّ من: قرآن منزّلٍ وسنّةِ مطهّرة على صاحبها أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم، وكذا للحِفاظ على المرجعيّة الدّينيّة الوطنيّة، بما يخدُم مكتسبات الأمّة ويحقّق التّواصل مع الغير.
وجامع الجزائر هـو معلم حضاريّ، بِهندسته الفَريدة، التي زَاوجـت بين عراقة العِمارة الإسلاميّة بطَابعها المغَاربيّ الأندلسيّ، وآخِر ابْتكارات الهندسة والبِناء في العالم، حيث حقّق عدّةَ أرقامٍ قيَاسيةٍ عالميةٍ في البناء.
فمن حيث الأبْعادُ الهنْدسيةُ، يُعدّ الجامع بين المساجد الأكبر والأضْخَم عبر العالم، بل هو ثالث أكبرِ مسجدٍ في العالم بعد الحرَمين الشريفَين بمكة المُكرّمَة والمدينَةِ المنوّرَة، وهو أكبر مساجد أفْريقيا على الإطلاق، فمساحة قاعة صلاته تبلغ 22 ألف متر مربع، وقُطر قبته 50 مترا، وفُرِش بـ 27 ألف متر مربع من السجّاد الفاخر المصنوعِ محليّا، وتزيَّنت الحوافّ العلويّة لجدرانه بـ 6 آلاف متر من الزّخرفة بمختلف خطوط الكتابة العربيّة.